ثقافة الاجتهاد في العمل

القطيف: تركي مكي علي

تحدث سماحة الشيخ حسن الصفار في الليلة الثامنة من موسم المحرم 1427هـ في (مأتم الحاج ناصر) بدبي، عن ثقافة الاجتهاد في العمل، في محاضرة شملت ثلاثة محاور:

المحور الأول/ مهمة الإنسان في الحياة.

المحور الثاني/ بين العقيدة والعمل.

المحور الثالث/ الاجتهاد وإتقان العمل.

وهذه مقتطفاتٌ من تلك المحاضرة:




المحور الأول/ مهمة الإنسان في الحياة.




يجب أن يتساءل الإنسان عن مهمته في الحياة، وعن سبب وجوده فيها، فهل أن وجوده وجود عبثي؟ فحاشا الله تعالى عن ذلك، يقول تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (المؤمنون، 115).

فما هو دور الإنسان في الحياة، وما هي مهمته؟

البعض يتصور أنه جاء للحياة حتى يستلذ، فكـأنما اللذة والاستمتاع هو هدف الحياة، وهذا خطأ كبير. فالله تتعالى إنما خلق الإنسان في هذه الحياة إلا ليكون خاضعاً لإرادته تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (الذاريات، 56). ويتجلى هذا الخضوع في سلوك الإنسان وعمله، ولذلك يقول تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (الملك، 2).

فهمة الإنسان في الحياة العمل، وأن يصل إلى اختيار أفضل العمل، وأما باقي متع الحياة من اللذة والأكل والشراب فإنما هي وسائل لاستمرار الإنسان في الحياة، وفي ذلك يكمن الفارق بين الإنسان وسائر المخلوقات، فالإنسان الذي يعيش حياةً استهلاكية، يأخذ دون أن يُعطي، إنما يعيش حياة كحياة الحيوانات، يقول تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (الفرقان، 44).

على الإنسان أن يُدرك أن مهمته في الحياة هي الإنجاز والعمل، وليس مجرد الراحة والاستمتاع: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (الانشقاق، 6). لماذا؟

أولاً- لإعمار الكون.

باعتبار أن العمل مهمة ووظيفة الإنسان في هذه الحياة، لذلك سخر الله تعالى الكون للإنسان، حتى يعمر الإنسان الكون من خلال عمله، ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (إبراهيم، 32-34). ويقول تعالى في تأكيد الهدف من ذلك: ﴿هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا (هود، 61).

فالله تعالى يُريد من الإنسان إحياء الأرض لا أن تبقى الأرض ميتة، ولذلك هناك قاعدة فقهية: الأرض لله ولمن أحياها.

ولهذا ورد الحث الكثير على إعمار الكون، وعلى أن الإنسان عليه أن لا يتوانى عن القيام بأي عمل يستطيعه لإعمار الكون وإعمار الحياة، قال رسول الله : («ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طيرٌ أو إنسانٌ، أو بهيمةٌ، إلا كتب الله له به صدقة»). وفي حديث آخر، يقول فيه : («إذا قامت القيامة على أحدكم وفي يده فسيلة يُريد أن يغرسها، فليغرسها ولا يقول قد قامت القيامة»)، وهذا يُشجعنا على العمل، وعلى إعمار الكون والاستفادة من ثرواته.

ثانياً- لكي تتبلور طاقات الإنسان وكفاءاته من خلال العمل.

لأن الكفاءات والطاقات لا تتبلور بالنوم والكسل، وإنما يتحقق ذلك بالعمل، لذلك ورد عن أمير المؤمنين أنه قال: («من يعمل يزدد قوة»). البعض يميل إلى الدعة والراحة، وغافلاً عن أن الفراغ هو التعب، لأن الإنسان الذي يعيش الفراغ والبطالة يعيش حياةً سلبية، ويُبتلى بالأمراض، والطب الحديث يؤكد هذا المعنى، لأن من أهم أسباب أمرض السكري والكلسترول وأمراض الدم أنها ناتجة لطبيعة الحياة التي سادها السكون والركون للدعة. ويقول أحد الشعراء:

 

 

إن الحقيقة قالت وهي صادقة فيما تقول بأن الراحة التعب

 


ثالثاً- لتحقيق الثواب والجزاء عند الله تعالى في الدنيا والآخرة.



المحور الثاني/ بين العقيدة والعمل.




البعض من الناش يشعرون بارتياح وبثقة واطمئنان لأنهم يؤمنون بالدين الصحيح والعقيدة الصحيحة، وهذا أمرٌ سليم، فهذه نعمة الهداية: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ (الأعراف، 43).

لكن هناك خطأ واشتباه يحصل عند بعض هؤلاء الناس إذ يتصورون أن العقيدة بديلٌ عن العمل، ولكن الحقيقة هي أن العقيدة دافع للعمل، ويُفترض أن الإنسان كلما كانت عقيدته أصح كان عمله أفضل.

فإذا ما رأينا أناساً يؤمنون بالدين الصحيح والعقيدة الصحيحة، ولكن ينقصهم العمل، هنا يجب أن نعلم أن هناك خللاً يكمن في أنهم لم يفهموا العقيدة بالشكل الصحيح، أو أنهم لم يلتزموا بها الالتزام الصحيح. وأكبر دليل على ذلك أن آيات القرآن الكريم دائماً تقرن بين الإيمان والعمل الصالح، والقرآن يضم أكثر من سبعين آية في هذا الاتجاه: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم، وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ، والصالحات: مفهوم عام يشمل كل شيءٍ يخدم الحياة والناس، ويؤدي بالإنسان إلى إعمار الكون. وفي آيةٍ أخرى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ (النور، 55)، والاستخلاف في الأرض يعني أن يكون المؤمنون هم الجهة البارزة والمسيطرة في العالم، ولا يتحقق ذلك إلا عن طريق الإيمان والعمل الصالح، أما إذا لم يكن هناك عمل مقترنٌ بالإيمان فالاستخلاف لا يتحقق، بل يكون وضع المؤمنين على العكس من ذلك تماماً.

ولذلك الآيات الكريمة تُحرض المؤمنين وتُشجعهم وتستثيرهم بأن يكونوا متفوقين على الآخرين في عملهم: ﴿وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (آل عمران، 139). ويقول تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (آل عمران، 110).

فعلى الإنسان المؤمن أن لا يرضى من نفسه بأن يكون متخلفاً في حياته، وواقع الأمة الإسلامية اليوم هو واقعٌ غير طبيعي، إذ أن الأمم الأخرى تتقدم وتتطور، والأمة تعيش على إنجازات الآخرين، بينما كانت الأمة الإسلامية في الماضي رائدة الحضارة والتقدم في حين كان الغرب يعيش حياة الظلام، وهو الواقع الذي ينبغي أن تعيشه الأمة. هذه الحالة ينبغي أن تدفعنا لمراجعة أنفسنا، فهل نفهم ديننا الفهم الصحيح.

ومشكلتنا الحقيقة تكمن في تخلينا عن الإنتاج والعمل، لا لنقص فينا، بل على العكس نمتلك من الخيرات ما يمتلك غيرنا في العالم، وكما يقول الإمام علي : (القوم رجالٌ أمثالكم)، فلماذا يتقدموا ونحن نتخلف؟ لماذا لا نستفيد من الثروات الموجودة في بلادنا؟

تقول التقارير: على مستوى البلاد العربية (10%) من الأراضي الصالحة للزراعة تُستثمر في الأراضي العربية، ثروة الأمطار في البلاد العربية تستفيد منها بمقدار (15%) فقط، وتستفيد المنطقة الخليجية من المخزون السمكي بمقدار (14%) فقط، والباقي يُستورد من الخارج.

والسبب في عدم استفادتنا من الثروات هو أن الآخرين يعملون ونحن لا نعمل.

وفرص الحياة متساوية، فالله تعالى جعل الفرص متساوية أمام الناس، يقول تعالى: ﴿كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (الإسراء، 20).

ومع الأسف فنحن انشغلنا بأشياء جانبية وبالتالي تقدم الآخرون علينا، فالكون يسير ضمن سنن، فمن عمل بها تقدم، ومن انشغل عنها تخلف.

فالعقيدة الصحيحة يجب أن تكون دافعاً نحو العمل والعطاء، وليست بديلة عن العمل والتحرك، كما هو حال أغلب المسلمين، فأصبحنا لا نمتلك ما نسّير به حياتنا لأن كل شيءٍ بيد الآخرين.



المحور الثالث/ الاجتهاد وإتقان العمل.




نرى أن النصوص والتعاليم الإسلامية تُشجع الإنسان المؤمن على العمل والعطاء، وتؤكد النصوص في نفس الإنسان المؤمن بأن العمل هو الذي يصنع واقع الإنسان في الدنيا والآخرة، يقول تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا (الأحقاف، 19)، ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (النجم، 39). ويقول الإمام علي : («إنكم إلى إعراب أعمالكم أحوج منكم من إعراب أقوالكم»)، وعنه أنه قال: («الشرف عند الله تعالى بحسن الأعمال لا بحسن الأقوال»).

والنصوص تُشجع على العمل في مختلف المجالات: العبادي والاجتماعي والعلمي، فالإنسان إنما جاء للدنيا من أجل العمل، فعليه أن لا يُجمد طاقاته وكفاءاته.

وعلى الشباب أن يعرفوا أن مستقبل الأوطان والمجتمعات يعتمد على كفاءاتهم ونشاطهم، فليس صحيحاً أن يُفرّط الشاب في وقته وعمره، فأنت مسؤولٌ عن كل ساعة من ساعات العمر والحياة، فعليك أن تُطالب نفسك بالإنجاز والعمل وأن ترى سيرة الأولياء من الأنبياء والأئمة، فسيرتهم كانت مشبعةً بالإنجاز وإتقان العمل.

وفي سيرة المصطفى أنه بعد أن نزل عليه الوحي قلّ نومه، وقلّت راحته، حتى أن أم المؤمنين خديجة (عليها السلام) تقول له يا رسول الله ألا ترتاح، فأجابها: مضى وقت النوم يا خديجة. وقد تورّمت قدما رسول الله من شدّة العبادة، وحينما قيل له: لماذا تُجهد نفسك في العبادة وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال : أولا أكون عبداً شكوراً. وسئلت أم المؤمنين عائشة: ما يصنع الرسول في داره؟ قالت: يعين أهله، يحلب الشاة ويكنس البيت ويخيط الثوب.

وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كانت حياته ملحمة من العمل، في العبادة والشجاعة والعلم والعمل المادي وفي مختلف المجالات، فقد ورد أنه أعتق (1000) مملوك من كدّ يمينه.

وهكذا بقية الأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

فمطلوبٌ من الإنسان أن يُجهد نفسه في العمل ويدع النوم والكسل جانباً، فقد ورد عن رسول الله أنه قال: («النوم أخو الموت»)، وعنه : («إياكم وكثرة النوم فإنها تُفقركم يوم القيامة»)، وعن الإمام الصادق أنه قال: («كثرة النوم منقصة للدين والدنيا»)؛ فالنوم بمقدار الحاجة والضرورة.

فعلينا أن نستفيد من حياتنا وأوقاتنا كما استفاد الأولياء والصالحون من حياتهم وركزوا جهودهم حتى في آخر اللحظات والساعات ما كانوا يتركون العمل والاجتهاد، وهذا كان دأب أنصار أبي عبد الله الحسين .