اختيار الزوج بين الفتاة وأهلها

كلما كان القرار الذي يريد الإنسان اتخاذه أكثر تأثيراً في حياته، كان في حاجة أكثر إلى الدراسة والتأني قبل اتخاذه، حتى يتجنب الانعكاسات الخطيرة للخطأ في ذلك، أما إذا كان القرار يتعلق بشيء بسيط، فقد لا يكلف نفسـه عناء المـزيد من التفكير فيه.

ولعل من أهم القرارات التي يتخذها الإنسان، هو قرار اختيار شريك الحياة، لتأسيس حياته العائلية الاجتماعية، لما لذلك من التأثير الواسع المدى على مستقبله، ولما للحياة الزوجية من أهمية وخطورة، تلامس جميع جوانب شخصية الإنسان.

فإذا توفق في الاختيار، ورزقه اللَّه زوجاً صالحاً، عاش السعادة والهناء، أما إذا ابتلي بزوج سيئ، فسيعاني نكد العيش ومرارة الحياة، لذا يتوجه المؤمن إلى اللَّه تعالى بالدعاء ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ[سورة الفرقان: الآية74].

وعند التفكير في اختيار الشريك يحتاج الإنسان إلى سلامة ووضوح مقاييس الاختيار، فعلى أي أساس يختار؟ وما هي المواصفات التي ينشد توفرها في الطرف الآخر؟

والتعاليم الإسلامية ترشد الإنسان إلى المقاييس الصحيحة، التي يجب أن يضعها نصب عينيه عند الاختيار، وقد نحتاج إلى بحث خاص لتناولها والحديث عنها.

وما نريد التركيز عليه في هذا الموضوع، هو قرار الفتاة في اختيار شريك حياتها، فالأمر بالنسبة لها اشدُّ خطورة من الرجل، ذلك لأن فرصة الرجل في معالجة الخطأ في هذا القرار، أكبر بكثير من فرصة المرأة، فالمبادرة بيده من الناحية الشرعية، وبإمكانه فك العلاقة والارتباط إذا ما أراد، أما المرأة فلا تملك هذا الحق شرعاً، إلا ضمن استثناءات محددة.

من هنا تحتاج الفتاة أكثر إلى التفكير السليم عند الاختيار، ومشكلة الكثير من الفتيات، أنهن يقعن تحت تأثير العامل الغريزي العاطفي بدرجة كبيرة، حيث تتأثر الفتاة غالباً بما تسمعه من كلمات غزل وحب، وتنخدع ببعض المظاهر والحركات الشبابية، وحيث ترى نفسها تعيش دوراً هامشياً في بيت أهلها تندفع مع أقرب فرصة لبناء كيانها الاجتماعي المستقل.

بالطبع لا يمكن التعميم، فهناك من الفتيات من يمتلكن النضج والرشد، ويتعالين على هذه المؤثرات.

وحماية لمستقبل الفتاة، ولترشيد قرار اختيارها، جعل الإسلام لولي أمرها دوراً في هذا القرار، على رأي قسم من الفقهاء، ويتضح ذلك في النقاط التالية:

المرأة الثيِّب

إذا كان سبق للمرأة أن تزوجت، وعاشت حياة زوجية، أي دخل بها زوجها، ثم انفصلت عنه أو توفي عنها، فإنها حينئذٍ ما دامت بالغة رشيدة، وقد مرت بتجربة زوجية، فقرارها في اختيار زوج جديد يكون بيدها، ولا يملك أحد من أهلها حق الاعتراض والمنع، هذا في رأي فقهاء الشيعة والأحناف.

فهي ليست جديدة على الحياة الزوجية، ويفترض أنها تستفيد من تجربتها السابقة، فيكون قرارها نابعاً من نضج وخبرة، وليس اندفاعاً عاطفياً طائشاً.

بالطبع لا يشمل هذا من انفصلت عن زوجها أو توفي عنها قبل الدخول، لأن مجرد عقد الزواج لا يجعلها ثيباً.

وإذا كان الإسلام ـ وفق هذا الرأي ـ لم يعط لأحد من أهلها حق منعها من اتخاذ القرار، فهذا لا يعني أن تزهد في استشارتهم، والاستفادة من رأيهم، لذا قال الفقهاء إنه ينبغي للمرأة المالكة أمرها، أن تستأذن أباها أو جدها، وإن لم يكونا فأخاها وإن تعدد الأخ اختارت الأكبر[1] .

الفتاة البكر

أما الفتاة البكر، التي لم يسبق لها أن دخلت تجربة حياة زوجية، فهناك رأيان بارزان لفقهاء الإسلام في قرار اختيارها الزوج.

الرأي الأول: أنها تمتلك كامل قرار الاختيار، ولا تحتاج إلى إذن من أبيها أو جدها أو أي أحد، وبهذا الرأي قال جمع من فقهاء الشيعة السابقين، كالسيد المرتضى والإسكافي والحلي والمفيد والديلمي والمحقق والفاضل والشهيدين[2] ومن المعاصرين السيد السبزواري والشيخ محمد أمين زين الدين والشيخ محمد جواد مغنية، ويذهب إلى هذا الرأي من أئمة أهل السنة أبو حنيفة وأبو يوسف.

الرأي الثاني: يشترط إذن ولي الفتاة وهو رأي أكثر فقهاء الشيعة المعاصرين، على نحو الفتوى أو الاحتياط الوجوبي، وأيضاً هو رأي جمهور أهل السنة.

وولي الفتاة الذي يؤخذ رأيه في الفقه الجعفري هو الأب أو الجد للأب فقط حيث يكفي موافقة أحدهما ولا ولاية لغيرهما على الفتاة البالغة الرشيدة.

بينما تتسع دائرة الولاية في هذا المجال عند أهل السنة لتشمل العصبات للمرأة: الأبوة ثم البنوة ثم الأخوة ثم العمومة على خلاف بينهم في ترتيب الأولياء.

حكمة إذن الولي

تقدمت الإشارة إلى أن اشتراط الشارع إذن الولي في إمضاء زواج الفتاة البكر، هو من أجل ترشيد قرارها، حتى لا يكون اختيارها نابعاً من حالة عاطفيـة، دون التأكد من صلاحيـة من تريد الاقتران به.

وخاصة في المجتمعات المحافظة، فإن الفتاة ليست منفتحة على مجتمع الرجال، لتعرف سلوك الخاطب لها، ومستواه ودرجة صلاحيته، وأبوها أو جدها يفترض فيهما الحرص على مصلحتها، ورغبتهما في سعادتها، لذا كان لرأيهما دخل في إمضاء زواجها.

أما غيرهما فليس له حق المنع، حسب الفقه الجعفري، نعم يستحب للفتاة أن تستشير من تثق به من أهلها، لكن ليس لأحد منهم حق المنع.

وما يمارسه بعض الأقرباء من التدخل في شأن زواج أخته، أو ابنة أخيه، أو ابنة أخته، أو ابنة عمه، أو ما أشبه، بالعرقلة والتعويق، هو تدخل طفولي لا يقره الشرع، يقول الفقيه السيد محمد سعيد الحكيم:

ليس لأحد من الأرحام مع فقد الأب والجد للأب الولاية على البالغة البكر فضلاً عن غيرها، بل تستقل فيه بنفسها، وما قامت عليه بعض الأعراف من تدخل الأرحام ومنعهم للمرأة عما تريد، أو عما يريده لها وليها مع وجوده، ظلم صارخ، وخروج عن الموازين الشرعية وانتهاك لحدود اللَّه تعالى، وتجاهل لأحكامه في عباده، وهو من أسباب الفساد المهمة، التي قد يترتب عليها ردود فعل لا تحمد عقباها، يتحمل المفسد عارها وشنارها في الدنيا، وتبعتها ومسؤوليتها في الآخرة، ﴿يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ[3] .

إن بعض الفتيات ـ كما لاحظت ـ ينـزعجن من ممارسة وليهنّ لهذا الدور، وتسيطر عليهن الانفعالات الحادة، عندما يقف الولي أمام رغبتهن في اختيار الزوج، ولكن المطلوب من الفتاة أن تتفهم هذا الحكم الشرعي، وأن تتفهم دور أبيها الذي رباها وتحمل مسؤولية رعايتها، وهو حريص على سعادتها ومستقبلها، وهو أكثر منها تجربة وخبرةً ومعرفة بأوضاع المجتمع وأفراده، وحينما يرفض خاطباً يتقدم لها إنما هو من منطلق عدم كفاءة ذلك الخاطب وصلاحيته.

ويحصل في بعض الحالات أن الفتاة تصر على رغبتها في الزواج من خاطب معيّن، مع رفض أبيها، ويضطر الأب للتنازل عن رأيه، والاستجابة لرغبتها، مع تحميلها مسؤولية مستقبلها، فماذا يحدث بعد ذلك؟

يحدث أحياناً أن تجد البنت نفسها في ورطة الحياة مع شخص لا يحسن التعامل معها، ولا يتحلى بالصفات المطلوبة والسلوك المناسب، فتدرك بعد فوات الأوان أنها كانت مخطئة في الاختيار، وتدفع ثمناً باهظاً.

سوء استخدام الحق

لكن بعض الآباء قد يسيء استخدام هذا الحق، فيعترض على اختيار ابنته دون مبرر، ويمنعها من الزواج مع أن المتقدم لها كفؤ صالح، مما يسبب تأخير زواجها لفترة طويلة، وقد تصبح في عداد العانسات، وقد يكون السبب لذلك تمسك الأب ببعض المقاييس المادية والمصلحية، التي يريد توفرها في خاطب ابنته، كأن يكون ثرياً، أو في مستوى وظيفي معين، أو لأن الأب يريد زواج ابنته من شخص معين، من أقربائه أو أصدقائه، أو لأن بين الأب وأم الفتاة مشكلة، كأن تكون مطلقة منه، أو معلقة، فيصّفي خلافه معها على حساب ابنته، ولاحظت أن أحد الآباء كان طامعاً في دخل ابنته الموظفة، لذلك فهو يعوّق ويؤخر زواجها، باختلاق الأعذار والمبررات تجاه الخاطبين.

إن مثل هذه الحالات قد تحدث، لكن ما ينبغي الالتفات إليه، هو أن الإسلام يسلب هذا الحق من الولي الذي يسيء استخدامه، فإنما يحق له المنع والاعتراض، إذا كان الخاطب غير كفؤ، وغير صالح، أما إذا كان كفواً مناسباً، ومع ذلك اعترض الأب فإن حقه في الاعتراض، وولايته على الفتاة تسقط هنا. يقول الفقهاء: «إذا عضلها الولي أي منعها من التزويج بالكفء مع ميلها سقط اعتبار إذنه»[4] .

 «اتفق العلماء على أنه ليس للولي أن يعضل مولاته، ويظلمها بمنعها من الزواج، إذا أراد أن يتزوجها كفء بمهر مثلها، فإذا منعها في هذه الحال كان من حقها أن ترفع أمرها إلى القاضي ليزوجها. ولا تنتقل الولاية في هذه الحالة إلى ولي آخر يلي هذا الولي الظالم، بل تنتقل إلى القاضي مباشرة، لأن العضل ظلم، وولاية رفع الظلم إلى القاضي»[5] .

وينهى القرآن الكريم عن إعضال المرأة أي تعويق زواجها يقول تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ[سورة البقرة: الآية232].

إن أي مسلم يؤمن باللَّه مشّرعاً ورقيباً، وبيوم القيامة موعداً للحساب والجزاء، عليه أن يتعظ بأمر اللَّه تعالى، ولا يتسبب في تعويق زواج ابنته دون مبرر مشروع، لأن ذلك ظلم لها، وسبب لوقوع المفاسد والمشاكل في المجتمع، لذلك تقول نهاية الآية ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ.

وقد وردت روايات وأحاديث كثيرة تحذّر من تعويق زواج البنت وتأخيره، لأن ذلك قد يفوّت عليها الفرصة المناسبة، كما يحدث الأضرار النفسية والأخلاقية في المجتمع.

كان علي بن أسباط من أصحاب الإمام محمد الجواد ، وكانت له بنات يرغب في تزويجهن من علماء فضلاء مثله، فأصبح ذلك سبباً في تأخير زواجهن، فكتب رسالة للإمام الجواد ، فأجابه الإمام: (فهمت ما ذكرت من أمر بناتك وأنك لا تجد أحداً مثلك، فلا تنظر في ذلك رحمك اللَّه، فإن رسول اللَّه قال: «إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»[6] .

وفي حديث آخر: «من خطب إليكم فرضيتم دينه وأمانته فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»[7] .

وعن علي قال: قال رسول اللَّه : «إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، قلت: يا رسول اللَّه وإن كان دنيّاً في نسبه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»[8] .

وصعد رسول اللَّه المنبر ذات يوم فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن جبرئيل أتاني عن اللطيف الخبير فقال: إن الأبكار بمنزلة الثمر على الشجر، إذا أدرك ثمارها فلم تجتن أفسدته الشمس ونثرته الرياح، فقام إليه رجل فقال: يا رسول اللّه، فمن نزوّج؟ فقال: الأكفاء. فقال: يا رسول اللَّه ومن الأكفاء؟ فقال: المؤمنون بعضهم أكفاء بعض، المؤمنون بعضهم أكفاء بعض[9] .

فمقياس الكفاءة والصلاح: التدين والسلوك الحسن، ومتى توفرا في المتقدم للبنت، لم يكن ثمة مبرر عند وليها للتعويق والتأخير، وملحوظ تكرار التشديد والحذر في الأحاديث، بأن تعويق الزواج يسبب الفتنة والفساد الكبير في المجتمع.

 

 

 

* كلمة الجمعة بتاريخ 18 شعبان 1420هـ
[1]  اليزدي: السيد محمد كاظم الطباطبائي، العروة الوثقى، أولياء العقد – المسألة رقم14.
[2]  الشيرازي: السيد محمد الحسيني، الفقه ج64 ص20.
[3]  الحكيم: السيد محمد سعيد الطباطبائي، الأحكام الفقهية عقد النكاح وأولياء العقد ص356، المسألة رقم9 ـ الطبعة الثالثة 1997م، دار الصفوة – بيروت.
[4]  اليزدي: السيد محمد كاظم الطباطبائي، العروة الوثقى، أولياء العقد – المسألة رقم1.
[5]  سابق: السيد، فقه السنة ج2 ص136 الطبعة الثالثة 1977م، دار الكتاب العربي – بيروت.
[6]  الحر العاملي: محمد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة ج20 ص76 الطبعة الأولى1993م مؤسسة آل البيت لإحياء التراث – بيروت.
[7]  المصدر السابق ص77.
[8]  المصدر السابق ص78.
[9]  المصدر السابق ص61.