العقيدة بين التساؤل والتشكيك

قال الله العظيم في كتابه الحكيم: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي[1] .

يعتبر نبي الله إبراهيم الخليل من الأنبياء العظام، من أولي العزم الخمسة، ويسمى شيخ الأنبياء وأباهم، وقد وصفه القرآن الكريم بالأمة في قوله تعالى:﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً[2] 

وأسبغ عليه صفة الخلة بقوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً[3]  ولذلك يلقب بخليل الله.

ويذكر المؤرخون أن هذا النبي العظيم كان موجوداً ما بين سنة 2000 إلى 1700 ق م أي قبل حوالي 4000 سنة مضت.

ومما يرد من أحواله أنه مر يوماً على ساحل البحر فرأى جيفة لحيوان ضخم نصفها متدلي في البحر والنصف الآخر يقع على الشاطئ، وكانت الحيوانات البحرية تنهش الجزء المتدلي في البحر بينما كانت الحيوانات البرية والطيور تنهش من الجزء الواقع على شاطئ البحر، فاستوقف هذا المنظر نبي الله إبراهيم فأخذ يفكر بعظمة الله وقدرته سبحانه وتعالى، وكيف أن الأجساد البشرية تتلاشى بعد الموت وتتوزع ذراتها وتمتزج بالتراب كهذه الجيفة التي استوقفته والتي توزعت أشلاءها في بطون وحوش البر والبحر.

فالإنسان يتلاشى جسمه وتتوزع أجزاؤه، ليعود هذا الجسد المبعثر بين ذرات التراب إلى الصيرورة من جديد يوم البعث، فيعود هذا الإنسان مرة أخرى إلى الوجود بإذنه تعالى.

لا شك أن نبي الله إبراهيم يؤمن إيماناً قاطعاً لا يخالجه أدنى شك أو ريب في البعث والمعاد يوم القيامة، إلاّ أنه يطلب من الله تعالى أن يريه مشهداً يجسد الكيفية التي يحيي بها الله تعالى الموتى، وبعبارة أخرى يريد تجربة عملية لهذا المشهد فيخاطب ربه: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى[4] .

وقد يتوهم البعض أو يختلط الأمر عليهم في أن هناك شكاً أو ريباً في إيمان نبي الله إبراهيم فكانت المحاورة واضحة المعالم لتدفع ذلك الريب، كما يوردها القرآن الكريم، وقول الله تعالى لنبيه :﴿أَوَلَمْ تُؤْمِن[5]  كان سؤالاً تأكيدياً بمعنى: أولست مؤمناً فكيف تطلب هذا الأمر؟

ويستمر الحوار لتبيان حقيقة إيمان نبي الله إبراهيم بجوابه ﴿قَالَ بَلَى[6] .

وهنا يأتي السؤال حول دوافع إبراهيم ورغبته في تجسيد مشهد الأحياء الذي يتبع قوله ﴿بَلَى بالاستدراك ﴿وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي[7] .

الاطمئنان القلبي:

وهنا لا بد من الإشارة إلى مسألة الإطمئنان القلبي والتي لا يمكن تحقيقها إلا عن طريق المشاهدة الحسية مع اعتقاده بأية قضية من الناحية العقلية، وحيث إن القلب هو مركز الأحاسيس والانفعالات والعواطف التي لا تهدأ إلا بالمشاهدة الحسية ليتحقق بذلك الاطمئنان القلبي، والأمر هنا نفسي بحت حيث إن الناحية العقلية لا تزداد لأن العقل عنده قابلية الإيمان والاعتقاد بيد أن الأمر من الناحية الثانية يختلف لمشاركة الحواس الأخرى بتأكيد الرؤية المؤدية إلى تحقيق حالة الاطمئنان النفسي.

وهناك أمثلة كثيرة في هذا لمجال، فلو افتقد أحدهم عزيزاً عليه ووصلت إليه أخبار موثوقة عنه مع كون المصدر الذي أخبره صادقاً وهو يطمئن إليه، فإنه مع كل هذا التأكيد تبقى مسألة رؤية الغائب باعثة للاطمئنان النفسي أكثر من مجرد النقل الموثوق.

ففي الحالة الأولى العقل مصدق ومؤمن بالخبر بينما تكون حالة الرؤية المباشرة هي الباعثة على الاطمئنان النفسي، وهو الشق العاطفي للإنسان.

ومثال آخر جسد الميت ليس فيه شيء مخيف من الناحية العقلية فهو جسد عادي، لكن هذا الجسد نفسه يبعث حالة الخوف والرعب في نفس الإنسان الذي يطلب منه المبيت أو المكوث مع الجثة عدة ساعات.

فهل هناك ما يخيف فعلاً في هذا الجسد المادي؟

والجواب على هذا هو أن المسألة ليست عقلية بل هي عاطفية.

وتأسيساً على ما سبق فإن الأشياء إذا كانت مجرد نظرية في العقل يعتقد الإنسان ويؤمن بها فإذا ما تجسدت أمامه مادياً تسيطر عليه الحالة العاطفية النفسية؛ لذا فإن جواب نبي الله إبراهيم على السؤال﴿أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى ثم يسوق علته وراء هذا التساؤل بقوله: ﴿وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي كانت الاستجابة الإلهية لتحقيق هذه الرغبة النفسية مباشرة بقوله تعالى: ﴿فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ[8] .

وتقول الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) أن الطيور كانت مختلفة، فأحدها كان طاووساً والثاني غراباً والثالث حمامة والرابع ديكاً.

ومعنى ﴿فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ قطعهن. وفعل نبي الله إبراهيم ما أمر به فذبحها وقطع أجزاءها وخلط أجزاءها ومازج بينها بحيث لا تتميز عن بعضها البعض. وكما نصت الآية الكريمة على ذلك بقوله تعالى:﴿فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءا[9] .

وكان توزيع هذه الكمية من اللحم قد تمت -حسب ما تنقله الروايات- على عشرة جبال بعد مسيرة من بابل إلى بلاد الشام، وكانت هناك عشرة من الجبال في باب المكن على ما تذكره التواريخ.

ويستدل الفقهاء بهذه الآية في موضوع الوصية أو النذر بقوله: نذر علي لأتصدقن بجزء من مالي أو لأوصي بجزء من مالي، فمقدار الجزء هو عشرة في المئة استناداً إلى اللفظ القرآني في هذه الآية؛ لأن الله تعالى أطلق لفظ الجزء على كل قسم من هذه الحصص الموزعة على الجبال العشرة.

وقد طبق نبي الله إبراهيم الجزء الثاني من التجربة بنص الآية﴿ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ[10]  فوقف ونادى كل طير باسمه وكانت نتيجة التجربة ﴿يَأْتِينَكَ سَعْيًا[11]  وبالفعل أخذت تتلاءم الأجزاء أمام عينيه وتعود الحياة إليها لتأتيه تلك الطيور مسرعة، ثم يخاطبه الله تعالى:﴿وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [12]  عزيز لا يفوته طلب ولا يعوزه شيء، وحكيم يجري الأمور وفق أسبابها وبطريقتها المناسبة واللائقة بها.

ظاهرة التساؤلات في العقيدة:

ولسنا بمعرض الحديث عن موضوع المعاد وبعث الناس بعد الموت وإنما سقنا ذلك لتفسير الآية الكريمة والتي يهمنا منها موضوع التساؤلات والشكوك والإشكالات التي ترد في ذهن الإنسان حول قضايا العقيدة والدين.

وغالباً ما تدور مثل هذه الإشكالات في أوساط المجتمع سواء كانت تلك الإشكالات حول القضايا العقائدية أو حول قضايا الأحكام والتشريعات. وقد تشكل هذه التساؤلات شكل الظاهرة حيث تعم أوساط المجتمع.

وقد برزت بشكل واضح في العصر الحديث في الكثير من المجتمعات والتجمعات الإسلامية، وأكثرها تدور حول مواضيع العقيدة والإيمان، ومنها لماذا نعتقد بهذا الأمر العقدي ـ ونؤمن به؟ لماذا فرض الله تعالى الحكم الفلاني؟ إلى غير ذلك من الأسئلة.

أسبابها:
وهناك أسباب ومبررات موضوعية لها.

1- وراثة التدين:
السبب الرئيسي هو أن الوراثة هي مصدر تدين الكثير من الناس. فالعائلة والمحيط يقرر أن ذلك دون وعي أو معرفة ولا بحث أو دراسة من قبل الوارث فيجد الابن نفسه يدين بدين أبيه أو مجتمعه الذي يعيش فيه. وكذلك بالنسبة للمذهب والاعتقادات الفرعية. وهذا الإنسان الذي ورث حالة التدين دون معرفة عقدية أو دراسة وبحث تختلج في نفسه هذه التساؤلات، فيظل في بحث دائم عن حقيقة اعتقاده وصحته.

ولذلك فإن علمائنا يفتون بعدم كفاية الإيمان بالعقائد عن طريق التقليد والمحاكاة والاتباع، بل لا بد من البحث والنظر والتفكير والتأمل ويوجبون ذلك.

ويبحث أغلب علمائنا هذه المسألة في الأصول فيقول الشيخ الأنصاري (رحمه الله) في "فرائد الأصول" والمعروف "بالرسائل" في مناقشته (لدليل الانسداد) يقول:« إن أغلب العلماء يرون أن الأصول والمباني الاعتقادية لا يصح ولا يكفي الإيمان بها عن طريق التقليد والاتباع والمحاكاة بل لابد من البحث ويجب النظر والتأمل، فإذا أفادت الإنسان الظن فقط هذا لا يكفي » بل الأكثر من العلماء قالوا حتى لو جزم الإنسان عبر التقليد والاتباع بالعقيدة فهذا لا يكفي لأن الجزم عن طريق التقليد من دون نظر هو جزم في غير محله، فالإيمان هنا معرض للاهتزاز لمجرد ورود أي شبهة أو إثارة أو سؤال لأنه لم يبنَ على أساس أو قاعدة رصينة.

ويقول أحد العلماء في منظومته العقائدية:

من وصفه صح له أو امتنع  ***  معرفة الصانع أي بما يسع
وليس ذا صاحبة ولا ولد  ***  كوصفه بأنه عدل أحد
ثم الإمام الحق والمعاد  ***  ثم نبوة النبي الهادي
عقلاً على الأعيان بالبرهان؟  ***  فكل ذا مفترض العرفان
فالقول بالتقليد منه مجزِ  ***  إلا مكلفاً حليف العجزِ

فإذا كان المرء لا يمتلك إمكانية المعرفة والتفكير والبحث وكان عاجزاً عن ذلك فيعتمد عندها على التقليد.

إذن فالنظر والتقصي والتفكير بالمعتقدات أمر واجب ولا يكفي المورث العائلي أو المجتمعي الذي يغذي الإنسان ويربيه على اعتقاد معين، لكي تكون معتقدات الإنسان مبنية على أساس صحيح وسليم.

2- التطور المادي وانفتاح المجتمعات:
من الأسباب التي تثير تساؤلات الإنسان وشكوكه حول القضايا العقيدية هو إيماننا بالكثير منها من دون بحث هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى التطور والتقدم العلمي للحضارة المادية، وانفتاح المجتمعات الإسلامية عليها يجعل هذا الحضارة المادية تفرز أفكارها التي تحملها وتصدر ثقافتها وأعلامها وتوجهاتها إلى مجتمعاتنا. ويشكل هذا التقدم العلمي تحدياً حقيقياً للمعتقدات الدينية، ويثير التساؤلات والإشكالات والتحفظات التي تحتاج إلى الإجابات الشافية والمعالجات الناجعة.

3- التشكيكات الموجهة:
وهناك سبب آخر لنشوء مثل هذه التساؤلات وهو وجود جهات تسعى لبث التشكيكات في أوساط المسلمين، ويثار قسم منها من قبل الأعداء لإيجاد حالة من وهن المعتقدات عند المسلمين وإضعاف ثقة المسلم المؤمن بدينه وإشغاله بهذه الأمور والقضايا.

وقد جسدت بعض كتابات المستشرقين ذلك حيث حاولوا إثارة هذه السموم والشبهات في صفوف المسلمين، والتي تأثر البعض بها. كما كان الحال مع الحملات التبشيرية التي كانت تجوب بلدان المسلمين وخاصة البلدان الفقيرة. وكانوا قد أعلنوا بعض أهدافهم في أحد مؤتمراتهم بالقول:« إنه ليس هدفنا أن نُنَصِّر أحد المسلمين وليس هدفنا جعلهم مسيحيـين بل يكفينا تشكيك المسلمين في دينهم وحتى لو لم يصبحوا مسيحيـين ندعهم يشكوا في دينهم ».

واللافت للانتباه أن هذه المحاولات لا تزال مستمرة بطرق مستحدثة، كمحاولة سلمان رشدي في تأليفه كتاب "الآيات الشيطانية" والتي وقفت معها كل الأجهزة المعروفة بعدائها للإسلام، ويكفي أن تذكر أن تكاليف حمايته شخصياً تبلغ ملايين الجنيهات في بريطانيا فقط، وقد أحاطوه بهالة من التضخيم الإعلامي والإعلان لكتابه السيئ الصيت، والذي هو عبارة عن محاولات تشكيكية في الاعتقادات الإسلامية. وقد اتضحت الصورة جلية أمام المسلمين وقتها.

وقد عرف الإمام الخميني (رحمة الله عليه) المغزى والقصد من وراء ذلك وفضح هذه المؤامرة البعيدة عن حرية الرأي والفكر، فكانت فتواه المشهورة والتي لا تزال تقض مضاجعهم.

وفي محاولة يائسة أخرى تصدر إحدى المتهتكات من بنغلادش وهي (تسليمة نسرين) رواية باسم العار، تحكي قصة حب بين هندوسي ومسلمة ومن خلال هذه الرواية حاولت بث سمومها وتشكيكاتها ضد الإسلام ومعتقداته.

وكالحالة السابقة تسارع الأوساط الغربية المعادية للإسلام إلى احتضانها فيسرع أحد نوادي سويسرا بإعطاءها جائزة أدبية، وتمنحها إحدى الجامعات الهولندية شهادة دكتوراة فخرية، وتبدي ألمانيا استعدادها لمنحها لجوءاً سياسياً فورياً وكل ما تحتاجه مستلزمات الحياة والعمل!

وكل هذا يجري في إطار محاولات التشكيك في أوساط المسلمين.

وقد امتدت هذه المحاولات إلى الجانب المذهبي، فنرى أحدهم يؤلف كتابه "الشيعة والتصحيح" حاول من خلاله إدخال التشكيك في أساسيات المذهب الشيعي.

ولاشك فإن هذه المسألة لم تجرِ بشكل معنوي، فقد تلقى (الموسوي) دعماً استثنائياً من قبل الجهات المعادية للمذهب الشيعي ومنهم طاغية العراق (صدام) الذي بنى له مركزاً ضخماً في كاليفورنيا في لوس أنجلس، إضافة إلى جهات أخرى ساهمت في الترويج لكتابه وتوزيعه في كل أنحاء العالم.

والهدف كان واحداً وهو إظهار التساؤلات الآنفة الذكر الوجود من جديد.

4- ضعف الخطاب الديني:
وهناك سبب رابع لوجود هذه التساؤلات هو وجود نقاط ضعف في الخطاب الديني، ووجود ثغرات استطاع الأعداء الاستفادة منها والنفوذ من خلالها إلى المنظومة الفكرية الإسلامية ومحاولة التأثير عليها سلباً.

وتظهر هذه الثغرات عندما يتفتح عقل المسلم ووعيه ويتصل بالحضارة ليجد الخطاب الديني منقوصاً.

وهذا العيب ليس في الدين مطلقاً، ولكن في طريقة عرض الدين للمتلقي مسلماً كان أم غير مسلم.

فما هو الموقف المطلوب تجاه هذه التساؤلات في الدين والعقيدة التي ملأت أذهان شباب المسلمين ومثقفيهم، والتي إذا لم تجد المعالجات المناسبة فإنها ستتحول إلى شكوك ثم إلى إنحرافات عقائدية.

كيف نواجه التشكيكات؟

ولمواجهة هذا الموقف هناك أمران:

الأول: الارتفاع بالمؤسسة الدينية إلى مستوى التحدي:
يجب أن يرتفع العلماء والفقهاء والمفكرون والخطباء إلى مستوى التحدي ليعالجوا هذه الإشكاليات ويجيبوا على تلك الأسئلة المطروحة، فيعرفوا الإنسان المسلم حقائق دينه بشكل سليم وعميق وواضح.

ونحن نلاحظ -وللأسف الشديد- عدم وجود هذا القدر من المسؤولية بحيث تكون المعالجة عن طريق الرد على هذه الشبهات بواقعية دون الاعتماد على (المجترات) التي يعتمدون عليها، فيعودون إلى الشبهات العقائدية التي كانت في قرون خلت، ويحاولون تناسي الشبهات المستحدثة والمتشعبة.

وقد دأب علماؤنا على الانشغال ببحث الفقه والأصول فأشبعوه دراسة وبحثاً، بينما نجد القلة منهم ممن يتصدى للإجابة على التساؤلات الحديثة.

فمتى ما امتلكنا عدداً من العلماء مثل الشهيد محمد باقر الصدر (رحمة الله عليه) الذي شخّص هذا التحدي الفكري والاجتماعي والاقتصادي فألف كتاب "فلسفتنا" و"اقتصادنا" و"مجتمعنا" وهذا الكتاب الأخير لم يطبع ولم يعرف كيف اختفى، وكتاب "فلسفتنا" وهو من أفضل الردود إن لم يكن أفضلها رداً على الفلسفة المادية بقسميها الرأسمالي والماركسي، حتى قال فيه أحد المفكرين بأنه ما نازل الفكر المادي بمثل ما نازله محمد باقر الصدر. وقد ألف كاتب لبناني هو شبلي الملاط حول السيد الشهيد محمد باقر الصدر بعنوان "تجديد الفقه الإسلامي" وقد حصل هذا الكتاب على جائزة من الجمعية الأميركية للدراسات الشرق أوسطية في عامين متـتالين (1993ـ1994) باعتباره أفضل بحث أكاديمي. وقد قدم باللغة الأنكليزية.

ويتحدث الكتاب عن عظمة هذا الرجل وأفكاره ومنازلته للأفكار المنحرفة والمادية.

وقد ترجم هذا الكتاب عام (1998) إلى اللغة العربية تحت عنوان "تجديد الفقه الإسلامي".

ولدينا عالم آخر يعتبر رجل التساؤلات والتحديات الفكرية، وهو الشهيد العلامة مرتضى مطهري (رحمة الله عليه) فنزل هذا العالم الجليل إلى طهران تاركاً قم، ليلقي محاضراته في الجامعات ويختلط بالأساتذة والجامعيـين ومختلف الطبقات. وكان يرد على الأسئلة والإشكالات بصورة دائمة.

وخطوة هذا العالم هي نوع من التوجه الصحيح لرسالة العلم التي يحملها، فليس المطلوب من العالم حفظ بحوث الفقه والأصول فقط، وعلى كل عالم أن يلتفت إلى هذه النماذج العلمائية النادرة.

لأن العصر عصر التحدي في كل شيء في الفكر والثقافة، لذا ينبغي استيعاب حالة التساؤلات عند كل شرائح المجتمع وخصوصاً الشباب، الذين يخشون أحياناً طرح أي تساؤل من هذا النوع خشية تعرضهم للتهمة الجاهزة، فينعتون بضعف العقيدة. ولا يلتفت العلماء إلى أن العقيدة هي حالة نفسية بحاجة إلى الإطمئنان والقناعة، أما إرهاب الناس فكرياً والحجر على أسئلتهم هو نوع من الخطأ والإرهاب الفكري المألوف في كثير من أوساطنا الإسلامية، فيخشى البعض من طرح تساؤلاتهم ويخافون، بينما الحالة الصحيحة هي طرح كل الإشكالات وكل سؤال يدور بخلد الإنسان.

وهكذا كان رسول الله محمد ، والأئمة الطاهرون (عليهم السلام) يجيبون عن كل سؤال أينما كانوا وأياً كان السؤال. ولم يسجل لنا التاريخ أي حادثة إرهاب فكري عنهم (صلوات الله عليهم) ولا يوجد بينهم من يتهم المسلم بالكفر أو الشرك أو البدعة، بل كانوا (صلوات الله عليهم) يفتحون صدورهم الرحبة لكل الناس، يعالجون الإشكالات الموجودة في نفوسهم وأذهانهم. والأمثلة كثيرة في هذا المجال، نذكر منها ما روي عن رسول الله من أنه كان جالساً يوماً مع أصحابه ودخل عليهم شاب من المسلمين.

وقال لرسول الله: أنا شاب مسلم أسلمت ولله الحمد وأنا من جملة المسلمين ولكن هناك شيء لست مقتنعاً به من الإسلام وأرجو أن تسمح لي بتجاوزه.
فقال الصحابة: ما الذي يقوله هذا الشاب متعجبين من قوله ومستنكرين له، فأشار إليهم رسول الله بلزوم الهدوء، وسأله عن الإجازة التي يريدها.

فقال: يا رسول الله ائذن لي في الزنا، فتعجب الصحابة من جرأة الرجل وغرابة طلبه وتهامسوا بينهم فأشار الرسول إليهم بلزوم الهدوء، ثم قال له: اقترب مني أريد أن أتفاهم معك فرد الرجل بالإيجاب.

فقال الرسول : ما مضمونه: «ألك بنت؟ »

قال: نعم.

قال : «أترضى أن يزني أحد بابنتك. »

قال: لا يا رسول الله. وغضب.

قال : «ألك أخت؟ »

قال: نعم.

قال : «أترضى أن يزني بها أحد. »

قال: لا يا رسول الله. وغضب ثانية.

فقال له رسول الله : «ألك زوجة؟ »

قال: نعم.

قال : «أفترضى أن يزني أحد بها. »

قال الرجل: لا يا رسول الله. وغضب كثيراً.

فقال : «إن من تزني بها هي إما بنت أو أخت أو أم أو زوجة لأحد غيرك، فإذا لم ترض شيئاً من ذلك لنفسك فكيف يرضى الناس ذلك لأنفسهم؟ أحب للناس ما تحب لنفسك واكره للناس ما تكره لنفسك». ثم مسح على قلبه وقال: «قم طهر الله قلبك وبارك فيك».

يقول الرجل فقمت وما على وجه الأرض عمل أكره إلى قلبي من الزنا.

فلم ينهره رسول الله ولم يكفره، أوليس هذا هو المنهج الصحيح للإجابة عن الأسئلة والإشكالات.

وروى الشيخ الصدوق في كتاب "التوحيد" ما جاء على لسان الأئمة (عليهم السلام) فيذكر أن رجلاً جاء إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقال: يا أمير المؤمنين إني شككت في القرآن، ويخاطب أمير المؤمنين بهذا الكلام ويقول رأيه بكل صراحة. فقال له الإمام : وكيف تشك في كتاب الله؟ قال: لأني رأيت فيه آيات متباينة متناقضة. وذكر بعض الشواهد ومنها:

قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا[13] ،

ويقول تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ[14]  فكيف يكون تعالى نسياً وغير نسي؟!

ويقول تعالى: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ[15] ،

وفي آية أخرى يقول: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ[16]  فكيف يكون غير مرئي ثم يقابله الناس متصوراً أن الرؤية مادية في الآية الثانية. وذكر الرجل آيات أخرى والإمام يجيب على هذه الإشكالات.

ويكفي أن نذكر أن الشيخ الصدوق قد أورد هذه الإشكالات في أربعة عشر صفحة من كتابه، وقد أجابه الإمام بكل رحابة صدر.

إن كل هذه الإشكالات وهناك الكثير مثلها عرضت على الأئمة (عليهم السلام).

فالعالم يجب أن يستوعب كل التساؤلات التي ترد إليه من الناس. وهناك عدة روايات تؤكد على ترابط العلم مع الحلم في شخصية العالم، ومن أهم واجبات العالم استيعاب الناس وحل إشكالاتهم.

ثانياً: توجه إلى الدين ووعيهم به:
ثم يجب أن نتوجه إلى طبقة الشباب والمثقفين ونحثهم على الدراسة الفقهية، بأن يخصصوا جزءاً من وقتهم للتفقه في الدين. والتفقه يعني فهم ووعي الدين، ولا يكتفي بما يسمعه من أهله أو من الخطابات الجماهيرية العامة التي يسمعها في المناسبات، فالخطاب المنبري خطاب عام يراعي جميع المستويات؛ لذا فإنه غير كافٍ لتحصيل الوعي الكامل. فيجب البحث والقراءة والرجوع إلى المصادر والأصول الإسلامية.

وهناك الكثير من الروايات التي تحث على التفقه في الدين.

يقول رسول الله :«« إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين »»[17]  وليس المقصود بالفقه المعنى العام له أي معرفة المسائل الدينية والعبادية كالوضوء والصلاة والصوم، بل المعرفة الدينية الشاملة.

وفي رواية أخرى عنه :«« أفضل العبادة التفقه في دين الله »».

ومع ذلك فكتبنا تبحث في العبادات الواجبة والمستحبة فمثلاً كتاب "مفاتيح الجنان" المشهور عندنا لمؤلفه الشيخ القمي يذكر كل أعمال ليلة القدر من صلاة ودعاء، وفيه الكثير من المستحبات وآخر ما يذكر التفقه في الدين مع أن معرفة الدين أفضل من ذلك كله.

إذن فالتفقه في الدين من الأمور المهمة، وفي رواية عن الإمام الصادق ويخص بها الشباب، يقول :««لو أتيت بشاب من الشيعة لا يتفقه في دينه لأوجعته بالسياط» »ويبين الإمام هنا أهمية وضرورة اهتمام الإنسان بالتفقه في الدين.

وهناك حديث آخر عن رسول الله يقول:«« أفٍ لكل مسلم لا يجعل في كل جمعة (يوماً) يتفقه فيه أمر دينه ويسأل عن دينه »»[18]  فيوم في الأسبوع يكفي لاطلاع المسلم على أمور دينه يخصصه لدراسته ولمعرفته.

ومع الأسف فإننا لا نجد في شبابنا من أكمل دورة في تفسير القرآن أو في العقائد أو التاريخ، وكأن المعرفة حرفة خاصة بطبقة من رجال الدين يهلكون أنفسهم بالبحث والدراسة لتقديمها إلى الناس. والصحيح غير هذا تماماً؛ فيجب على كل فرد أن يأخذ نصيبه من المعرفة الدينية والثقافة.

ثالثاً: وجود المثقف الواعي:
في تاريخنا المعاصر برز عدد من المثقفين الإسلاميـين الذين لم يقل دورهم عن دور علماء الدين في نشر التوعية والتثقيف الإسلامي وعرض الفكر الإسلامي بصورة عصرية. فمن لم يسمع بالأستاذ أحمد أمين النجفي وكتابه المعروف "التكامل في الإسلام" بأجزائه السبعة، وهو أستاذ متخصص في الرياضيات والفيزياء بدرجة ماجستير إلا أنه درس الإسلام ووعاه فحمل رسالة التبليغ والإرشاد، وكان يحاضر في جامع الحيدري في مدينة الكاظمية ببغداد، وكان لمحاضراته أثر بالغ في قيام الصحوة الإسلامية في العراق فالرجل لم يدرس في الحوزات العلمية بل متخصص بالعلوم الطبية، ولكنه فهم الإسلام فهماً حقيقياً وعرف مسؤوليته وهكذا أخذت هذه المعرفة تنتشر بين الناس إلى أن توفي في العام (1971).

وما أحوجنا لمثل هؤلاء الرجال في مجتمعاتنا الحالية، فالطبيب والمهندس العالم بأمور دينه قادر على منفعة الناس وإرشادهم إلى طريق الصواب. وقد يحدث أحياناً أن يكون تأثير هؤلاء الأشخاص أكثر من قدرة رجل الدين. ولدينا الكثير من الشخصيات التي كان لها دوراً بارزاً في هذا المجال من قبيل المهندس مهدي بازركان (رحمه الله) الذي كان أول رئيس وزراء في الجمهورية الإسلامية في إيران كان متخصصاً في هندسة الآلات الحرارية إلا أنه يحمل من المعرفة الدينية ما جعله أحد المفكرين الإسلاميـين الكبار، فكان يلقي المحاضرات، وكان له أثر واضح في خلق الصحوة الإسلامية في إيران.

ومثال آخر الدكتور محمد علي البار مستشار في الأمراض الباطنية وعنده عيادة في جدة، وهو من المتمكنين في العلوم والمعارف الإسلامية، وله أكثر من خمسين كتاباً علمياً دينياً من جملتها "شرح رسالة الإمام الرضا في الطب" وكتاب "خلق الإنسان بين العلم والقرآن" طبع أكثر من عشر طبعات، وهو من الكتب القيمة.

ومما تقدم فإننا نرى حاجتنا إلى العلماء والمثقفين وإلى توعية شاملة تجعل من كل التساؤلات والشكوك خاضعة للتحليل العلمي الدقيق، وعدم التعامل معها باللامبالاة، وكما يظن البعض بأن غض النظر عنها هو الحل المثالي لنشر الإيمان، بل الواجب أن يكون العلماء والمفكرون الإسلاميـون على استعداد دائم لحل مثل هذه الإشكالات.

* حسينية العوامي - القطيف، 3 محرم 1420هـ

[1]  سورة البقرة: (الآية: 260).
[2]  سورة النحل: (الآية: 120).
[3]  سورة النساء: (125).
[4]  سورة البقرة: ( 260).
[5]  نفس السورة.
[6]  نفس السورة.
[7]  نفس السورة.
[8]  نفس السورة.
[9]  نفس السورة.
[10]  نفس السورة.
[11]  نفس السورة.
[12]  نفس السورة.
[13]  سورة مريم: (الآية: 64).
[14]  سورة الأعراف: (51).
[15]  سورة الأنعام: (الآية: 103).
[16]  سورة الكهف: (الآية: 110).
[17]  بحار الأنوار، ج1، ص217، الحديث رقم 33.
[18]  بحار الأنوار، ج1، ص176، الحديث رقم 44.