مستقبل الفكر الديني في ظل التحولات
مقدم الندوة السيد صالح ضياء الدين:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد بن عبد الله وآله الطيبين الطاهرين
منتدى الرقيم[1] يستضيف سماحة العلامة الشيخ حسن الصفار، في حوار المشهد الفكري والثقافي في ظل التحولات القادمة، تحت عنوان حديث الإمام علي
: «مَنْ وَثِقَ بِالزَّمَانِ صُرِعَ»، ربما هذا الحوار هدفه الأساسي استشراف المستقبل، ورؤيتنا لما يحدث في المستقبل ضمن التحولات القادمة والراهنة حاليًا، في البداية نُعرِّف بسماحة الشيخ الفاضل، ولد سنة 1958م بمدينة القطيف، بالمنطقة الشرقية المملكة العربية السعودية، انضم إلى الحوزة العلمية في النجف الأشرف عام 1971م، ثم تنقّل إلى حوزات قم المقدسة، وحوزة الرسول الأعظم
بالكويت عام 1973م 1988م، ثم أصبح مدرساً في الحوزة.
منذ كان عمره إحدى عشر عامًا بدأ ممارسة الخطابة وذلك في عام 1968م، تدور معظم خطاباته حول بناء الشخصية، وتنمية المجتمع، وبث ثقافة الوحدة والتسامح، وحماية حقوق الإنسان، صدر له أكثر من 135 كتاب في مختلف مجالات المعارف الدينية والثقافية، وتُرجم بعضها إلى لغات أخرى، من أشهر مطبوعاته ومؤلفاته المطبوعة: التعددية في الإسلام، التسامح وثقافة الاختلاف، التنوع والتعايش، أحاديث في الدين والثقافة والاجتماع، علماء الدين قراءة في الأدوار والمهام، المذهب والوطن مكاشفات وحوارات، مسارات في ثقافة التنمية والإصلاح، صدر منه عشر مجلدات، نشرت له عدد من المجلات العلمية والثقافية، بحوثًا ومقالات، له مساهمات صحفية في الصحف اليومية، له دور ريادي في حركة التواصل والانفتاح مع مختلف الأطياف والتوجهات في الساحة الوطنية والاسلامية، له دور ريادي في تأسيس مؤسسات شبابية في الغرب والشرق على حدٍ سواء.
أهلا وسهلا بك سماحة الشيخ، وشكرًا جزيلًا على قبولك هذه الدعوة.
الشيخ حسن الصفار:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين، أتقدم لكم بوافر الشكر والامتنان الأخوة الأعزاء في منتدى الرقيم على هذه المبادرة الطيبة، والجهود الجميلة التي تبذلونها في نشر الوعي والثقافة، واستنهاض الأفكار المفيدة للمجتمعات، وأهلاً وسهلاً بكم والأخوات الكريمات، أهلاً وسهلاً بالجميع حماكم الله جميعاً من كل سوءٍ ومكروه.
مقدم الندوة:
تفضل سماحة الشيخ إذا كان لديكم مقدمة قبل أن نبدأ الحوار.
الشيخ الصفار:
أبدأ من الحديث حول العنوان الذي اخترتموه وهو:
(تقويم المشهد الفكري والثقافي في الحالة الدينية)
مسألة التقويم والمراجعة للمشهد الذي تعيشه مجتمعاتنا مسألة مهمة جدًا، كثير من الناس يسترسلون مع الواقع الذي يعيشونه، ولا يتوقفون للبحث والمسآلة، والتقويم واستشراف المستقبل.
بعض الناس قد لا يجدون أنفسهم معنيين بهذا الأمر، بينما على المستوى الديني والعقلي كل إنسان مطالب بأن يكون شريكًا في صناعة المستقبل، وأن يكون له دور في حماية الواقع، ودفع الأضرار والمكاره عنه في مختلف المجالات.
والبعض من الناس قد يعيش حالة تشاؤمية سلبية، تجاه المشهد الديني السائد في مجتمعاتنا الإسلامية، فهو ينظر إلى الأمور نظرة سلبية تشاؤمية، وتكون له توقعات مثالية، لا يأخذ طبيعة الأمور والظروف والأوضاع كثيرًا بعين الاعتبار.
والبعض الآخر قد يُمجّد الواقع ويُقدسه ويرفض التقويم والنقد، فيعتبر أي نقدٍ أو أي مراجعة أو أي تقويم للحالة الدينية فكراً، ورموزاً ومؤسسات يعتبرها وكأنها نوع من الإضعاف للدين وللعقيدة وللحالة الدينية.
تجاه هذه المواقف الثلاثة :موقف الاسترسال واللامبالاة، أو موقف السلبية والتشاؤم، أو موقف التمجيد والتقديس، نحن بحاجة إلى الحالة التقويمية، حالة النقد الموضوعي الذي يتابع الواقع ويواكبه ويقومه، وينقده من أجل تصحيح المسار، ومن أجل التطوير، هذه المبادرة من منتدى الرقيم وسائر المبادرات المشابهة، هي مبادرة مشكورة ما أحوجنا إليها، يطيب لي ان أضيف نقطة مهمه: إن عملية التقويم والمراجعة والنقد و استشراف المستقبل لا يكفي فيها مجرد الندوات، ومجرد الحديث والكلام ،إلا بمقدار ما يدفعنا إلى العمل والتوجه أكثر للموضوع، نحن بحاجة إلى مراكز، مراكز رصد، مراكز أبحاث ودراسات، نحن تعودنا أن نبنى مساجد، أن نقيم مآتم وحسينيات، ولكن غالباً مالا نفكر في مراكز بحوث، ورصد ودراسات، تتابع الواقع في مجتمعاتنا، وخاصة على المستوى الفكري والديني، وتستشرف المستقبل، وتقدم الملاحظات، وتسعى من أجل التقويم، ومن أجل تصحيح المسارات.
إنني أدعو الأخوة والأخوات، وخاصة الذين يعيشون في بلدان وفي أجواء تعطيهم حرية الحركة والعمل، أطالبهم بالتوجه إلى إنشاء مراكز للبحوث والدراسات، ورصد الأمور ومتابعتها حتى يكون الحديث في هذه الأمور مستنداً إلى بحوث، ومستندًا إلى تقارير، وإلى متابعة ميدانية، وهذا مع الأسف الشديد أمر مفقود، أو حتى إذا كان موجودًا فانه لا يستجيب للحاجة، ولا يستجيب للتحدي، أكتفي بهذه المقدمة المتواضعة، وأترك المجال لكم وللأخوة والأخوات العزيزات في مداخلاتهم وتساؤلاتهم، والحمد لله رب العالمين.
مقدم الندوة:
أحسنتم سماحة الشيخ كمقدمة نبدأ بها وهي نحن نمر بمرحلة تاريخية، وهذه المرحلة التاريخية بدأت ملامحها ملامح تغيير سياسي، وملامح تغيير اقتصادي، بدأت بوضوح بعد أزمة كورونا، هناك صراع دول عظمى بدأت تظهر إلى الأفق، الكل يسعى إلى احتلال موقع المقدمة، وعادة في ضمن هذه التغيرات، عندما تحدث في العالم يبدأ أثره بتشظي عقائد، أفكار رؤى دول وأنظمة، حينما يصعد الاتحاد السوفيتي إلى القمة تظهر الشيوعية كعقيدة، وتعطي أثرها على المجتمع الإسلامي، وحينما تصعد الولايات المتحدة إلى القمة تظهر الرأسمالية كعقيدة ومشروع وثقافة، تنتشر على مستوى العالم الاسلامي، ما هو تشخيصك للأثر الثقافي والفكري؟ الكل يتحدث عن سياسة وعن ثقافة وعن اقتصاد، لكن الأصل التشخيص الفكري والثقافي إلى الآن ما أعطى حقه في هذه الأزمة.
الشيخ الصفار:
في الواقع مسيرة البشرية هي مسيرة دائمة في الصراع الفكري والسياسي، طوال الحياة البشرية هناك صراعات، هناك صراع إرادات، وهناك متغيرات في كل عصر، وفي كل زمان يواجهها كل جيل ، هذه هي الحالة الطبيعية في المجتمعات البشرية، لم يمر على البشرية وقت من الأوقات توقفت فيه حركة الصراع بين الإرادات وبين القوى، وبين الاتجاهات البشرية، هذه حالة طبيعية، وكل أمة من الأمم بمقدار وعيها لذاتها، وبمقدار تطلعاتها، تكون فاعلة، وتكون مشاركة في هذه التغيرات والتطورات، الأمم الضعيفة عادة تصبح ملعباً وميداناً للقوى الأخرى، من أجل أن تستثمرها، وأن تستفيد منها في صراعاتها البينية، بين القوى المختلفة.
أعتقد أن الأمة الإسلامية الآن، بمختلف شعوبها ومجتمعاتها، تعيش بالفعل حالة من النهوض، صحيح أننا نواجه في مختلف بلدان العالم العربي والإسلامي صراعات، واحترابات ومشاكل، لكن هذه الصراعات والاحترابات تُبرز لنا أن هناك إرادة في داخل الأمة، بدأت هذه الإرادة تظهر وتبرز وتتجلى، وتأخذ طريقها لكي تشارك في الوضع العالمي القائم، لا ينبغي أن نكون قلقين جدًا على الدين بما هو دين، وكما قيل:(إن للبيت ربًا يحميه).
الدين لا قلق عليه، الدين ما دام يستند إلى فطرة الإنسان، وإلى وجدان الإنسان، ليس هناك قلق على الدين، وإنما القلق على واقع حياة المتدينين أنفسهم، إلى أي حد هم يتفاعلون مع هذه المتغيرات، ويستجيبون لها؟
أعتقد أن الاستجابة للمتغيرات تحتاج إلى توجه من مختلف قوى الأمة، المسألة لا ترتبط بالجانب الديني فقط، بل تطال مختلف الجوانب، السياسية والاقتصادية، والاجتماعية، تحتاج الأمة إلى روح نهضوية في مختلف الأبعاد، والمجالات، وهذا ما نأمل أن يهتم الواعون بالتحرك باتجاهه، وبدفع مسيرة الأمة أكثر نحو النهوض، وتجاوز الواقع المتخلف الذي تعيشه.
مقدم الندوة:
لو تكلمنا بشكل أكثر خصوصية سماحة الشيخ، مدرسة أهل البيت بالذات في ظل هذه التغيرات والتحولات القادمة، ماذا سينعكس على الواقع الثقافي والفكري وخصوصاً البيت الداخلي للشيعة.
الشيخ الصفار:
مدرسة أهل البيت كسائر المدارس الإسلامية الموجودة، وكل مدرسة من المدارس لها مستواها من الاهتمام ومن التفكير، ومن القدرات، وحينما نتحدث عن مدرسة أهل البيت باعتبارنا ضمن هذه المدرسة، وإلا فإنه يهمنا وضع الأمة بمختلف مدارسها ومذاهبها، لأننا لا نعيش في جزيرة معزولة عن بقية أجزاء الأمة.
أعتقد أن مدرسة أهل البيت
تمتلك مقومات كثيرة، تساعد على أن يكون المجتمع المنتمي إلى هذه المدرسة أكثر استجابة للمتغيرات الدولية، و أكثر قدرة على مواكبة هذه الظروف المستجدة، لأن حركة الاجتهاد في مدرسة أهل البيت حركة مستمرة، لا أقل على الصعيد النظري، ليس عندنا إغلاق لباب الاجتهاد، والاستخدام للعقل والعودة إليه في هذه المدرسة له مساحته الكبيرة الواسعة، وكون المنتمين لهذه المدرسة قد عاشوا عصوراً من التهميش، وحالة من المعارضة، يعطيهم الآن دافعية أكثر لكي يكون لهم دور أكبر ضمن الأمة، وليس شيئًا مفصولًا عنها، بل حتى داخل المجتمعات البشرية، نحن الآن نعيش حياة بشرية يتحدثون عنها بأنها قرية كونية، وقرية عالمية، نعيش حالة من العولمة، وبالتالي نتفاعل ونتداخل مع العالم، وعلينا بالفعل أن نكون أكثر تفاعلاً، كلما تفاعلنا أكثر كان دورنا أكبر، وكانت قدرتنا على النهوض أعظم.
مقدم الندوة:
سماحة الشيخ هناك محاولات محمومة بدأت تظهر في العالم الإسلامي بشكل خاص، من مثقفين وباحثين ومفكرين، من أساتذة جامعات، بعضها وصلت إلى قمة الهرم من البيت الشيعي، سواء كانت مرجعيات وصلت إلى المرجعية، أو أساتذة في الحوزات بدأوا يفكرون خارج الصندوق، بدأت تهزّ العقائد وتمس المقدسات، البعض يراها صورة حضارية جديدة لرؤية حضارية نامية متقدمة، أفضل من السابق كيف تشخص هذه الظاهرة؟ وكيف للعموم منا أن يشخص صوابها من عدمها؟
الشيخ الصفار:
مسار التجديد والإصلاح، سواء كان داخل الشيعة، أو داخل السنة، لم يتوقف لكنه يخبو في بعض الأحيان، يتباطئ في بعض الأحيان، لكن هذا المسار موجود دائمًا، كان هناك حالة عامة سائدة في المجتمع الشيعي، وكانت هناك حالة ناقدة إصلاحية تطويرية، وجدنا ذلك في الماضي القريب منا، في رسالة الشيخ النائيني (تنبيه الأمة وتنزيه الملة)، التي طرح فيها مشروعية إقامة حكم مدني دستوري برلماني، في ذلك الوقت حينما طرح الشيخ النائيني هذه الفكرة، كثير من الجهات المحافظة، أو معظم الحالة المحافظة خالفته، بل وضغطوا عليه حتى أنه فيما بعد سحب الكتاب من الأسواق.
نجد مثلاً السيد محسن الأمين العاملي كان له أيضاً طرح اصلاحي تطويري، في الحالة الدينية، في الخطاب الديني وفي الشعائر الدينية، وفي وقتها كانت هناك معارضة له، من بعض الاتجاهات المحافظة، إما بدافع القلق على الدين وعلى الاصالة، أو بدوافع شخصية، أو فئوية، وكانت هناك جهود مختلفة عبر التاريخ والعصور، نحن نجد مثلاً الشيخ محمد جواد مغنية كانت لديه كثير من الطروحات والآراء النقدية، سواء كان في المجال الفكري، أوفي المجال الفقهي، أو في المجال الاجتماعي.
الشهيد الشيخ مرتضى مطهري من يقرأ كتبه، ويتابع أفكاره، يرى فيها الكثير من النقد، والكثير من التطوير والتغيير، وصولاً إلى المرحلة الحاضرة التي نعيشها.
مسار التجديد والإصلاح، مسار متواصل، لكن قدرة هذا المسار على التأثير، وعلى أخذ مساحة أكبر في المجتمع الشيعي، يرتبط بمدى وعي المجتمع، ومدى تفاعل الناس الواعين في هذا المجتمع.
إنّ وجود نقد وتقويم، ووجود من يفكر خارج الصندوق كما عبرتم، هذه حالة ليست فقط إيجابية وإنما ضرورية، إذا لم تكن مثل هذه الحالة فانه لا يكون هناك إصلاح ، ولا تغيير، ولا تجديد، ليس بالضرورة أن يكون كل رأي جديد يُطرح فهو صحيح وصائب، لكنه بالتأكيد سيكون باعثاً للتفكير، ولإعادة النظر والمراجعة، و أذكر كلمة كتبها الشهيد مرتضى مطهري في أحد كتبه قال: إن وجود الإشكالات على الدين هي مما يقوي الدين، لأن وجود الإشكال على قضية دينية يدفع العلماء والمتدينين لبحث الموضوع، من أجل أن يردوا على الإشكال، ومن خلال البحث يتبين لهم ما هو أصوب، وما هو أصح، أما أن يغيروا الفكرة، وإما إن يحسنوا الدفاع عن الفكرة إن رأوها صائبة، لا ينبغي أن نكون قلقين من وجود هذه الآراء، ومن التفكير خارج الصندوق، بالعكس علينا أن نشجع هذه الحالة، وأن ندافع عن حرية التعبير عن الرأي.
من الخطأ الكبير أن تُكمم الأفواه، وأن تُصادر حرية التعبير عن الرأي، لأن هناك آراء سائدة ألفناها، واعتقدنا أنها الحق المطلق، وإذا كانت هي الحق ماذا يضرنا ان تُطرح أراء أخرى، علينا أن نناقشها، وأن نرد عليها.
بعض التوجهات السلبية التي تشكك في دين، وعقيدة من يطرح الآراء الأخرى، هذه توجهات لا نقبلها، وإنما نقول: من كان لديه ردٌ ومناقشة لهذه الآراء فعليه أن يطرح رأيه، أضرب الراي بعضه ببعض، حتى تتلاقح الآراء، السكوت والركود، والبقاء على ما هو سائد ومتداول، هذا ليس في مصلحة الفكر الديني، وليس في مصلحة مدرسة أهل البيت، وجود أراء نقدية، ومن يفكر خارج الصندوق أمر مفيد لتقوية العقيدة، ولتطويرها وتصحيح ما قد يكون خطأً فيها.
مقدم الندوة:
جميل جزاك الله خيرًا، نأخذ مداخلة:
الإعلامي والكاتب سيد ضياء الدين من الكويت، يتفضل.
السيد ضياء الدين:
أحسنت شيخنا طيب الله انفاسك، طبعا سماحة الشيخ طرحتم نقاطًا جدًا مهمة، في تطوير أداء المؤسسة الدينية، وطرحت فكرة أساسية هي قبول الرأي الآخر، وقبول الآراء المختلفة، شيخنا هل تلاحظون أن الواقع في مؤسستنا الدينية هو في حالة من الجمود؟
لعلك شيخنا عايشت هذه المؤسسة من أكثر من 50 سنة، والمناهج فيها كما هي، الوسائل التعليمية كما هي، الأساليب كما هي، لا زلنا في تخلف، في عدم تطور، مع أن الكثير من المصلحين ظهروا خلال هذه الفترة، ولكن لا زلنا نحن كأن هناك عصيًا غليظة توضع في عجلة الإصلاح أين هذه؟ وماهي مشكلتها؟ هل الحل والتطوير والتوجه نحو المستقبل المنفتح يأتي من الخارج؟ ومن خارج المؤسسة الدينية أم لا؟ يكون من داخل المؤسسة الدينية، أي واحد اليوم يحضر دروسًا في النجف الأشرف أو في قم المقدسة، ويطلع يرى العالم ماذا يصير فيه، يرى نحن في بعد شاسع بين ما يجري في هذا العالم من تطور ومن تقدم هائل، وما نجده هناك من مناهج قديمة متخلفة، لم يمسها التطوير منذ أكثر من 50عام.
أمام أي تحديات تظهر لا نجد هناك قدرة حقيقية لمواجهة هذه الأزمات، اليوم مشكلة الشذوذ، أو المثلية كما يطلقون عليها في الغرب، أين المواجهة؟ أين أدوات المؤسسة الدينية لمواجهة هذا التحدي الكبير للأخلاق والدين ولثقافة شبابنا وأطفالنا؟ الآن دعاة مشروع المثلية، أو مشروع الشذوذ، دعاتها اليوم حتى في الرسوم المتحركة للأطفال تدخلوا فيه، سنوات طويلة أطفالنا ونحن، كنا نرى هذا (سبونج بوب) واحدة من المسلسلات الكرتونية المعروفة، اليوم نكتشف أن هذا واحد ضمن مشروع المثلية التي يطرحونها، كذلك هذا الضخ الإعلامي أين نحن في هذا الاتجاه؟
هل مثل ما دعيتم إليه مراكز الدراسات تبدأ من الغرب؟ هل هذا الإصلاح إصلاح المناهج تجديد المناهج والوسائل يكون من خارج المؤسسة الدينية؟ أم يجب ان يحدث ذلك داخل المؤسسة الدينية؟ وشكراً
الشيخ الصفار:
أحسنتم شكرًا لكم على مداخلتكم الطيبة.
أريد ان أشير هنا إلى نقطتين:
النقطة الأولى: مواجهة التحديات تستلزم استنفار كل الطاقات والقدرات في الأمة، مع الأسف الشديد غالبًا في مجتمعاتنا يكون هناك تواكل، أو تحميل المسؤولية لهذا الطرف، أو ذاك الطرف، دائمًا نجد أن شعوبنا إما أن تلقي باللائمة على الحكومات، ولا شك أن الحكومات لها دور أساسي في الواقع الذي تعيشه الشعوب، أو تلقي باللائمة على المؤسسة الدينية، والمؤسسة الدينية أيضاً لا شك لها دور كبير، ولكن علينا أن نستنهض ما يطلق عليه الآن المجتمع المدني، أين الأكاديميون؟ اين المثقفون؟ أين رجال الأعمال؟ أين الطاقات المختلفة في مجتمعاتنا؟ لماذا لا تكون هناك منظمات مؤسسات لها مبادرات تتبنى الإصلاح، وتتبنى التطوير في مختلف المجالات؟
لا ينبغي أن نلقي بالعبء كله على عاتق المؤسسة الدينية، إننا في مجتمعاتنا بحاجة إلى أن تنتزع مختلف الطاقات والقدرات أدوارها، حتى في مجال انتاج المعرفة الدينية، أعرف بعض المجتمعات الشيعية إدارتها بيد مجموعة من رجال الأعمال من التجار، كنت في مسقط ولا يزال الأخوة المؤمنون في مسقط (الحيدر أبادية) أو (اللواتية) إدارتهم بيد مجموعة من رجال الأعمال، هم يديرون مساجدهم وشؤونهم وعلاقاتهم مع الدولة، العالم الديني في إدارة الوضع عندهم دوره محدود، ضمن هذه الادارة المدنية إن صح التعبير .
ولعلكم تعرفون عن الخوجة، ومركزهم في لندن، وفي أفريقيا، أيضًا لهم إدارة مدنية إن صح التعبير، عالم الدين له دور وله تأثير.
كما لا ينبغي أن تكون لدينا توقعات كبيرة جدًا من دور عالم الدين، هذه التوقعات تصيبنا بحالة من التواكل والكسل، المتوقع من القوى المختلفة في المجتمع من أكاديميين من مثقفين، من رجال أعمال أن ينتزعوا أدوارهم، أن يكون لهم دور وتأثير وفاعلية، هؤلاء بإمكانهم أن يكونوا محفزين لرجال الدين، أو للمؤسسة الدينية، المطلوب من كل الطاقات أن تتحرك، وأن تتحمل مسؤوليتها في المجال التربوي، حينما تتحدث عن المثلية وتوجيهات للأطفال بالكرتون وما أشبه، طيب هذه المؤسسات التي تُنتج مثل هذه المواد الاعلامية المعرفية التربوية، هذه مؤسسات في مختلف انحاء العالم تديرها عقول وأدمغة، لا يشترط فيها أن يكونوا من علماء الدين، أو من المؤسسة الدينية، الجانب الاقتصادي في المجتمع، الطبقة السياسية، الطبقة الأكاديمية.
النقطة الثانية: بالنسبة للإصلاح في المؤسسة الدينية وما يتعرض له من تباطؤ، ومحاصرة، أعتقد أنه لا تزال هذه المبادرات الإصلاحية محدودة، كثيرون غير راضين عما يجري في الحالة الدينية، لكنه لا جرأة لهم، لا يتحملون المسؤولية بإبداء آرائهم، يخافون، يترددون، ينبغي أن نشجع كل ذوي الرأي في المؤسسة الدينية على ان يتحملوا مسؤوليتهم، وان يُبدوا آرائهم.
من وحي التجربة أعرف كثيرًا من العلماء والفضلاء غير راضين عن الواقع، لهم أراء أخرى ولكنهم يترددون في طرح آرائهم، كما ينقل عن المرجع الراحل السيد البروجردي قوله: إننا في حاجة إلى التقية الداخلية، أكثر من حاجتنا إلى التقية مع الخارج، هذا ما ينبغي أن ندفع باتجاه تجاوزه، وهذا يعني:
أولاً: تكثيف مبادرات الإصلاح، ووجود العناصر التي تتصدى للإصلاح والتغير.
ثانياً: التعاون بين هذه القوى، لا يزال الإصلاحيون في مجتمعاتنا الدينية وخاصة الشيعية جزرًا متفرقة، كل واحد يخشى أنه إذا تعاون مع الآخر يصيبه شيء من الشظايا، أو يُتهم أنه مع فلان أو فلان، نحن بحاجة إلى أن الإصلاحيين ينفتحون على بعضهم البعض أكثر، ويُؤيد بعضهم بعضاً، الواعون في المجتمع الشيعي ينبغي أن لا يخذلوا الاصلاحيين.
المحافظون يتلقون دعمًا كبيرًا من أتباعهم، من المؤيدين لهم، لكن الإصلاحيين في الغالب يسلمهم الواعون عند المواجهة، ينبغي أن يكون هناك دعم للجهود الإصلاحية التغيرية.
واسمح لي أن أختلف معك في الرأي، هناك شيء من التغيير، صحيح أنه لا يستجيب للتحدي، لكن هناك تطوير، الآن في الحوزات العلمية في قم وحتى في النجف بدأت هذه الحالة، وفي حوزات ومدارس مختلفة، و لعلك سمعت عن بعض هذه الحالات، أنا أدعوا للتعرف على تجربة في الحوزة العلمية في قم، هي تجربة (جامعة الأديان والمذاهب)، زرتُ هذه الجامعة، وتعرفت على مناهجها وبرامجها، تعتبر تجربة نموذجية رائدة، في قم؛ تُشاد جامعة بهذا الاسم (جامعة الأديان والمذاهب)، ويأتون بعلماء من مختلف الديانات، تدريس أي دين يكون على أيدي علماء وباحثين من نفس الدين، ومن نفس المذهب ،وعندهم نشاط جيد وجميل، لكن ليست هناك أضواء مسلطة على مثل هذه التجربة، حتى جامعة المصطفى فيها شيء من تطوير ادارة الحوزات العلمية، الشيخ الأعرافي مثلاً: لعلكم رأيتم رسالته التي قدمها حول كورونا حينما بدأ انتشار هذا الوباء، وكيف يدعو الحوزات العلمية إلى أن تتصدى ويكون لها دور، وطرح الكثير من المقترحات الجميلة على هذا الصعيد، وفي النجف الاشرف، زرتُ (معهد العلَمين) الذي أسسه الفقيد الراحل السيد محمد بحر العلوم (رحمه الله)، فعلا هو معهد متطور، فيه دراسات تخصصية في البحوث السياسية، وفي المجال القانوني، ويستدعون باحثين من مختلف أنحاء العالم لكي يقيموا ندوات في المعهد، ولهم مجلة تخصصية على هذا الصعيد، فيها دراسات وأبحاث علمية محكّمة.
في النجف الأشرف هناك تجارب لكن لم تسلط عليها الأضواء، وفي بعض الأحيان هي بدايات، ليست بمستوى التحدي، أنا أدعو إلى شيء من التفاؤل، وشيء من الدعم لهذه التجارب.
التغير في الحالات الدينية وفي المجتمعات، في العادة لا يكون فوريًا، ولا يكون سريعًا، ولا يمر بسهولة، قد يحتاج إلى أكثر من جيل وإلى أكثر من عصر، لكن المسيرة بدأت، وينبغي أن نكون متفائلين مع فاعلية وعمل.
مقدم الندوة:
هناك سؤال من أحد الأخوة، يسأل: نلاحظ عدم توافق ما بين علماء الدين والمثقفين أو المفكرين في مجتمعنا، وربما أضيف: هناك نوع من الفجوة ما بين العلم والتطور العلمي، وما بين الحوزات وعلماء الدين، ما هو الطريق إلى تقريب هذه الفجوة؟
الشيخ الصفار:
الطريق هو مبادرات التواصل من الطرفين، ينبغي أن تكون هناك مبادرات للتواصل، قبل عقود من الزمن في إيران، نشأت حركة تحت عنوان (التعاون أو التواصل بين الحوزة والجامعة) بين الحوزويين وبين الجامعيين، وكان عدد من علماء الدين مثل: الشهيد مطهري وباهنر وبهشتي وأمثالهم من العلماء كان لهم دور في الجامعات، يدرّسون في الجامعات في طهران، ومتداخلين مع الأكاديميين، وفي المقابل أيضاً الأكاديميون انفتحوا على علماء الدين، في العراق أيضاً قبل سنوات دعيتُ في النجف الأشرف إلى تجمع يهتم بالعلاقة بين الحوزة وبين الجامعات.
في بعض الأحيان، بعض المثقفين، يتخذون مواقف حاده تجاه المؤسسة الدينية، بحيث يقطعون سبل التواصل معها، وهذا خطأ كبير، لأننا ندرك أن المؤسسة الدينية مؤثرة في مجتمعاتنا، إذا انقطعنا عنها ليس في مصلحتنا، وليس في مصلحتها، على الأكاديميين والمثقفين أن يجتهدوا في إيجاد وسائل للتواصل مع العلماء، ومع الحوزات والمؤسسة الدينية، في نفس الوقت أدعو علماء الدين إلى أن ينفتحوا على هذه الطاقات، و الكفاءات والقدرات، و أن يستفيدوا منها، فعند هؤلاء الأكاديميين أشياء نحن نحتاجها، تفيدنا في فهم الدين، وتفيدنا في مجال تبليغ الدين، مهما كانت المشاكل القائمة بين الطرفين لا حل الا بمبادرات التواصل، إن الأكاديميين والمثقفين يتواصلون مع العلماء، والعلماء أيضًا يستقبلون هؤلاء الأكاديميين، قد لا يكون كل عالم دين مستعد للتواصل، لكن هناك من هو مستعد للتواصل، وقد لا يكون كل مثقف وكل أكاديمي لديه رغبة أو إرادة في التواصل مع علماء الدين، لكن ينبغي أن يكون هناك من يقوم بمثل هذا الدور، لا ينبغي أن نكون حادّين تجاه بعضنا البعض.
أطلبُ من المثقفين، أن يخففوا هذه النبرة الحادة عندهم تجاه المؤسسة الدينية، وأن يتفاعلوا مع الجوانب الإيجابية فيها، وأن يلتقطوا ويكتشفوا علماء الدين الإصلاحيين، ويطوروا سبل التعاون معهم، وكذلك على العلماء أن يقوموا بدورٍ مشابه.
مقدم الندوة:
أحسنتم شيخنا هناك أيضًا سؤال مرسل لنا من قبل أحد الأخوة، يقول: هل ممكن إيجاد صيغة أو طريقة لمنع الطائفية في الوطن تكون موجه للشعب، وفيها عقوبات صارمة من الجهات المختصة؟
الشيخ الصفار:
موضوع الطائفية عادة ما يحركه أكثر الجانب السياسي، تجد الأمور هادئة ما دام ليس هناك عنصر سياسي يحرك القضية الطائفية، كما الحال في بداية تغيير النظام في العراق 2003م، رأينا كيف تصاعدت الحالة الطائفية.
وحينما حصلت التطورات في سوريا رأينا كيف تصاعدت الحالة الطائفية، ونجد في لبنان بمجرد أن يحدث خلاف سياسي، هناك من يحاول أن يحرك القضية الطائفية، العنصر السياسي عنصر مثير للجانب الطائفي، لكن هذا لا يبرء العلماء والمؤسسة الدينية من المسؤولية، لا يزال تراثنا الديني عند السنة والشيعة فيه أرضية لبروز الحالات الطائفية والمذهبية، ولابد من معالجة نزع هذه الألغام، ومن أهم الألغام التي نجدها وتحدث حولها المصلحون، في المدرسة الشيعية الإساءة إلى رموز الطرف الآخر.
لو قرأنا العلاقة بين الشيعة والسنة لوجدنا أن هناك ظاهرتين: ظاهرة الحرمان والضغط على الشيعة، وتهميش الشيعة من قبل المتطرفين السنة، سواء كانوا في موقع السلطة، أو في موقع الفتوى، من جانب ثاني، نجد ظاهرة عند الشيعة، هي الاساءة إلى رموز أهل السنة، وإلى بعض أمهات المؤمنين، وبعض الصحابة الذين هم موقع تقديس واحترام عند بقية المسلمين، هذه ألغام لابد أن تُعالج، وأن تُفكك، ومع الأسف الشديد كلما حاول المصلحون أن يتحدثوا حول هذا الأمر، تبرز لدينا فئات وجهات بعضها من منطلق التطرف الفكري الذاتي، وبعضها قد يكون مدفوعًا من جهات سياسية، تُعيد طرح هذا الموضوع، وطرح هذه المسألة، لو أمكننا نزع مثل هذه الألغام، ومعالجتها على المستوى العقدي والثقافي، لاستطعنا أن نقطع شوطًا كبيراً على هذا الصعيد.
في المملكة العربية السعودية، كانت عندنا تجربة، أعتقد أنها تجربة جميلة قابلة للدراسة والبحث، بدأنا في التواصل مع العلماء من إخواننا اهل السنة ضمن المدرسة السلفية، مع كل ما في هذه المدرسة بشكل عام من تشدد تجاه الشيعة، لكننا استطعنا أن نسجل بعض الاختراقات، وأصبحت لدينا علاقات، وصار هناك نوع من الانفتاح والتلاقي.
السلفي الذي كان يستشكل في أن يسلم على الشيعي، أو يرد عليه السلام. في وقت من الأوقات كان بعض القضاة حينما يدخل الشيعي إلى المحكمة ويقول: السلام عليكم، القاضي لا يقول: وعليكم السلام، بل يجيبه: أهلاً وسهلاً، كأنه لا يعتبره مسلمًا حتى يرد عليه السلام!!، لكن عندما صارت مبادرة والظروف أيضًا كان لها دور، وجدنا إن علماء سلفيين ورموزًا ما كان عندهم مانع من زيارتنا في القطيف، وحضور مجالسنا، أحد الرموز حضر في المأتم، وجاء في موكب العزاء، وألقى كلمة وهذا كله نُشر عنه في وقته، لكن وجدنا من داخل مجتمعنا الشيعي من ينتقد هذه الحالة، ويقول: أنتم لماذا تأتون بهؤلاء السلفيين إلى مناطقنا؟ أنتم تُميّعون مذهبنا وعقيدتنا، كما أن في الطرف الآخر أيضًا كانت اعتراضات.
إذًا موضوع الطائفية ليس عصيًا على المعالجة، وليس عصيًا على الاختراق، إذا أمكن تحييد العنصر السياسي، وقامت المؤسسة الدينية بدورٍ في هذا المجال.
مقدم الندوة:
أحسنت سماحة الشيخ..
سؤال آخر يُطرح تلاحظون داخل البيت الشيعي في الفترة الأخيرة هناك نوع من الغبش، و كثرة التيارات التي تظهر جديدة منها : على سبيل المثال تيارات مهدوية، في الغرب مثلاً مجموعة علماء أو مشايخ أو شخصيات يذهبون بإنشاء قنوات قضائية في التهجم والسب، وخلط الأوراق داخل البيت الشيعي، وعلى المستوى السياسي مثلاً في العراق، إنه الفشل السياسي الذي حدث وأثر على مستوى العلماء والحوزة والمدرسة الدينية، وبالتالي خلق حالة من الانحراف الأخلاقي، هذه الارتدادات الكثيرة التي تحدث في داخل البيت كيف نراهن على المجتمع الشيعي في الاستجابة لهذه الارتدادات وأنه قادر على أن يقاومها؟
الشيخ الصفار:
وجود هذه الحالات أمر طبيعي، وحتى في عصور الأئمة عليهم السلام كانت تبرز بعض الاتجاهات، مثل الأفطحية، والكيسانية، والواقفية، توجهات كانت في عصر الأئمة ولا يمكن أن نمنع بروز مثل هذه الحالات، نحن لا نعيش في صحراء، ولسنا بعيدين عن التأثيرات المختلفة، هذه الامور إما صنيعة جهات خارجية، وإما نتيجة تشدد في بعض الآراء و التوجهات، هذه الأشياء لا يمكن ان نحول دون حصولها وحضورها، والحل هو في مواجهتها بالفكر، وبالتوعية، وبتحصين المجتمعات، ليس هناك أي حل آخر،سواء كانت دعوات لا دينية من خارج الدين، كما في فترة من الفترات انتشر التوجه الشيوعي في العراق، وغزى النجف الأشرف وكربلاء، حتى تأثر بهذا التوجه أبناء بيوت مرجعية وعلمائية، وهكذا في سائر المناطق، في إيران أيضاً نفس الشيء، بعض عناصر حزب توده الشيوعي من أبناء عوائل وأسر علمية، أو كانت أشياء بعنوان ديني من داخل الدين، ونحن في عصر فيه حرية التعبير عن الرأي، ووسائل لإيصال الرأي، بإمكان شخص واحد ان يوجد له قناة ويوصل أفكاره إلى مختلف انحاء العالم .
إذاً لا نستطيع أن نمنع حصول مثل هذه الأشياء، ولا ينبغي أن نقلق منها كثيرًا، علينا أن نقلق من كسلنا، ومن عدم قيامنا بمسؤولياتنا وواجبنا، في مواجهة مثل هذه الدعوات، واستيعاب أبناءنا، وشبابنا، الإمام جعفر الصادق عليه السلام كان يقول لشيعته: «بَادِرُوا أَحْدَاثَكُمْ بِالْحَدِيثِ، قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَكُمْ إِلَيْهِمُ الْمُرْجِئَةُ» بادروا إلى تحصين أبنائكم، وشبابكم، الفكر يُردّ بالفكر، والرأي يُردّ بالرأي، ولا نستطيع أن نفعل غير ذلك
قد تأتي بعض هذه التوجهات وتأخذ شريحة من المسلمين، القاديانية أخذت مجموعة، البهائية أخذت مجموعة، هذ أمر طبيعي لا تستطيع أن تحول دونه، ولكن إذا قمت بدورك بالتوعية والتثقيف، والتحصين والاستيعاب، فإنك تقلل الخسائر، الأمر لا يدعو إلى القلق، وإنما يدعو إلى استنهاض الهمم، من أجل العمل في مواجهة هذه الآراء والأفكار.
مقدم الندوة:
سماحة الشيخ عدة أسئلة تعود إلى نفس المحيط محيط المؤسسة الدينية، هناك نوع من الاستعلاء من قبل المؤسسة الدينية على الأكاديميين، والمثقفين وأي منفتح، أو إصلاحي، هناك حالة القدسية المفروضة حول رجل الدين لا تسمح بنقده.
وأيضاً سؤال آخر: في هذا الإطار وهو أن الخطاب الشيعي، جامد ومكرر، ويجتر بعضه البعض مما أدى إلى بُعد الجيل، ما رأيك في هذه الآراء؟
الشيخ الصفار:
في الجانب الأول أن هناك استعلاء في محيط المؤسسة الدينية، هذا لا يمكن نفيه، لكن لا يصح التعميم، كما انه في المقابل بعض المثقفين الناقدين للحالة الدينية أيضاً لديهم بعض الأساليب، والعبارات الاستفزازية في الحديث عن العلماء، وعن المؤسسة الدينية، انا شخصياً أدين الأسلوبين، استعلاء بعض الجهات الدينية هذا خطأ، ومنطق الاستفزاز والاستهزاء والاتهامات التعميمية بالجملة على العلماء، وعلى المؤسسة الدينية، وعلى الحوزات العلمية، هذا أيضاً خطأ كبير، علينا ان نتجاوز هذه الحالات، ولا نعمم، نبحث عن العلماء الذين يمكن ان نتحاور معهم، ونشيد بالجوانب الإيجابية، ونتواصل، وكل طرف عليه ان يهتم بتوسعة مجال فاعلياته، تعلمون أنه في إيران بعض المثقفين قبل انتصار الثورة الإسلامية استطاعوا أن يخلقوا لهم تيارًا، مع ان بعض المؤسسة الدينية كانت ضدهم، الدكتور علي شريعتي، كان له تيار كبير، والمهندس مهدي بازركان وأمثاله، كانت لهم تيارات كبيرة، المثقفون والمفكرون عليهم ان ينزلوا إلى الميدان، وان يتحركوا، المشكلة أن بعض المثقفين ينتقدون الحالات الدينية، لكنهم في أبراج عاجية، يتهمون المتدينين أن عندهم استعلاء، لكن يبدو بعضهم ولا أُعمم يعيش في برج عاجي، لا ينزل إلى المجتمع، وليس له دور اجتماعي.
عالم الدين يعيش مع المجتمع، يصاحب الناس، في أوقات الوفاة، في أوقات الزواج، في المسجد، في المجالات المختلفة، هو مع الناس يعيش معهم، فالناس يكونون أقرب إليه، أما المثقف الذي يعيش في برج عاجي، بعيدًا عن الناس، كيف يريد أن يترك أثراً في الناس؟ أطلب من المثقفين ان ينزلوا إلى المجتمع، ان يكون لهم دور في الجمعيات الخيرية، في الاندية الرياضية، في المجالس وفي المواكب، وفي المؤسسات، ليس ضروريًا ان تكون هذه المؤسسات ضمن رأيك، وتوافق فكرك بالكامل، وإلا فانت ضدها وتبتعد عنها، انت إذًا تحكم على نفسك بالعزلة والانكفاء، انزلوا إلى مجتمعكم، كونوا مع الناس وتفاعلوا معهم، حتى تنتزعوا دوركم كمثقفين، وتؤثروا في مجتمعاتكم.
مقدم الندوة:
أحسنتم سماحة الشيخ أطلنا كثيراً عليكم، إلا إذا أحببتم ان نستمر، لكن هناك سؤال أخير، هو إن البعض سأل عن غياب المشروع النهضوي، أو النموذج النهضوي الناجح، وأنه السبب في عدم انجذاب الجيل للفكر الديني، ونفوره من هذا الخطاب الديني السائد.
الشيخ الصفار:
النموذج النهضوي ليس مسؤولية علماء الدين فقط، وانما هو مسؤولية الأمة بكل مكوناتها، أيها الأعزاء: انظروا إلى تجربة ماليزيا كبلد إسلامي، عاشت تجربة تنمية ونهوض، لم يأتِ من قبل عالم دين، وانما قيادة سياسية مجتمعية (مهاتير محمد) وحوله جماعة تحركوا واستطاعوا ان يصنعوا النهضة في ماليزيا، أنا لست الآن في موقف الحكم الشامل على مسيرة هذه النهضة، لكن الجميع يتحدث أن ماليزيا استطاعت أن تحقق شيئًا من النهوض، وفي تركيا، بعيدًا عن الوضع السياسي السائد الآن، هناك تجربة اقتصادية وسياسية ناجحة، استطاعت أن تصنع نهضة، وتصفير المشاكل مع دول الجوار، لكن في ما بعد هذه التجربة واجهت ولا تزال تواجه مشاكل ونكسات، أريد أن أقول: أن صناعة النهضة ليست مسؤولية شريحة من الأمة فقط، لا يصح أن نعيش حالة الاتكالية، وحالة التكاسل الذهني والعقلي والعملي.
الملاحظ في مجتمعاتنا أنهم يريدون إلقاء مسؤولية كل شيء على عالم الدين، أتذكر في يوم من الأيام صحوت على مقال في مواقع التواصل الاجتماعي: (أين الشيخ الصفار من مجاري المياه في قرانا وفي مناطقنا؟)، هذه فوضى توقعات، لا ينبغي ان نحمّل المرجعية، والحوزة العلمية، والعلماء، كل الواقع الذي تعيشه الأمة.
النهضة مسؤولية كل الشرائح والجهات، كل إنسان بمستوى وعيه يتحمل المسؤولية «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»، في المجتمعات الأخرى، في أوروبا مثلًا، كيف صارت النهضة؟ مفكرون مثقفون قادوا النهضة، طرحوا آراءهم من خلال تخصصاتهم، في الفكر والسياسية، وفي علم النفس، وعلم الاجتماع، والتاريخ، وناضلوا وجاهدوا وتحمّلوا، بعضهم صلبوا، وبعضهم أحرقوا، وبعضهم قتلوا، لكنهم استطاعوا ان يُحدثوا هذا التغيير في مجتمعاتهم.
في الهند، من الذي قاد النهوض؟ المهاتما غاندي ودوره مثلاً، هذا المنطق علينا ان لا نجعله حاكماً على أذهاننا وأفكارنا، يجب أن نشجّع بعضنا بعضاً، وأن نتعاون فيما بيننا، وأن يتحرك كل منا لكي يعمل بالمقدار المطلوب.
الآن في مواجهة كورونا مثلاً، الجميع ينبغي أن يتحرك وأن يعمل، نجد الناس يتكلمون أين دور العلماء؟ القضية لا تحل بفتوى، في مجتمعي بعض الناس يتحدثون إليّ: هناك المشكلة الاجتماعية الفلانية، لماذا لا تتحدثون حولها على المنبر؟
يا أخي ليست كل المشاكل تحل بخطابٍ منبري، بعض المشاكل تحتاج إلى مؤسسة اجتماعية، إلى جهد مجتمعي، وإلى تشخيص علمي تخصصي، وهذا يستدعي أن كل القوى والطاقات والشرائح تقوم بدورها.
البعض يقول: العلماء لا يعطونا مجالًا، أنتم انتزعوا دوركم، ليس من الصحيح ان تكون الساحة تحت هيمنة شريحة من الشرائح، حتى ولو كانت شريحة العلماء، بقية الشرائح ينبغي ان ينتزعوا دورهم، ان يكون لهم حضور، ان يتحملوا مسؤوليتهم تجاه أوطانهم مجتمعاتهم، فلنخرج من حالة التواكل، ومن حالة التلاوم التي يعبر عنها القران الكريم بقوله: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ﴾ [سورة القلم، الآية: 30]
كل واحد قبل ان يفكر في واجب الشريحة الأخرى عليه أن يسأل نفسه عن الواجب الذي عليه، قبل ان يتحدث عن تقصير الطرف الآخر عليه ان يتحدث عن تقصيره، هذا هو ما يوقد شعلة النهضة في مجتمعاتنا وشعوبنا.
أدعوكم أيها الشباب الأعزاء، أيتها الأخوات الكريمات، وخاصة من يعيشون في أفق الفكر، والثقافة، وعلى المستوى الأكاديمي، ومن يعيشون في البلدان الحرة المتقدمة، أدعوكم لكي تتحملوا مسؤوليتكم، وان تقوموا بواجبكم وان تصنعوا المبادرات، وان تقدموا التضحيات، يمكن ان تُكفّر، وأن يُفتى ضدك، وأن تُحاصر، هذه الاشياء تحمّلها المفكرون الأوربيون من قبل الكنيسة، ومن قبل الأباطرة آنذاك، لكنهم قاموا بواجبهم تجاه شعوبهم.
أيها المفكرون، أيها المثقفون، أيها الشباب الواعون الطامحون، كفى تلاوماً، كفى توزيعاً للمسؤوليات، علينا ان نتحمل مسؤوليتنا.
أشكركم جميعًا على مداخلاتكم، كانت مفيدة، ومحفزة، جزاكم الله خير الجزاء، والحمد لله رب العالمين.
مقدم الندوة:
شكرًا جزيلاً سماحة الشيخ، جزاك الله ألف خير، وشكرًا على دعوتك، وقبولك هذه الدعوة، ان شاء الله يكون لنا لقاء آخر معكم، وجزاكم الله خير، وشكرًا لكافة المستمعين والمشاركين.






