العبادة واستقامة الشخصية

 

قال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴿١٩﴾ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ﴿٢٠﴾ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴿٢١﴾ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴿٢٢﴾ الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ[1].

فطر الله تعالى الإنسان على دفع الشَّر والخطر عن نفسه، وكسب الخير والمنفعة لها. فتلك غريزة فطرية بها يسعى الإنسان لحماية ذاته والارتقاء بواقع حياته.

لكنّ تلك الغريزة غالبًا ما تتضخم وتتورم في نفس الإنسان فيفقد توازنه، حيث يصاب بحالة من الهلع، في التعامل مع ما يواجهه من شرٍّ أو يناله من خير.

ولأنّها الحالة الغالبة على بني البشر، فقد عبّر عنها القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، أي خلق بطبيعة تؤدي به إلى الهلع إن لم يتحصّن تجاهها.

فقد التوازن

والهلع شدّة الخوف والحرص، فالهلوع يبالغ في خوفه من أي سوء يصيبه، وهذا الخوف المفرط يؤثر على توازنه النفسي، ويفقده الاستقرار والطمأنينة، وهو ما يعبّر عنه القرآن الكريم بقوله: ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، كما أنّ الهلوع شديد الحرص على ما ينال من مكاسب، فلا يعطي للآخرين بل يبخل بما لديه، ويمنع استفادة الآخرين منه، ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا.

وهنا يحتاج الإنسان إلى ترشيد نوازعه الداخلية، ليتعامل مع التحدّيات بثقة وثبات، ومن دون هلع وجزع، وليتصرف مع المنافع والمكاسب التي يحوزها، بروحية العطاء والبذل. فكيف يتحقق هذا التوازن النفسي للإنسان؟

العبادة وتحقيق التوازن

إنّ التواصل مع الله سبحانه وتعالى، واستحضار قدرته ورحمته، والثقة بلطفه وفضله هو الذي يخلق هذا التوازن في نفس الإنسان، والاستقامة في سلوكه.

لذلك يستثني الله تعالى المصلين من حالة الهلع ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴿٢٢﴾ الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ[2].

إنّ الصلاة وسائر البرامج العبادية تشكّل حالة انفتاح وتواصل بين الإنسان وربه، تلهم نفس الإنسان الاطمئنان والثقة في مواجهة التحدّيات، وتحفّزه للبذل والعطاء للآخرين.

شرط الوعي والإخلاص

لكنّ ذلك لا يتحقق إلّا من خلال العبادة التي تؤدّى بوعي وإخلاص، وليس العبادة الشكلية الطقوسية، التي لا تغيّر في نفس الإنسان ولا تؤثر في سلوكه.

إنّ الصلاة التي لا تحصّن سلوك الإنسان من الانحراف تفقد المعنى الذي شرّعت لأجله، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ[3].

والصلاة التي تؤدّى دون تركيز وحضور ذهني، ودون إخلاص لله، والتي لا تدفع صاحبها للعطاء ليست صلاة حقيقية ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ﴿٤﴾ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴿٥﴾ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ﴿٦﴾ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ[4]

ورد عن الإمام جعفر الصادق : "لاَ تَغْتَرُّوا بِصَلاَتِهِمْ وَلاَ بِصِيَامِهِمْ فَإِنَّ اَلرَّجُلَ رُبَّمَا لَهِجَ بِالصَّلاَةِ وَ اَلصَّوْمِ حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ اِسْتَوْحَشَ وَلَكِنِ اِخْتَبِرُوهُمْ عِنْدَ صِدْقِ اَلْحَدِيثِ وَأَدَاءِ اَلْأَمَانَةِ"[5].

زين العابدين

وحين نقرأ حياة الإمام زين العابدين ، وما اشتهر به من الإقبال على العبادة بألوانها المختلفة، فإنّ علينا أن نتأمل الوجه الآخر والترجمة الصادقة لهذه العبادة في شخصية الإمام وسلوكه.

في الخامس من شهر شعبان سنة ثمانية وثلاثين للهجرة، كانت ولادة الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الذي اشتهر باسم زين العابدين.

حيث تحدّث معاصروه، ونقل المؤرخون عنهم اهتمامه المميز بالعبادة. حتى تواتر النقل أنه كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وإذا لم تكن بالفعل ألف ركعة فهي تعبير عن كثرة صلاته.

قال الإمام مالك بن أنس: بلغني أنه - يعني زين العابدين - كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة إلى أن مات، وقال: وكان يسمّى زين العابدين لعبادته[6].

كما ورد أنه حج خمسًا وعشرين حجة راجلاً[7].

وورد أنه حينما يلبّي عند الإحرام يتفاعل مع التلبية وربما سقط مغشيًا عليه[8].

وكان يستشعر الرهبة عند الوضوء، وعند الصلاة خشوعًا لله، واستحضارًا لقدرته وعظمته، حتى يظهر أثر ذلك على وجهه، وترتعد فرائصه، وحين يسأل عمّا يعتريه، يجيب: وَيْحَكُمْ أَتَدْرُونَ إِلَى مَنْ أَقُومُ؟ وَمَنْ أُرِيدُ أُنَاجِي؟"[9].

إما اجتهاده في الدعاء والمناجاة، فيكفي الاطلاع على تراثه الخالد (الصحيفة السجادية) لنرى كيف كان يناجي الله عن عمق معرفة بالله، واستحضار لعظمته وقدرته.

وقد نقل عدد من خيار معاصريه ما شاهدوه من استغراق في مناجاة الله سبحانه وتعالى، كطاووس الذي روى مناجاة الإمام في فناء البيت الحرام.

الترجمة الصادقة للعبادة

أما عن الترجمة السلوكية لعبادة الإمام زين العابدين فنكتفي بالنماذج التالية:

عن الإمام الباقر "أَنَّ أَبَاهُ قَاسَمَ اللهَ -تَعَالَى- مَالَهُ مَرَّتَيْنِ"[10].

وكان مهتمًّا بتحرير العبيد ففي كلّ سنة يعتق كلّ مماليكه[11].

وروى الذهبي في سير أعلام النبلاء: أَنَّ عَلِيَّ بنَ الحُسَيْنِ كَانَ يَحْمِلُ الخُبْزَ بِاللَّيْلِ عَلَى ظَهْرِهِ، يَتْبَعُ بِهِ المَسَاكِيْنَ فِي الظُّلْمَةِ، وَيَقُوْلُ: إِنَّ الصَّدَقَةَ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ[12].

وقال محمد بن إسحاق: كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم؟ فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كان يؤتون به بالليل[13].

وكان يعول أهل مئة بيت في المدينة[14].

وقال الأنصار: ما فقدنا صدقة السِّر حتى مات علي بن الحسين[15].

وعن عمرو بن ثابت، قال: لما مات علي بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سواد بظهره فقالوا ما هذا، فقيل كان يحمل جرب الدقيق ليلاً على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة[16].

وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان علي بن الحسين إذا أتاه السائل رحب به، وقال: مرحبًا بمن يحمل زادي إلى الآخرة[17].

وروى ابن سعد في الطبقات الكبرى، عن هشام بن عروة قال: كَانَ عَلِيُّ بنُ الحُسَيْنِ يَخْرُجُ عَلَى رَاحِلَتِه إِلَى مَكَّةَ وَيَرْجِعُ لاَ يَقْرَعُهَا[18].

وعن إبراهيم بن علي عن أبيه قال‌ حججت مع علىّ بن الحسين (عليهما السلام) فتلكأت ناقته فأشار إليها بالقضيب ثم ردّ يده وقال: آهٍ من القصاص[19].

كان هشام بن إسماعيل يؤذي على بن الحسين وأهل بيته يخطب بذلك على المنبر، وينال من على ، فلما ولي الوليد بن عبد الملك عزله، وأمر به أن يوقف للناس. وكان يقول: لا والله ما كان أحد من الناس أهمّ إليَّ من على بن الحسين، كنت أقول: رجل صالح يسمع قوله، فوقف للناس قال: فجمع علي بن حسين ولده وحامته، ونهاهم عن التعرّض له، قال: وغدا علي بن حسين مارًّا لحاجة، فما عرض له، فناداه هشام بن إسماعيل: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ‌ رسالاته[20].

قال الذهبي: وَكَانَ لَهُ جَلاَلَةٌ عجِيْبَةٌ، وَحُقَّ لَهُ -وَاللهِ- ذَلِكَ، فَقَدْ كَانَ أَهْلاً لِلإِمَامَةِ العُظْمَى؛ لِشَرَفِهِ، وَسُؤْدَدِهِ، وَعِلْمِهِ، وَتَأَلُّهِهِ، وَكَمَالِ عَقْلِهِ[21].

الرسالة في سيرة الإمام

إنّ هذه السيرة المشرقة لزين العابدين يجب أن تحفّزنا للاهتمام أكثر ببرامج العبادة لله تعالى لتكون صلتنا به أوثق، فنستلهم منه تعالى الثقة والاطمئنان لمواجهة تحدّيات الحياة، وننمّي في نفوسنا روح العطاء والبذل، لنكون ممن استثنتهم الآيات الكريمة، ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴿١٩﴾ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ﴿٢٠﴾ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴿٢١﴾ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴿٢٢﴾ الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ[22].

وعلينا أن نتلمّس آثار العبادة في سلوكنا، وحين تضعف تلك الآثار ذلك يعني وجود خلل في وعينا بالعبادة، ومستوى الإخلاص لله، والتفاعل مع معطيات العبادة.

للمشاهدة:

https://www.youtube.com/watch?v=9T6cXNjsAc8

للاستماع:

https://www.saffar.me/index.php?act=av&action=view&id=1459

خطبة الجمعة 6 شعبان 1442هـ الموافق 19 مارس 2021م.
[1] سورة المعارج، الآيات: 19-23.
[2] سورة المعارج، الآيات: 19-23.
[3] سورة العنكبوت، الآية: 45.
[4] سورة الماعون، الآيات: 4-7.
[5] الكافي، ج2، ص104.
[6] الذهبي: تذكره الحفاظ طبقات الحفاظ، ج1، ص60.
[7] ابن عبدربه: العقد الفريد، ج3، ص115.
[8] راجع تهذيب التهذيب للعسقلاني، ج7، ص306.
[9] بحار الأنوار، ج46، ص78.
[10] الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج4، ص393.
[11] المجلسي: بحار الأنوار، ج46، ص105.
[12] سير اعلام النبلاء، ج4، ص393.
[13] ابن عساكر: تاريخ دمشق، ج41، ص383.
[14] بحار الأنوار، ج46، ص88. وراجع البداية والنهاية، ج9، ص123.
[15] تذكرة الخواص، ص294.
[16] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج3، ص126.
[17] ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، ج6، ص328.
[18] ابن سعد: الطبقات الكبرى: ج5، ص167.
[19] ابن الصبّاغ: الفصول المهمة في معرفة الأئمة، ج2، ص861.
[20] الطبري: تاريخ الأمم والملوك، ج11، ص631.
[21] سير أعلام النبلاء، ج4، ص398
[22] سورة المعارج، الآيات: 19-23.