الفراغ الروحي: قلق واضطراب

للإنسان في هذه الحياة احتياجات ومتطلبات، ولا تستقر حياته إلا إذا وجد أمامه الفرصة لتحقيق تلك الاحتياجات، ويمكننا أن نقسم متطلباته إلى ثلاثة أصناف، يرتبط كل صنف منها ببعد من أبعاد شخصيته.

الصنف الأول: الاحتياجات المادية، وترتبط بالبعد الجسمي المادي من حياة الإنسان، كالحاجة إلى الغذاء، والكساء، والسكن، والعلاج، والجنس..

وهي احتياجات ضرورية، إذا لم تتوفر تضطرب حياة الفرد والمجتمع، ومعلوم أن معاناة الفقر والحرمان ولو في جزء من المجتمع، قد تسلب الأمن والاستقرار من المجتمع كله، لأنها تكون أرضية للتمرد والإجرام، لذا ورد عن رسول اللَّه أنه قال: «كاد الفقر أن يكون كفراً»[1]  وينقل عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري قولـه: «عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه»[2] .

الصنف الثاني: المتطلبات العقلية، فالعقل الذي منحه اللَّه تعالى للإنسان، يتطلب العلم والمعرفة، ويحتاج إلى الأجواء التي تتيح له حرية الفكر، وإلى الوسائل والأدوات المساعدة على النشاط العلمي والفكري، ومن الوهلة الأولى التي خلق اللَّه تعالى فيها الإنسان، وفّر له فرصة العلم والتعلم، يقول تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا[سورة البقرة الآية31]، ويقول تعالى: ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ[سورة الرحمن الآية3 ـ 4].

وإذا حظر على الإنسان نشاطه الفكري، وحريته العلمية، وسلب حق المعرفة، فإنه يفقد الجزء الأساس من إنسانيته، وبالتالي لا يشعر بالكرامة والراحة.

لذا أوجب الإسلام بذل العلم، وإتاحة الفرصة للمعرفة والتعلم، روي عن رسول اللَّه أنه قال: «من كتم علماً نافعاً، ألجمه اللَّه يوم القيامة بلجام من نار»[3] .

وفي تفسير قولـه تعالى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ[سورة البقرة الآية3] يقول الإمام جعفر الصادق : «مما علمناهم يبثّون»[4] .

الصنف الثالث: التطلعات الروحية المعنوية، فالإنسان روح وجسد، وكما أن للجسد احتياجاته ومستلزماته كذلك فإن للروح تطلعاتها، وهي ذات تأثير كامل على سير الجانب المادي في حياة الإنسان، فلو توفرت له كل احتياجاته المادية، لكنه كان يعيش الخواء والجوع الروحي، فإن حياته لا يمكن أن تستقر أو تهنأ.

احتياجات الروح:

والروح تحتاج إلى الطمأنينة والثقة والرضى، وراحة الضمير والوجدان، والماديات بمحدوديتها وتقلباتها ونقائصها ومنغصاتها، لا توفر للإنسان السعادة والاطمئنان والاستقرار الروحي.

فلا بدّ أن تتصل روح الإنسان بما فوق المادة، بالقوة المطلقة، التي لا حد لها، والتي إليها مرجع الأمور.

صحيح أن الإنسان يمتلك شيئاً من القدرة والقوة، خاصة في هذا العصر، حيث تطورت إمكانات البشر، وتقدمت قدراتهم العلمية والتكنولوجية، لكن الإنسان يدرك أن حياته وقدراته وقواه ليست ذاتية، فهو جاء إلى الحياة بغير قرار منه، ويخرج منها دون اختياره، وفي أي لحظة من اللحظات، حيث لا يستطيع التحكم في توقيتها.

ويدرك الإنسان بفضل تقدمه العلمي الآن، مدى محدوديته وضآلته، قياساً إلى هذا الكون الفسيح الذي يعيش في رحابه، فالكرة الأرضية التي يحيا على سطحها يمتد عمرها إلى ما قبل 4.5 بليون سنة، وهي على ضخامتها مجرد كوكب يدور حول الشمس، مع تسعة كواكب أخرى، تكوّن مجموعة شمسية، وهذه الشمس يبلغ حجمها 1.300.000 مرة قدر حجم الأرض، وهي نجم واحد بين البلايين من النجوم، تتكون منها مجرة تدعى درب التبّانة، ويقدر عمرها بما يتراوح بين 10 و15 بليون سنة، وهذه المجرة واحدة من بلايين المجرات التي تسبح في محيط الكون!! [5] 

وكما يقول أحد العلماء: لو أردنا أن نشبّه الكون لقلنا: إنه يشبه المحيط الكبير، وكل مجرة من المجرات هي جزيرة في ذلك المحيط الكبير، وكل مجموعة شمسية في كل مجرة، تشبه قطعة أرض في تلك الجزيرة، وأرضنا التي نعيش عليها بمقدار نملة في قطعة أرض، ضمن جزيرة من بلايين الجزر، في ذلك المحيط الكبير!! فما هو إذن حجم الإنسان قياساً إلى هذا الكون العظيم؟

إنه يشعر بضعفه وعجزه، مع كل ما أنجز وحقق من تقدم علمي، ومكاسب تكنولوجية، ويظهر ذلك جلياً حينما تعصف به الكوارث الطبيعية، كالزلازل والبراكين، والفيضانات والأعاصير.. وهو يفقد السيطرة حتى على جسمه ومشاعر نفسه، فبينما هو في قمة الصحة والنشاط، تغزوه العلل والأمراض، وتدركه الشيخوخة والهرم، وحين يصبح في غاية السرور والبهجة، فقد تصيبه الكآبة والحزن، وهكذا يتقلب بين الحالات المختلفة، لا يستطيع أن يحتفظ لنفسه بحالة معينة، ولا أن يدفع عنها أخرى.

هذا الشعور العميق بالمحدودية والضعف، والإحساس الكبير بالضآلة والعجز، يدفع الإنسان إلى البحث عن مصدر القوة والقدرة، وعن الجهة المهيمنة على الكون والحياة، لتطمئن نفسه بالارتباط بها، وليسكن قلبه، وتستقر مشاعره، بالاقتراب منها.

وذلك هو الدين، الذي يقدم للإنسان الإجابة عن تساؤلاته الحائرة، حول وجوده ومصيره، ويشق له طريق التواصل والتعاطي مع خالق الكون والحياة.

فالتدين نزوع فطري عند الإنسان، لتركيبته المميزة من روح وعقل وجسد، يقول (وول ديورانت) في قصة الحضارة: «إن الكاهن لم يخلق الدين خلقاً، لكن استخدمه لأغراضه فقط، كما يستخدم السياسي ما للإنسان من دوافع فطرية وعادات، فلم تنشأ العقيدة الدينية عن تلفيقات أو ألاعيب كهنوتية، إنما نشأت عن فطرة الإنسان بما فيها من تساؤل لا ينقطع، وخوف وقلق وأمل وشعور بالعزلة»[6] .

لكن الإنسان قد يضل الطريق إلى الدين الصحيح، إذا لم يتوفقّ للهدي الإلهي والرسالات السماوية.

التقدم المادي هل يكفي؟

قد يتصور البعض أن مجتمعاتنا في حاجة للرقي العلمي، والتقدم التكنولوجي، والتطور السياسي والاقتصادي، لتلحق بركب الحضارة والتقدم، أما الجوانب الروحية والدينية، فهي أمرٌ هامشي كمالي، لا دور له في صناعة واقع التطور والتقدم.

لكن ومع الإقرار بحاجة مجتمعاتنا إلى الرقي العلمي والتكنولوجي والسياسي والاقتصادي، إلا أن إشباع الجانب الروحي له أولوية ومركزية، لا يمكن التساهل تجاهها.

إن المجتمعات الغربية المتقدمة، التي نطمح للاقتراب من مستوى تقدمها، تعيش أزمات اجتماعية خطيرة، تنغّص عليها لذة التقدم، بسبب ما تعانيه من خواء وفراغ روحي.

فالوفرة المادية، والتفوق العلمي، وحدهما لا يمنحان الإنسان السعادة والاطمئنان، وإذا لم يملأ الفراغ الروحي، فإن حياة الإنسان تكون عرضة للعذاب والاضطراب.

اينشتاين نموذجاً

الرجل الذي وضع النظرية النسبية كان فاشلاً في حياته الخاصة، بل كان (البرت اينشتاين) زير نساء، شرساً قاسياً مع أطفاله، وأباً لابنة غير شرعية، لم يرها ولا اعترف بها تدعى (ليزريل)، وتكشف وثائق ومستندات بينها رسائل شخصية ـ ضمن العائلة ـ أن زواج اينشتاين الأول من (ميليغا ماريك) أدى إلى الطلاق بسبب علاقة سرية ربطته بقريبته (إلسا).

وتشير الرسائل إلى شراسة اينشتاين حيال زوجته ميليغا أثناء فراقهما، ممّا أصابها بانهيار عصبي لم تشف منه حتى وفاتها. وتنسحب تلك الشراسة على معاملته ولديه (هانز البرت) البكر وكان في الخامس عشرة عندما غادر والده المنزل العائلي، (وإدوارد) الأصغر الذي أصيب بالخبال بعد طلاق أبويه وأمضى حياته في عيادة سويسرية للأمراض العصبية، فلم يزره والده مرة[7] .

ومثل اينشتاين ما حصل لـ (آرمسترونج: نيل اولدن) وهو أول إنسان وطأت قدماه سطح القمر في 20يوليو1969م، إلا أنه كان يفقد السعادة والاطمئنان، فقد طلق زوجته واصطدم مع أبنائه، واصطبغت حياته بالاضطراب والكآبة.

عن واقع المجتمع الأمريكي

المجتمع الأمريكي هو في القمة من الحضارة المادية المعاصرة، لكن الفراغ الروحي في ذلك المجتمع، أنتج مضاعفات ومعاناة خطيرة في حياة وسلوك الأمريكيين، حيث ينتشر القلق، وتزداد حوادث الانتحار، وتتصاعد جرائم العنف، حتى على مستوى طلاب المدارس الابتدائية، كما تحدثت عن ذلك وسائل الإعلام، عدا عن الفساد الأخلاقي المستشري.

ففي سنة ماضية تصدّر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في أمريكا، حسب صحيفة (نيويورك تايمز) كتاب عنوانه (الخروج النهائي) تأليف البريطاني (ديريك همفري سيتندر) الذي يتحدث عن أساليب الانتحار ووسائله المختلفة، بلغة إرشادية توجيهية[8] .

هذا الواقع المأزوم لفت أنظار المفكرين الغربيين إلى موقع الخلل في الحضارة المادية، وهو الخواء والفراغ الروحي، كما دفع بفئات من المجتمع الأمريكي والغربي، إلى البحث عن مصدر إلهام روحي، يسد ذلك الفراغ، ويملأ ذلك الخواء، مما أفسح المجال لنمو التوجهات الأسطورية والخرافية.

وعن هذه الحالة يتحدث الباحث الأمريكي (روستو) في كتابه الرائد (مراحل النمو الاقتصادي)، حيث يرى:

أن الدول تمر بمراحل عدة: مرحلة المجتمع البدائي، مرحلة التهيؤ للانطلاق، مرحلة النضج، مرحلة الاستهلاك الجماهيري وما بعده. ويؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية، هي المجتمع الوحيد الذي وصل إلى مرحلة الاستهلاك الجماهيري، وأنه ينتقل إلى ما بعده، ومن مظاهر هذه المرحلة أن المجتمع ينتج أكثر مما يستهلك، وتتحدد مشكلته الاقتصادية في خلق الطلب، وليس في توفير العرض، وتتحكم فيه وسائل الإعلام وأدوات الدعاية، فيما يتحول عن الإشباع المادي إلى ما يمكن أن يسمى الاتجاه الروحي، ومن ثم تنتشر الخرافات والأوهام والمذاهب والبدع والادعاءات، سواءً تعلقت بالدين أو خرجت منه أو عليه.

كما يشير إلى أن المجتمع الأمريكي ذو خصوصية مميزه هي الغنى، بل إن الولايات المتحدة أغنى دول العالم، إذ يزيد ناتجها القومي الإجمالي عن 5.5 تريليون دولار، بينما يزيد متوسط الدخل الفردي عن 22 ألف دولار، مع ارتفاع مستوى التصنيع والتقدم التكنولوجي، والعمر المتوقع عند الميلاد. والمدقق في الحياة الأميركية، قد يفاجأ بمظاهر عدة للتدهور الاجتماعي، إلى حد الفوضى الداخلية التي لا رابط لها.

ومن القضايا التي يتناولها التلفزيون الأمريكي أيضاً، مسألة كشف الغموض، ومعرفة الحظ، أو قراءة الطالع، والبحث عن المفقود، حتى وإن كان حبيباً أو رفيقاً، أو ربما مالاً وجاهاً، ففي هذه الحال عليك أن تتصل برقم مكتوب على شاشة التلفزيون، وتحكي ما تعاني منه، أو تبحث عنه، أو ربما ما تريد أن تتجنبه، وسوف تعطى الإجابة عما تريد: هل فقدت مالاً؟ هل فقدت أوراقاً ووثائق مهمة؟ سوف يظهر لك شخص دجال أو طبيب، يقودك بالإيحاء لإيجاد ضالتك ويحصل منك على حاجته وهو المال بالطبع[9] .

الدرس والعبرة

ليس المقصود من استعراض مكمن الضعف والخلل في الحضارة المادية، رسم صورة سوداء قاتمة لهذه الحضارة، ولا مجرد التشهير بأوضاع تلك المجتمعات، فهي حضارة تفرض هيمنتها على واقع الحياة، بإنجازاتها العلمية والتكنولوجية، ويجب أن تطمح مجتمعاتنا للالتحاق بركبها المتقدم، إلا أن المطلوب هو التمييز والفرز بين نقاط القوة والضعف في هذه الحضارة المادية، وحتى ندرك خطورة الجانب الروحي، فلا نتجاهله ونهمله، في تقويم أوضاع مجتمعاتنا، بل نهتم بالبرامج والخطط التي تنمّي التطلعات الروحية وتغذّيها.

إن اللَّه سبحانه وتعالى يحذّر البشرية من أن تجاهل الجانب الروحي يسبب القلق الفردي، والاضطراب الاجتماعي، وبالتالي ضنك العيش، وشقاء الحياة، يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا[سورة طه الآية124] بينما التوازن والتكامل في تلبية احتياجات الإنسان في توجهاتها المادية والعقلية والروحية، يضمن للإنسان حياة طيبة سعيدة: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً[سورة النحل الآية97].

 

 

 

* كلمة الجمعة بتاريخ 21 شوال 1420هـ
[1]  الهندي: علي المتقي، كنز العمال ج6 ص492 رقم16682، الطبعة الخامسة 1985م مؤسسة الرسالة – بيروت.
[2]  خالد: خالد محمد، رجال حول الرسول ص100 دار الكتب الحديثة – القاهرة1968م.
[3]  المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار ج2 ص78.
[4]  المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار ج70 ص267.
[5]  الموسوعة العربية العالمية ج14 ص246 الطبعة الثانية 1999م، الرياض.
[6]  ديورانت: وول، قصة الحضارة ج1 ص117 دار الفكر 1988م.
[7]  الحياة: جريدة يومية ـ لندن 14صفر1414هـ.
[8]  السفير: جريدة يومية – بيروت 30محرم1412هـ.
[9]  الحياة: جريدة يومية ـ لندن 29شوال1415هـ.