عالم الدين وتزكية النفس «الشيخ منصور البيات رحمه الله –انموذجاً»

المهمة الرئيسة والهدف الأساس للدين هو تزكية النفس، وفي الحديث عن وظائف الرسول يذكر القرآن الكريم التزكية كوظيفة أولى، يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ[سورة الجمعة: الآية2]، وتكرر مثل ذلك في ثلاثة موارد أخرى.

والتزكية هي حكمة أكثر التشريعات الإسلامية، فأخذ الزكاة والصدقة لإيجاد التزكية في نفوس المعطين، يقول تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا[سورة التوبة: الآية103].

وغض البصر عن المحرمات وضبط الشهوة الجنسية هو وسيلة للتزكية أيضاً، يقول تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ[سورة النور: الآية30].

والتزكية هي سبيل الفلاح والنجاح ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا[سورة الشمس: الآية9] مع ملاحظة أن هذه الآية قد جاءت جواباً لعدة أقسام أقسم اللَّه تعالى بها في بداية سورة الشمس، يقول تعالى: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا بعد هذه الأقسام العديدة بأهم الموجودات الكونية، يأتي جواب القسم ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. مما يدل على أهمية هذه الحقيقة وخطورتها.

وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى[سورة الأعلى: الآية14].

وحينما يبشّر الملك السيدة مريم بنت عمران بمولودها النبي عيسى يكتفي بوصفه بأنه غلام زكي ﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا[سورة مريم: الآية19].

معنى التزكية

التزكية التي هي هدف الرسالات، ومهمة الأنبياء، وحكمة التشريعات، وسبيل الفلاح والنجاح، ماذا تعني وما هو المقصود بها؟

التزكية من الزكاء والزكاة. قال في لسان العرب: هي بمعنى النماء، جاء في كلام الإمام علي : «المال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق». وكل شيء يزداد وينمو فهو يزكو زكاء.

وتعني الزكاة أيضاً: التطهير. وقوله تعالى: ﴿وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا، قالوا: تطهرهم بها.

كما تعني: الصلاح. قال الفراء: زكاةً صلاحاً، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً، قال: صلاحاً. ولكن اللَّه يزكّي من يشاء أي يصلح. وفي حديث الباقر أنه قال: «زكاة الأرض يُبسها» يريد طهارتها من النجاسة كالبول وأشباهه بأن يجف ويذهب أثره[1] .

وجاء في مجمع البحرين: التزكية: التطهير من الأخلاق الذميمة. وفي الغريب: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا أي ظفر من طهر نفسه بالعمل الصالح. قوله تعالى: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً أي طاهرة. قوله تعالى: ﴿غُلاَمًا زَكِيًّا أي طاهر من الذنوب. وقد تكرر ذكر الزكاة في الكتاب والسنة، وهي إما مصدر (زكا) إذا نما لأنها ستجلب البركة في المال وتنميه، وأما مصدر (زكا) إذا طهر لأنها تطهر المال من الخبث، والنفس البخيلة من البخل[2] .

ومن معناها اللغوي يتبين المقصود منها، وأنه تطهير النفس وإصلاحها، ونماء النوازع والتوجهات الخيرة لديها.

عالم الدين

وإذا كان الدين يستهدف إحداث حالة التزكية في نفس الإنسان، فإن إنجازها وتحقيقها إنما يتم بمعرفة هدي الدين وتوجيهاته، وبالاقتراب من منابعه وأجوائه.

وعالم الدين لاطلاعه الواسع على التعاليم، ولتواصله الدائم مع المفاهيم والنصوص الدينية، فإنه أولى وأحرى بامتلاك هذه الحالة (تزكية النفس). وأيضاً لأنه في موضع القدوة للآخرين، والداعية والمرشد لهم، فلا بد أن يتصف هو أولاً ويتحلى بما يدعو الآخرين إليه.

من هنا تؤكد النصوص الدينية ضرورة توفّر عالم الدين على طهارة النفس وصفائها، وأن لا يكون متعلقاً بالأهواء والشهوات، أو منطوياً على الضغائن، يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[سورة فاطر: الآية28].

وورد عن علي أمير المؤمنين أنه قال: «لا يكون العالم عالماً حتى لا يحسد من فوقه، ولا يحتقر من دونه، ولا يأخذ على علمه شيئاً من حطام الدنيا»[3] .

وعنه أيضاً :

 «من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلّم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلّم الناس ومؤدبهم»[4] .

وروي عن رسول اللَّه أنه قال: «مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار. قلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون»[5] .

وفي حديث عن الإمام جعفر الصادق : «يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد»[6] .

القدوة الحسنة

لقد رزئنا هذه الأيام بمصيبة عظيمة، هي فقد عالم تقي ورع، يجسّد القدوة الحسنة لتزكية النفس، هو العلامة الشيخ منصور البيات (تغمده اللَّه برحمته).

وإن ما رافق وفاته من اهتمام شعبي ورسمي، حيث كان تشييعه عصر يوم الثلاثاء الماضي 29 شعبان ملحمة دينية وطنية رائعة في القطيف، كما أن الحشود الكبيرة التي تؤم مجلس العزاء المنعقد لرحيله، والبرقيات التي جاءت من كبار المسؤولين، ومن مراجع الدين، ومختلف الشخصيات العلمية والاجتماعية، كل ذلك ليؤكد تأثير السيرة الصالحة في نفوس الناس.

ولا نريد الحديث في هذه الكلمة عن فضيلته العلمية، فشهادات العلماء المراجع في حقه تبين مكانته المرموقة، كما لا نريد الحديث عن مؤلفاته وكتاباته، التي تبلغ خمسة وثلاثين كتاباً، رغم أنه كان كفيف البصر، كبير السن، يعاني الآلام والأسقام.

إنما نخصص حديثنا حول ما كان يتمتع به من صفاء نفس، وطهارة قلب، حيث جسّد في واقع مجتمعنا سيرة العالم الزاهد، الذي زكّى نفسه، فطاب سلوكه وحسنت سيرته.

ونشير إلى معلمين بارزين في سيرته العطرة، ليكونا مجالاً للاقتداء والتأسي.

الخروج من أسر المطامع

يتعجب الكثيرون من حياة الزهد التي كان يعيشها الشيخ الفقيد، فهو سليل أسرة ثرّية، وتحت تصرفه إمكانات وافية، لكنه من بداية حياته، اختار طريق العلم والدين، واختطَّ لنفسه مسيرة الزهد والكفاف، فهو يسكن منزلاً صغيراً قديماً، وبتأثيث متواضع جدًّا، ويتجنب مختلف ألوان الطعام والشراب، إلا ما يسدّ الرمق، ويبقيه على قيد الحياة.

كما كان شعبياً متواضعاً في تعاطيه مع الناس والأمور، لا يحيط نفسه بأي أُبهة، وبعد أن قطع شوطاً في دراسته العلمية في وطنه القطيف، كان يحظى بمكانه وثقة واحترام، لكنه قرر مغادرة وطنه، والانتقال إلى النجف الأشرف، سنة 1380هـ وهو في الخامسة والخمسين من عمره ليتابع دراسته العلمية، وهو قرار فيه الكثير من الجرأة، بالنسبة لشخص في مثل سنه ووضعيته، كفاقد للبصر، وليس لديه ولد يساعده، إذ كان قد فقد ولده الوحيد (أحمد) الذي كان في ريعان شبابه، كما أن في ذلك القرار تخلياً عن الوضع الاجتماعي المحيط به.

هكذا اتخذ قراره وسافر، مستعداً لمشاق الغربة، دون أن يمنعه عن ذلك أي مطمع أو ميل للراحة.

وعاد إلى وطنه بعد عشرين عاماً، حينما ساءت الأوضاع والأمور في العراق، وقد أحرز مستوىً علمياً متقدماً، لكنه لم يكن يطمح إلى أي موقع أو منصب، ولم يتغير شكل تعامله مع الناس، بل ازداد تواضعاً وزهداً، وعزوفاً عن المطامع.

وعالم الدين لا يستطيع أن يؤدي دوره بأكمل وجه، إلا إذا اتصف بالزهد، وجوهر الزهد هو عدم الخضوع للمطامع والشهوات، ليكون داعية للناس بسيرته وسلوكه، ويصبح أنموذجاً ومصداقاً للالتزام بالقيم والمبادئ، ومن ثم تأخذ موعظته موقعها في القلوب. أما إذا كان عالم الدين لاهثاً خلف المطامع والمناصب والشهوات، فإنه سيشكل خطراً كبيراً على دين اللَّه.

ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق : «من ازداد في اللَّه علماً، وازداد للدنيا حباً، ازداد من اللَّه بعداً، وازداد اللَّه عليه غضباً»[7]  وعنه : «إذا رأيتم العالم محباً للدنيا فاتهموه على دينكم فإن كل محب يحوط ما أحب»[8] .

إن مظهر الزهد وتجلياته تختلف من إنسان إلى آخر، وليس المطلوب الاقتداء بحرفية حياة أي زاهد من الزهّاد، لكن المهم التوفّر على حقيقة الزهد وجوهره، وهو الانعتاق من أسر المطامع والشهوات، وكما يروى عن رسول اللَّه أنه قال: «الزهد ليس بتحريم الحلال ولكن أن يكون بما في يدي اللَّه أوثق منه بما في يديه»[9]  ويروى عن الإمام علي : «ليس الزهد أن لا تملك الشيء ولكن الزهد أن لا يملكك الشيء».

صفاء التعامل مع الناس

كان الشيخ الفقيد منفتحاً على الناس، بشرائحهم المختلفة، وتوجهاتهم المتعددة، لم يكن يحمل في قلبه حقداً على أحد، ولا كراهية لأحد.

ومع أنه كانت له أفكاره وآراؤه الخاصة، لكنه لم يعاد أحداً لاختلافه معه في الرأي، ولا دخل معركة أو نزاعاً حول قضية من القضايا.

عاصر الكثير من الخلافات المرجعية، بين بيت هذا المرجع وذاك المرجع، وبين جماعة هذا المرجع وذلك المرجع، لكنه لم يتخذ موقفاً تجاه أحد على هذا الأساس، ولا قاطع جماعة من الجماعات، أو حارب اتجاهاً من التوجهات، بل كان يتسامى على هذه الأمور ويأخذ موقع الأبوة والمحبة للجميع، لذا احترمه الجميع وتواصلوا معه وأحسوا بالخسارة لفقده.

ما كان يذكر عالماً من العلماء إلا بخير، ولا كان يرضى أن يستغاب أحد أو ينتقص من شأنه في مجلسه، بل ربىّ من حوله على الاحترام للجميع.

وهكذا يجب أن يكون عالم الدين خالياً من الأحقاد، بعيداً عن العداوات والنزاعات، يفيض محبة، ويكرّس حالة الوحدة والألفة في المجتمع.

لقد عانى مجتمعنا كثيراً من الخلافات والصراعات في الوسط الديني، حيث يتشدد كل طرف في مواقفه، ويتشنّج على الأطراف الأخرى، ويأخذ لنفسه دور الوصاية والمحاسبة للآخرين، على آرائهم ومواقفهم وتوجهاتهم، فالدين والحق ما يراه هو فقط، أمّا الآخرون فيحكم عليهم بالضلال والفسق والانحراف.

وهكذا تمزق المجتمع، وقلّت المصداقية والثقة لعلماء الدين في نفوس الناس.

إننا بحاجة ماسّة إلى تجاوز هذه الحالات، والتركيز على التحديات الخطيرة التي يواجهها ديننا ومجتمعنا، والتعاون في القضايا المشتركة، وهي أكثر وأهم من مسائل الاختلافات الجزئية الجانبية.

ولنستثمر هذا الزخم المعنوي الاجتماعي، الذي أحدثه فقد الشيخ الراحل، وهذا الاجتماع الحاشد الذي شارك فيه الجميع، من أجل تعميق حالة الوحدة والتآلف في المجتمع.

ولتكن أخلاقه الطيبة وسيرته العطرة قدوة للمؤمنين، وخاصة لأبناء صنفه من العلماء، وطلاب العلوم الدينية.

 

 

* كلمة الجمعة بتاريخ 2 رمضان 1420هـ
[1]  ابن منظور، لسان العرب المحيط ج3 ص36 دار الجيل – دار لسان العرب، بيروت 1988م.
[2]  الطريحي: فخر الدين، مجمع البحرين ج1 ص203 ـ 205.
[3]  الآمدي التميمي: عبد الواحد، غرر الحكم ودرر الكلم ج2 ص370، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت.
[4]  الموسوي: الشريف الرضي، نهج البلاغة، قصار الحكم ـ رقم73.
[5]  الريشهري: محمدي، ميزان الحكمة ج6 ص514.
[6]  المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار ج2 ص27.
[7]  المصدر السابق ج70 ص124.
[8]  المصدر السابق، ج2 ص107.
[9]  المصدر السابق ج74 ص172.