بناء الكفاءات أولوية الإمام الصادق
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [سورة النحل، الآية: 120].
لا تقاس قيمة المجتمعات ومكانتها بوفرة عددها وكثافتها السكانية، فليست الأمة الأكثر عددًا هي الأرقى والأفضل، بل قد تكون الكثرة الكمية عبئًا يستنزف الموارد، ويعوّق الحركة، كما عبّر عن ذلك رسول الله فيما رواه عنه مولاه ثوبان، قال: قال رسول الله
: «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا!
قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟
قَالَ: أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ»[1] .
كما أنّ الثروات والموارد المالية ليست هي العامل الأساس في تقدّم المجتمع، وكشاهد على ذلك نرى دولًا أفريقية تمتلك الكثير من الموارد الطبيعية بكافة أشكالها، بل إنّها تعوم على بحور من المعادن والموارد، ورغم ذلك تعاني من التخلف عن ركب الحضارة؛ لأنّها لا تحسن إدارة واستثمار هذه الثروات، وفي المقابل نجد دولًا في أوروبا، وبعض دول آسيا، لا تمتلك ربع ما تمتلكه دول القارة السمراء من الموارد الطبيعية، لكنهم يمتلكون العقول والأفكار التي قادتهم إلى التقدّم والرُّقي.
القوة النوعية مقياس التقدّم
من ذلك ندرك أنّ مقياس تقدّم المجتمعات يتمثل في القوة النوعية، المتمثلة في الكفاءات والقدرات العلمية والعملية، فالمجتمع الذي يتوفر على الكفاءات النوعية يكون هو الأفضل والأقوى، وإن كان محدود العدد والموارد.
يقول تعالى: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّـهِ ۗ وَاللَّـهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [سورة البقرة، الآية: 249].
ومن هنا اعتبر القرآن الكريم فردًا واحدًا، بمثابة أمة كاملة، لما كان يتمتع به من صفات ومواصفات عظيمة، وهو نبي الله إبراهيم الخليل ، يقول تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [سورة النحل، الآية: 120].
وكان العرب يقولون عن المتفوق في شجاعته وتدبيره: (رجلٌ كألف)، فالكفاءة والإبداع هما مصدر قوة الأفراد والشعوب، والمجتمع الأقوى هو الذي تكثر الكفاءات وقدرات الإبداع بين أبنائه.
من هذا المنطلق، فإنّ بروز الكفاءات في أيّ مجتمع، هو مكسب لِهُويّته الاجتماعية، ذلك أنّ بروز صاحب الكفاءة المنتمي إلى أيّ مجتمع يعزّز موقع مجتمعه، فالناس حين تشيد بالأوطان والمجتمعات، إنّما تشيد بالكفاءات التي تزخر بها، كما تفتخر الدول بشخصياتها وكفاءاتها من العلماء والمخترعين.
ونجد في سيرة الإمام جعفر الصادق اهتمامًا كبيرًا ببناء الكفاءات العلمية والفكرية والاجتماعية، حيث يمكن القول إنّ ذلك كان يمثل أولوية في اهتماماته وانشغالاته.
ويتجلّى هذا الاهتمام في العناوين التالية:
أولًا: التحفيز لكسب المعرفة
ورد عن الإمام جعفر الصادق : «لَسْتُ أُحِبُّ أَنْ أَرَى الشَّابَّ مِنْكُمْ إِلَّا غَادِيًا فِي حَالَيْنِ: إِمَّا عَالِمـًا أَوْ مُتَعَلِّمًا»[2] .
وعنه : «النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: عَالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ وَغُثَاءٌ»[3] ، والغثاء ما يحمله السيل من الزَّبد والوسخ وغيره.
وعنه : «عَالِمٌ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ وَأَلْفِ زَاهِدٍ»[4] .
وعنه : «اكْتُبُوا فَإِنَّكُمْ لَا تَحْفَظُونَ حَتَّى تَكْتُبُوا»[5] .
عن المفضّل بن عمر قال لي أبو عبدالله [الإمام جعفر الصادق ]: «اكْتُبْ، وَبُثَّ عِلْمَكَ فِي إِخْوَانِكَ، فَإِنْ مِتَّ فَأَوْرِثْ كُتُبَكَ»[6] .
ثانيًا: استقبال طلاب العلم
تحدّثت مختلف المصادر التاريخية وكتب التراجم، عن استقبال الإمام الصادق لأعداد كبيرة من طلاب العلم والمعرفة، من شتى البلدان ومختلف الاتجاهات، وأنه كان يبذل العلوم والمعارف لهم في مختلف التخصصات.
وقد صنف الحافظ أبو العباس أحمد بن عقدة الكوفي (ت: 330هـ) كتابًا في أسماء الرجال الذين رووا الحديث عن الإمام الصادق ، فذكر أربعة آلاف راوٍ. وترجم الشيخ باقر شريف القرشي في موسوعته عن الإمام الصادق لثلاثة آلاف وستمئة واثنين وستين شخصًا من أصحابه ورواة حديثه.
كما ترجم الشيخ آغا بزرك الطهراني في موسوعته (الذريعة الى تصانيف الشيعة) مئتي رجل من مصنفي تلامذة الإمام الصادق[7] .
تخصصات علمية متنوعة
وكان الإمام الصادق يوجه بعض تلامذته للتركيز في تخصص علمي محدّد، والبحث فيه والكتابة عن مسائله، ليكون مرجعية في ذلك التخصص.
جاء في كتاب (رجال الكشي) رواية تحكي عن هذا الواقع، حيث ورد رجل من أهل الشام، فاستأذن على الإمام الصادق، وكان معه جماعة من أصحابه، وقال إنّ لديه نقاشًا في علوم القرآن، فقال الإمام لتلميذه حمران بن أعين: يا حمران، دونك الرجل. فسألَ حمرانَ حتى ضجر وملّ، وحمرانُ يجيبه. فقال : كيف رأيته يا شامي؟ قال: رأيته حاذقًا ما سألته عن شيء إلّا أجابني فيه.
ثم قال الشامي إنّ لديه نقاشًا في اللغة العربية، فأحاله على أبان بن تغلب.
ثم قال الشامي إنّ لديه نقاشًا في الفلسفة وعلم الكلام، فأحاله على محمد بن النعمان مؤمن الطاق، ثم قال الشامي إنّ لديه نقاشًا في التوحيد فأحاله على هشام بن سالم.
ثم قال الشامي إنّ لديه كلامًا في الفقه فأحاله على زرارة.
وأخيرًا قال الشامي أريد أن أناظرك في الإمامة، فأحاله على هشام بن الحكم.
وعلّق الشامي بعد ذلك بقوله: كأنك أردت أن تخبرني أنّ في شيعتك مثل هؤلاء الرجال.
فقال : هو ذاك. فقال الشامي: قد أفلح من جالسك[8] .
وتنقل عدّة روايات مشاهد شبيهة، حيث يحيل الإمام من يرد عليه من السائلين أو المجادلين إلى ذوي الاختصاص من تلامذته، كلٌّ في مجاله.
فقد تخصّص في الفلسفة وعلم الكلام مثلًا هشام بن الحكم، وهشام بن سالم، ومحمد بن النعمان مؤمن الطاق، وقيس الماهر، ومحمد بن عبدالله الطيار.
وتخصّص في الفقه وأصوله وتفسير القرآن، مثل زرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم، وإسحاق بن عمار، وجميل بن دراج، وأبان بن تغلب، وأبو بصير وغيرهم.
وتخصّص في علم الكيمياء جابر بن حيان، وقد ذاع صيته في هذا العلم وترجمت كتبه إلى اللغات العالمية، وله رسائل متعدّدة في الكيمياء، وبعض الاكتشافات والاختراعات المرتبطة به.
وقد لقب بأول كيميائي في العالم، وملهم الكيمياء. ويشير في بدايات رسائله إلى أخذه من الإمام الصادق.
وقد اختصّ الإمام الصادق تلميذه المفضّل بن عمر، بإملاء أبحاث عليه في علم الأحياء ووظائف أعضاء جسم الإنسان، في سياق الحديث عن توحيد الله تعالى، وتعرف هذه الإملاءات بـ «توحيد المفضّل».
ثالثًا: تشجيع الكفاءات وإبرازها
لقد اعتمد الإمام الصادق في سياق اهتمامه ببناء الكفاءات، منهج تشجيع وإبراز الكفاءات الواعدة، عبر الثناء عليها والإشادة بها، ودفعها لممارسة دورها في المجتمع وظهورها في ساحة الأمة.
وهو منهج مهم يدفع أصحاب الكفاءة لمزيد من التقدّم والعطاء، ويعزّز قيمة الكفاءة في المجتمع، ويحفّز أبناءه لتفجير طاقاتهم وتنمية كفاءاتهم.
لذلك نرى أنّ من سمات المجتمعات المتقدّمة تقدير الكفاءات، بينما تتجاهل المجتمعات المتخلّفة كفاءات أبنائها وتئدها.
كان الإمام الصادق يشيد بشخصيات تلامذته الكفوئين المبدعين، ويدعو المجتمع للاستفادة منهم، ونجد في تراجم عدد منهم روايات عن الإمام في حقهم هي بمثابة أوسمة على صدورهم.
فمثلًا نجد في ترجمة هشام بن الحكم أنّ الإمام يقول في حقّه: «هِشَامُ بْن الحَكَمِ رَائِدُ حَقِّنَا، وَسَائِقُ قَوْلِنَا، الْمُؤَيِّدِ لِصِدْقِنَا، وَالدَّامِغُ لِبَاطِلِ أَعْدَائِنَا»[9] . ويقول له: «يَا هِشَامُ، لاَ تَزَالُ مُؤَيَّداً بِرُوحِ اَلْقُدُسِ»[10] . وقال له: «مِثْلُكَ فَلْيُكَلِّمِ النَّاسَ»[11] .
وروى يونس ابن يعقوب: أنه ورد هشام بن الحكم وهو أول ما اختطت لحيته وليس فينا إلّا من هو أكبر سنًّا منه، قال: فوسع له أبو عبدالله [الإمام جعفر الصادق ] وقال: «نَاصِرُنَا بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ»[12] .
ونجد للإمام ثناءً كبيرًا على تلميذه أبان بن تغلب، حيث قال له: «جَالِسْ أَهْلَ اَلْمَدِينَةِ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَوْا فِي شِيعَتِنَا مِثْلَكَ»[13] .
وقال لسليم بن أبي حبة: «اِئْتِ أَبَانَ بْنَ تَغْلِبَ فَإِنَّهُ قَدْ سَمِعَ مِنِّي حَديثًا كَثِيرًا، فَمَا رَوَى لَكَ فَاِرْوِهِ عَنِّي»[14] .
وورد عنه أنه قال في حقّ حمران بن أعين: «إِنَّهُ رَجُلٌ مِنَ أهْلِ الْجَنَّة»[15] .
كما ورد عنه أنه إذا رأى عيسى بن أبي منصور قال: «مَن أَحَبَّ أَن يَرى رَجُلًا مِن أَهلِ الجَنَّةِ فَليَنظُر إِلى هَذَا»[16] .
وورد عنه مثل ذلك في الفضيل بن يسار.
تشجيع الكفاءات الأدبية
من ناحية أخرى، كان الإمام الصادق يشجع الكفاءات الأدبية الشعرية، حيث ورد عنه أنه قال: «مَنْ قَالَ فِينَا بَيْتَ شِعْرٍ بَنَى الله تَعَالَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ»[17] .
كما أشاد بالشاعر سفيان العبدي، ودعا إلى نشر شعره وتعليمه، حيث قال: «عَلِّمُوا أَوْلَادَكُمْ شِعْرَ الْعَبْدِيِّ فَإِنَّهُ عَلَى دِينِ الله»[18] .
وكان يتيح الفرصة لبعض الشعراء أن يقرؤوا شعرهم في نصرة الدين بمجلسه، بل كان يطلب منهم ذلك، كما ورد أنه طلب من جعفر بن عفان أن ينشده من شعره في الحسين [19] .
إنّ هذا الجانب من سيرة الإمام الصادق يؤكّد على ضرورة اهتمام المجتمع ببناء كفاءات أبنائه في مختلف مجالات الحياة، كما يشير إلى أهمية تقدير الكفاءات وتحفيزها للعطاء والإبداع وتعزيز دورها في ساحة المجتمع.