شهر رمضان و عادات خاطئة

شهر رمضان المبارك أفضل منطقة زمنية يمر بها الإنسان خلال العام، حيث اختصه اللَّه تعالى بالخير والفضل، من بين سائر الأزمنة والأوقات، وجعل فيه ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، واختاره ليكون مهبطاً لوحيه ورسالاته، حيث أنزل فيه القرآن، وقبل ذلك كان فيه نزول التوراة والإنجيل والزبور.

ويكفي في فضل هذا الشهر ما ورد عن رسول اللَّه : «سيد الشهور شهر رمضان»[1] .

وعنه : «أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر اللَّه بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند اللَّه أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة اللَّه، وجعلتم فيه من أهل كرامة اللَّه»[2] .

ولتأكيد الخاصية والتميزّ لهذا الشهر الكريم، فرض اللَّه صيامه على الناس، ليعيشوا فيه جواً وبرنامجاً فريداً، يساعدهم على الارتقاء لمكانة هذا الشهر، ومقامه العظيم.

والصوم له فوائد ومنافع عظيمة، فمن الناحية الصحية يتيح الصوم راحة فسيولوجية لأعضاء الجسم، من عمليات هضم الغذاء، كما يعطي فرصة لاستهلاك المدخر منه، وطرح السموم المتراكمة فيه، وتنشيط عمليات الاستقلاب الحيوية، لذا يهتم الآن قسم من الأطباء بما يطلقون عليه (الصيام الطبي) ويقيمون له المصحات الطبية، التي تعالج اضطراب الجسم وبعض أمراضه المزمنة، وقد صنفت حوله كتب علمية متداوله ككتاب (التداوي بالصوم) لمؤلفه (هـ.م.شيلتون) الذي ترجم إلى اللغة العربية ونشر عام 1987م من قبل دار الرشيد ـ دمشق/ بيروت.

وعلى الصعيد النفسي فإنه دورة تدريبية، لتربية الإنسان على التحكم في رغباته وشهواته، حيث يمتنع بقرار ذاتي عن الطعام والشراب، وسائر المفطرات، مع ميله إليها، أو حاجته لها، في بعض الأحيان.

واجتماعياً: يتحسس الإنسان من خلال الصوم جوع الفقراء والمعدمين، ويشعر بمعاناتهم وحاجتهم.

وروحياً: فإن التسامي على الرغبات، والتفاعل مع الأجواء المباركة للشهر الكريم، ينتج صفاءً روحياً، وحيوية معنوية عالية.

لكن هذه الفوائد والمنافع وأمثالها، إنما تتحقق مع الوعي بها والتوجه إليها، وإتاحة الفرصة لفريضة الصوم المباركة، ولأجواء رمضان الكريمة، أن تؤدي مفعولها، وتعطي آثارها، دون معوقات أو حالات مضادة مناوئة.

وما يؤسف له هو نمو بعض العادات الخاطئة، والحالات السلبية، التي تجهض آثار الصوم، وتقلل الاستفادة من بركات الشهر الكريم.

وفي هذه الكلمة نسلط الأضواء على ظاهرتين سلبيتين، تنتشران في أغلب أوساط الصائمين، فتسبب حرمانهم من الاستفادة المطلوبة، من عطاء هذا الشهر المبارك.

لا للكسل والخمول

حينما يمتلك الإنسان وقتاً غالياً مهماً، فإن عليه أن يقضيه في أفضل الأعمال والبرامج، لا أن يضيعه في التوافه والأمور البسيطة.

وشهر رمضان كأفضل وأغلى فترة زمنية تمر على الإنسان في العام، ينبغي له أن يحرص على كل ساعة من ساعاته، ولحظة من لحظاته، فكما ورد في كلام رسول اللَّه : «أيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات».

ومعنى ذلك أن يحفل شهر رمضان بأفضل البرامج، وأحسن الأعمال، وأن يكون إنتاج الإنسان فيه أكثر، وفاعليته أكبر.

لذا نرى التعاليم الإسلامية تقدم برامج مكثفة من الأعمال العبادية في شهر رمضان:

 ـ فهناك أوراد وصلوات مستحبة كثيرة.

 ـ وأدعية متنوعة لأيام وليالي هذا الشهر، يقول الإمام علي : «عليكم في شهر رمضان بكثرة الاستغفار والدعاء».

 ـ وقراءة القرآن يستحب زيادتها ومضاعفتها، كما ورد في الحديث عن الإمام الباقر : «لكل شيء ربيع، وربيع القرآن شهر رمضان».

وفي المجال الاجتماعي: هناك توجيه ديني لتكثيف النشاط الاجتماعي في شهر رمضان، كما نقرأ في خطب رسول اللَّه عن هذا الشهر الكريم حيث يقول:

 «وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم.. وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم».

 «من فطّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر كان له بذلك عند اللَّه عتق نسمة ومغفرة لما مضى من ذنوبه». وفي حديث آخر: «من أفطر صائماً فله مثل أجره».

هذه الروايات وأمثالها تعني أن تكون للإنسان برامج مكثفة، خلال شهر رمضان، في الجانب العبادي، والمجال الاجتماعي، فتكون أوقات الإنسان فيه معمورة بالنشاط، حافلة بالحركة.

فهو شهر النشاط والحركة والعمل.

لكن ما تعوده الكثيرون في مجتمعاتنا، هو اتخاذ هذا الشهر الكريم موسماً للخمول والكسل، حيث يتدنى فيه الأداء التعليمي في المدارس، والوظيفي في الدوائر والمؤسسات، ويقضي قسم كبير من الناس فيه النهار نوماً واسترخاءً، بحجة الصيام، وكأن الصوم داعٍ للكسل، أو بديل عن العمل، فيوقف الإنسان حركته لكي يصوم، وتلحظ بعض التقارير انخفاض مستوى الإنتاجية العملية لدى قسم من المجتمعات الإسلامية في شهر رمضان..

بينما نجد في تاريخنا الإسلامي أن شهر رمضان المبارك قد احتضن الكثير من المعارك الفاصلة بين المسلمين والكفار، وسجّل المسلمون فيه أروع البطولات والانتصارات، فغزوة بدر الكبرى وقعت في أول شهر رمضان يفرض اللَّه صومه، في السنة الثانية للهجرة، وفتح مكة المكرمة حصل في شهر رمضان، للسنة الثامنة للهجرة، وفي شهر رمضان فتح المسلمون جزيرة (رودس) سنة 53هـ كما فتحوا ثغور الأندلس على يد موسى بن نصير عام 91هـ.

وفيه انهزام الإفرنج المسيحيين الذين استولوا على سوريا وضواحيها، على أيدي جيوش المسلمين عام 584هـ.

وآباؤنا وأجدادنا كانوا يصومون شهر رمضان، مع قيامهم بكل وظائفهم الحياتية، فما كانت الأعمال تتوقف في بلادنا فترة الصيام.

فكيف حدثت هذه الظاهرة السلبية باستيلاء الخمول والكسل على الكثيرين نهار شهر رمضان؟

إن إحياء ليالي شهر رمضان بالعبادة وأعمال الخير شيء جيد، لكن الكثيرين يسهرون الليل في جلسات فارغة، أو ضمن برامج غير مفيدة، يراد منها تمرير الوقت، ثم يقضون أغلب نهارهم نياماً على حساب الإنتاجية والعمل.

ومن الناحية الصحية: فإن النوم فترة الصيام، يضعف استفادة الجسم من الصوم، فقد ذكرت المراجع الطبية: أن الحركة العضلية في فترة ما بعد امتصاص الغذاء –أثناء الصوم – تنشط جميع عمليات الأكسدة لكل المركبات التي تمد الجسم بالطاقة، وتنشط عملية تحلل الدهون، كما تنشط أيضاً عملية تصنيع الجلوكوز بالكبد، من الجليسرول الناتج من تحلل الدهون في النسيج الشحمي، ومن اللاكتيت الناتج من أكسدة الجولكوز في العضلات.

ويحتوي كتاب (الصيام معجزة علمية) للدكتور عبد الجواد الصاوي، على بحث علمي جميل حول هذا الموضوع تحت عنوان: (هل الأفضل في الصيام الحركة أم السكون؟)[3] .

مضافاً إلى ذلك فإن نوم النهار للصائم يشكل مصادرة لأغلب استهدافات الصوم.

فهو لا يتحسس الجوع، ولا تستثيره الرغبة أو الشهوة، فكيف يصدق على الصائم النائم أنه يذوق مسّ الجوع فيشعر بمعاناة المعدمين؟ أو أنه يتعالى على شهواته ورغباته فتنمو عنده ملكة التقوى؟

وإذا كان الإنسان طوال السنة، يأكل ويشرب أثناء النهار، ويمتنع عن الأكل والشرب عند نومه في الليل، فإنه في هذه الحالة يعكس برنامجه، فيأكل ويشرب أثناء الليل، ويمتنع عن الأكل وهو نائم في النهار فما الفرق إذاً؟

انطلاق شهوة الطعام

من أجلى فوائد الصوم الظاهرة تربية الإنسان على التحكم في شهوة الطعام، ذلك أن هناك مستويين في تناول الإنسان للطعام.

المستوى الأول: حاجة الجسم إلى الغذاء، لأنه مكوّن من ذرات عناصر الأرض: التراب والماء والهواء، وقد سخر اللَّه تعالى النبات والحيوان كغذاء للإنسان، يمد جسمه بهذه العناصر والمركبات، لتستمر حياته ونموه، ويكفي لتحقيق هذا الغرض مقدار محدود من الغذاء «حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه» كما روي عن النبي [4] .

المستوى الثاني: حالة الرغبة والشهوة، حيث يتلذذ الإنسان بمذاقات الطعام، وتستهويه ألوانه المختلفة، فيأكل استجابة لهذه الرغبة، متجاوزاً حاجة جسمه، بل قد يأكل ما يضّر جسمه من حيث الكمية أو النوعية.

وهنا يفترق الإنسان عن الحيوانات، حيث ترتبط شهيتها بحاجة جسمها، وللوظيفة التي سخرت لها، أما الإنسان فشهيته أوسع مدى من حاجته، فإذا استجاب لها واسترسل في الأكل والشرب، فإن ذلك يسبب له العديد من الأمراض والأسقام.

لذا يحذّر الطب من الإفراط في الطعام، وعدم التوازن فيه، كما تشددّ على ذلك التعاليم الدينية، روي عنه : «إياكم وفضول المطعم فإنه يسمّ القلب بالفضلة»، ويقول الإمام علي : «من كثر أكله قلّت صحته»[5] .

وأغلب مشاكل الإنسان الصحية تأتيه من الاسترسال مع شهوة الطعام والشراب، وخاصة في هذا العصر الذي تتفنن فيه وسائل الدعاية والإعلام، لتشجيع حالة الاستهلاك، وتسعى مصانع ومتاجر الأغذية، لإثارة رغبات الناس أكثر في ألوان المنتجات الغذائية، كما أن طبيعة الحياة عند الكثيرين لا تستلزم بذل جهد وحركة، لتصريف الطاقة التي يوفرها الطعام للجسم.

وتأتي فريضة الصوم لتلفت نظر الإنسان إلى ضرورة التحكم في طعامه وشرابه، وضبط رغبته وشهيته، لكن المؤسف جداً هو ما يسود حياة أغلب مجتمعاتنا، حيث ترتفع وتيرة الاستهلاك الغذائي في شهر رمضان، وحسب بعض التقارير الاقتصادية، فإن استهلاك الدول الإسلامية من المواد الغذائية يزداد في شهر رمضان.

فقد أصبح الشهر الكريم موسماً للأكل، وانطلاق شهوة الطعام! فما أن يحين وقت الإفطار حتى يندفع الإنسان للمائدة بنهم وشره، وكأنه ينتقم لبطنه من فترة صومه!!

انتشار السكري وأمراض القلب

وفي مجتمعاتنا وحيث الوفرة الاقتصادية، والاسترسال مع الشهيّة والرغبة، أصبحنا نعاني من انتشار بعض الأمراض الخطيرة، التي تنتج غالباً من عدم التحكم في البرنامج الغذائي.

فقد أعلن في مؤتمر السكر العالمي الذي انعقد مؤخراً بالقاهرة، عن تصدر المملكة العربية السعودية لقائمة الدول التي ينتشر بها مرض السكري، بعد أن تم تشخيص 900 ألف حالة سكري بالمملكة أي ما يعادل 17% من جملة السكان.

كما عقد أخيراً المجمع الطبي بالظهران مؤتمراً بعنوان (السكري.. آفاق مستقبلية)، أشارت بحوثه إلى مضاعفات مشاكل السكري الخطيرة كالفشل الكلوي والنوبات القلبية وبتر الأطراف.

ففي عام واحد حصلت 13 ألف عملية بتر أعضاء في المملكة بسبب السكري، وفي الرياض وحدها تجري 36 عملية بتر أعضاء يومياً!! وهي نسب أعلى من المعدلات العالمية.

ويشير التقرير السنوي الذي تصدره منظمة الصحة العالمية إلى أن معدل الزيادة السنوية لمرض السكر في المملكة نسبتها 4% أي إن 36 ألف شخص جديد كل عام يصابون بالسكري في المملكة!! والمنطقة الشرقية قد تكون هي الأولى في زيادة الإصابة بهذا المرض[6] .

وإلى جانب مرض السكري يزداد انتشار أمراض القلب التي تنشأ غالباً من زيادة نسبة الكلوسترول والدهون في جسم الإنسان.

إن علينا أن نعيد النظر في برامجنا وعاداتنا الغذائية مع تغيّر نمط حياتنا ومعيشتنا، ولا يصح أبداً الاستجابة للرغبات والشهوات على حساب صحتنا ومستقبل حياتنا.

وعلينا أن نسأل أنفسنا: هل نحن نعيش لنأكل أم نأكل لنعيش، إذا كان الأكل من أجل الحياة فلنضبطه حسب مصلحة الحياة.

وشهر رمضان ينبغي أن نتدرب فيه على الانضباط الغذائي، لنستفيد من فريضة الصوم العظيمة.

 «اللَّهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والعافية المجلّلة والرزق الواسع ودفع الأسقام، اللَّهم ارزقنا صيامه وقيامه وتلاوة القرآن فيه. اللَّهم سلّمه لنا وتسّلمه منا وسلّمنا فيه»[7] .

 

* كلمة الجمعة بتاريخ 25 شعبان 1420هـ
[1]  الهندي: علي المتقي، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال ج8 حديث رقم23670 ص463 الطبعة الخامسة 1985م مؤسسة الرسالة – بيروت.
[2]  المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار ج93 ص356 الطبعة الثانية 1983م دار التراث العربي ـ بيروت.
[3]  الصاوي: الدكتور عبد الجواد، الصيام معجزة علمية ص114 ـ 123 الطبعة الأولى 1993م دار القبلة – جدة.
[4]  المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار ج63 ص329 الطبعة الثالثة، دار التراث العربي – بيروت.
[5]  الريشهري: محمدي، ميزان الحكمة ج1 ص117 ـ 118.
[6]  الشرق: مجلة أسبوعية، العدد999 ص14.
[7]  من دعاء رسول اللَّه .