البعد الإجتماعي في حياة الإمام الحسين (ع)

إنما نحتفل بذكريات الأئمة الأطهار ونحتفي بالمناسبات الإسلامية، لكي نتواصل مع تاريخنا العريق، ونستلهم منه الدروس والعبر بما يفيدنا لحاضرنا وبناء مستقبلنا، وحينما تمر علينا ذكرى ولادة أو شهادة إمام من الأئمة فإننا نهتم بها، لنستضيء بسيرة ذلك الإمام ونستهدي بتوجيهاته وإرشاداته.

ولأننا اليوم في رحاب ذكرى ميلاد سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي فإننا سنحاول اقتباس جذوة من حياته الطيبة.

وإذا كانت الروايات التاريخية قد اختلفت في تحديد تاريخ ولادته هل كانت في السنة الثالثة أو الرابعة للهجرة، وهل كانت في شهر شعبان أو أواخر شهر ربيع الأول، وهل هي في اليوم الثالث أو الخامس من شهر شعبان، فإن هذا الاختلاف نواجهه في الكثير من وقائع وحوادث التاريخ، وتراجم رجاله، وليس هناك مشكلة في أن نعتمد على أي رواية نرى رجحانها للاحتفال بأي مناسبة مهمَّة، مادامت الغاية التقرب إلى اللَّه بتعظيم شعائره، والاستفادة من هدي المناسبة وعطائها.

البعد الاجتماعي في حياة الإمام

وسنتناول في حديثنا ـ بهذه المناسبة ـ جانباً من جوانب حياة الإمام الثرية المعطاءة وهو البعد الاجتماعي في سيرته العطرة.

وبإطلالة عابرة يتلخص لنا هذا البعد في ثلاث نقاط:

1 ـ الحضور الاجتماعي.

2 ـ النموذج الأخلاقي.

3 ـ الاهتمام بمناطق الضعف في المجتمع.

الحضور الاجتماعي

أن يحمل الإنسان أهدافاً كبيرة، أو يمتلك مستوى علمياً متقدماً، فذلك لا يؤثر شيئاً في حركة الواقع والحياة، ما لم يصاحبه حضور اجتماعي، يشق الطريق أمام تلك الأهداف الكبرى، ويترجم العلم إلى فعل ملموس.

لذلك كان الأنبياء والأئمة يعيشون في وسط الناس، ويتفاعلون معهم، ولم يكونوا منعزلين على قمم الجبال، أو في الكهوف والمغارات، ولا كانوا يتعالون ويترفعون عن الناس في أبراج عاجية.

ومهما كان مستوى المجتمع من حيث التخلف والجهل، أو من حيث طغيان أجواء الفساد والانحراف فإن ذلك لا يبرر الهروب والعزوف عن الناس لدى المصلحين الإلهيين.

صحيح أن مخالطة الناس وهم يعيشون حالة الجهل والتخلف أو يخضعون لأجواء الفساد والانحراف، قد تسبب الكثير من الأذى والمعاناة للرجال الإلهيين، لكن ذلك هو طريق التغيير والإصلاح، كما أنه وسيلة لنيل ثواب اللَّه ورضوانه.

ورد في حديث مروي عن رسول اللَّه أنه قال: «المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم، أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»[1] .

وفي حديث آخر أنه فقد رجلاً، فسأل عنه فجاء، فقال: يا رسول اللَّه إني أردت أن آتي هذا الجبل فأخلوَ فيه وأتعبّد. فقال رسول اللَّه : يصبر أحدكم ساعة على ما يكره في بعض مواطن الإسلام خير من عبادته خالياً أربعين سنة. وفي نص آخر: ستين سنة[2] .

والإمام الحسين نشأ من بداية حياته في عمق الشأن الاجتماعي وفي صميم الأحداث، فجده رسول اللَّه كان قطب رحى المجتمع وقائده الأعلى، وأبوه علي كان وزير الرسول، وساعده الأيمن، بل كان نفسه بنص آية المباهلة.

فكان حضوره في ساحة الشأن العام أمراً طبيعياً، لالتصاقه بجده الرسول ، الذي كان يحتضن حفيده حتى وهو في الصلاة، ويأخذه معه على المنبر، فقد روي عن عبد اللَّه بن بريدة، عن أبيه، قال: خطبنا رسول اللَّه فأقبل الحسن والحسين رضي اللَّه عنهما، عليهما قميصان أحمران، يعثران ويقومان، فنزل فأخذهما فصعد بهما المنبر[3] .

وفي ذلك الموقف الحسّاس بين المسلمين والنصارى، حينما دعاهم الرسول إلى المباهلة، كان الحسين محمولاً على كتف جده، وهو وأخوه الحسن مصداق الأبناء في قوله تعالى: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ[سورة آل عمران، الآية61].

وبعد وفاة رسول اللَّه وجد الحسين نفسه ضمن الآم عائلته، ومأساة أمه الزهراء، فكان يصحبها في جولتها على بيوت المهاجرين والأنصار مطالبة بحقها[4] .

وينقل التاريخ موقفاً للإمام الحسين في بداية عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، والحسين إذ ذاك لتوه يتخطى العقد الأول من عمره:

يروي ابن حجر العسقلاني في كتابه (الإصابة) عن يحي بن سعيد الأنصاري عن عبيد بن حنين: حدثني الحسين بن علي، قال: أتيت عمر وهو يخطب على المنبر فصعدت إليه فقلت: انزل عن منبر أبي، واذهب إلى منبر أبيك. فقال عمر: لم يكن لأبي منبر، وأخذني فأجلسني معه أقلب حصى بيدي، فلما نزل انطلق بي إلى منزله، فقال لي: من علمك؟ قلت: واللَّه ما علمني أحد. قال: بأبي لو جعلت تغشانا، قال: فأتيته يوماً وهو خالٍ بمعاوية وابن عمر بالباب، فرجع ابن عمر فرجعت معه، فلقيني بعد فقال لي: لم أرك. قلت: يا أمير المؤمنين إني جئت وأنت خالٍ بمعاوية، فرجعت مع ابن عمر، فقال: أنت أحق بالإذن من ابن عمر، فإنما أنبت ما ترى في رؤوسنا اللَّه ثم أنتم. سند صحيح[5] .

وفي القصة دلالات مؤثرة واضحة، فهو على صغر سنه يأتي المسجد، ويعرب عما في نفسه للخليفة، وأمام الناس، ويقرر أن ذلك التصرف نابع من قرارة نفسه، لم يمله أحد عليه، ثم يذهب لزيارة الخليفة في داره.

ونرى الإمام الحسين في عهد الخليفة عثمان، قد التحق بالجيش الإسلامي، للفتح في أفريقيا، وكان الجيش بقيادة عقبة بن نافع بن عبد القيس، وعبد اللَّه بن نافع بن الحرث، وفيه جماعة من الصحابة، كعبد اللَّه بن عباس، وابن عمر، وابن جعفر، والحسن والحسين.

كما شارك الحسين في حروب المسلمين مع الفرس في طبرستان وجهاتها، والجيش بإمرة سعيد بن العاص[6] .

وتأكيداً لحضوره الاجتماعي، كان مجلسه في المسجد النبوي، حيث تلتف حوله حلقة واسعة من طلاب المعرفة، ورواد العلم، وأصحاب الحاجات، وقد سأل رجل من قريش معاوية أين يجد الحسين؟ فقال له معاوية: «إذا دخلت مسجد رسول اللَّه فرأيت حلقة فيها قوم كأن على رؤوسهم الطير فتلك حلقة أبي عبد اللَّه»[7] .

والشواهد على هذا الجانب في حياة الإمام كثيرة يضيق المجال عن استقصائها.

النموذج الأخلاقي

في تعاطي الإنسان مع المجتمع، يجد أمامه عناصر متفاوتة المستوى والطباع، وبعضهم قد يعاني من عقد نفسية، أو انحرافات سلوكية، تدفعه إلى الإساءة والعدوان، مما يستفز الإنسان لردّ الفعل، والدفاع عن ذاته أمام هذه العناصر، والانزعاج من تصرفاتها.

لكن الرجال الإلهيين بقلوبهم الكبيرة، ونفوسهم العالية، يستوعبون تلك الحالات، ويقابلونها بالحلم والأناة والإحسان.

والإمام الحسين كان قمة في هذا المجال، فقد كان ـ فيما أجمع عليه الرواة ـ لا يقابل مسيئاً بإساءته، ولا مذنباً بذنبه، وإنما كان يغدق عليهم ببره ومعروفه، شأنه في ذلك شأن جده الرسول ، الذي وسع الناس جميعاً بأخلاقه وفضائله، وقد عرف بهذه الظاهرة وشاعت عنه، وقد استغلها بعض مواليه، فكان يعمد إلى اقتراف الإساءة إليه، لينعم بصلته وإحسانه، ويقول المؤرخون: إن بعض مواليه قد جنى عليه جناية توجب التأديب فأمر بتأديبه، فانبرى العبد قائلاً: «يا مولاي، إن اللَّه تعالى يقول: ﴿الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ.

فقابله الإمام ببسماته الفياضة وقال له: «خلوا عنه، فقد كظمت غيظي..».

وسارع العبد قائلاً: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ.

فقال: «قد عفوت عنك..». وانبرى العبد يطلب المزيد من الإحسان قائلاً: ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.

قال: «أنت حر لوجه اللَّه..». ثم أمر له بجائزة سنية تغنيه عن الحاجة ومسألة الناس»[8] .

وقد فزع مروان إليه وإلى أخيه، وهو من ألدّ أعدائهم، بعد فشل واقعة الجمل، وطلب منهما أن يشفعا له عند أبيهما، فخّفا إليه، وكلّماه في شأنه، وقالا له: «يبايعك يا أمير المؤمنين».

فقال : «أولم يبايعني بعد قتل عثمان لا حاجة لي في بيعته إنها كف يهودية، لو بايعني بيده لغدر بسبابته». وما زالا يلطفان به حتى عفا عنه[9] .

الاهتمام بمناطق الضعف في المجتمع

تتجلى إنسانية الإنسان، ويصدق إيمانه باهتمامه بالمحتاجين والفقراء في مجتمعه، ومهما بلغ الإنسان من العلم، أو اجتهد في العبادة، فإنه لن تتحقق إنسانيته، ولن يصح تدينه، إذا ما تجاهل مناطق الضعف في المجتمع، ألم يقل ربنا سبحانه: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ[سورة الماعون: الآيات 1 ـ 3] فالمهمل للأيتام، وغير المبالي بجوع الفقراء، مكذب بالدين، وغير صادق في ادعائه التدين، وإن بالغ في صلاته وعبادته، بل هو مستحق للويل والعذاب ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ[سورة الماعون: الآيات 4 ـ 7].

والإمام الحسين كأهل بيته الطاهرين كانوا يعيشون للناس أكثر مما يعيشون لأنفسهم، ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ[سورة الحشر: الآية9].

ومن بداية حياته، وهو طفل صغير، شارك أسرته الصيام ثلاثة أيام، ما كانوا يفطرون فيها إلا على الماء القراح، لأنهم عند الإفطار يقصدهم المحتاجون، فيتنازلون لهم عن طعامهم، وفيهم نزل قوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا[سورة الإنسان: الآيتان 8 ـ 9].

وطوال حياته كان ملاذاً للفقراء والمحرومين، وملجأ لمن جارت عليه الأيام، وكان يثلج قلوب الوافدين إليه بهباته وعطاياه.

يقول كمال الدين بن طلحة: «وقد اشتهر النقل عنه أنه كان يكرم الضيف، ويمنح الطالب، ويصل الرحم، ويسعف السائل، ويكسو العاري، ويشبع الجائع ويعطي الغارم ويشد من الضعيف، ويشفق على اليتيم، ويغنى ذا الحاجة، وقل أن وصله مال إلا وفرقه»[10] .

ويقول المؤرخون إنه كان يحمل في دجى الليل البهيم، الجراب يملؤه طعاماً ونقوداً، إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين، حتى أثر ذلك في ظهره، وكان يُحمل إليه المتاع الكثير فلا يقوم حتى يهب عامته[11] .

ومرض أسامة بن زيد مرضه الذي توفي فيه فدخل عليه الإمام عائداً فلما استقر به المجلس قال أسامة: واغماه.

 ـ ما غمك؟

 ـ ديني وهو ستون ألفاً.

 ـ هو علي.

 ـ أخشى أن أموت قبل أن يقضى.

 ـ لن تموت حتى أقضيها عنك.

وبادر الإمام فقضاها عنه قبل موته وقد غض طرفه عن أسامة فقد كان من المتخلفين عن بيعة أبيه، فلم يجازيه بالمثل وإنما أغدق عليه الإحسان.

وقد اجتاز يوماً على مساكين يأكلون في (الصفة) فدعوه إلى الغذاء فنزل عن راحلته، وتغذى معهم، ثم قال لهم: قد أجبتكم فأجيبوني، فلبوا كلامه وخفوا معه إلى منزله، فقال لزوجه الرباب: أخرجي ما كنت تدخرين، فأخرجت ما عندها من نقود فناولها لهم[12] .

هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، ونقطة من بحر، في حياة الإمام الحسين وإذ نحتفي بذكرى ولادته العطرة فإننا مدعوون للاقتداء بهديه، والسير على خطه، بالاهتمام بأوضاع مجتمعنا، وأن نكثّف حضورنا في ساحة المجتمع، ونتجاوز حالة الأنانية والانزواء والانطواء، حتى نسهم في بناء أوطاننا، ونخدم قضايا أمتنا، ونتعاون على البر والتقوى.

* كلمة الجمعة بتاريخ 4 شعبان 1420هـ
[1]  الهندي: علي المتقي، كنز العمال، حديث رقم 686.
[2]  المصدر السابق_ حديث رقم 11354.
[3]  السجستاني: أبو داود سليمان بن الأشعث، سنن أبي داود ج1 ص358 حديث رقم 1109.
[4]  القزويني: محمد كاظم، فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد ص407 الطبعة الأولى 1991م، مؤسسة النور للمطبوعات ـ بيروت.
[5]  العسقلاني: ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة ج2 ص77 الطبعة الأولى 1992م دار الجيل ـ بيروت.
[6]  الحسني: هاشم معروف، سيرة الأئمة الاثني عشر ج2 ص16 دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت 1990م.
[7]  القرشي: باقر شريف، حياة الإمام الحسين ج1 ص137 الطبعة الأولى 1993م دار البلاغة ـ بيروت.
[8]  المصدر السابق، ص124.
[9]  المصدر السابق، ص126.
[10]  القرشي: باقر شريف، حياة الإمام الحسين ج1 ص127 الطبعة الأولى 1993م دار البلاغة ـ بيروت.
[11]  المصدر السابق، ص128.
[12]  المصدر السابق، ص125.