حماية المنجزات

 

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ. [سورة محمد، الآية: 33].

من الطبيعي أن يفرح الإنسان، ويُسرّ حينما يحقّق أيّ منجز من المنجزات المهمة، لكنّ تحقيق الإنجاز يجعله أمام تحدٍ أكبر، وهو الحفاظ على ذلك الإنجاز، وحمايته من التلاشي والضّياع.

فهناك من ينشغل بفرحة إنجازه، ويغفل عن حماية منجزه، فيضيع الإنجاز من بين يديه، وذلك حين يصيبه الغرور، أو تتسلل عوامل الضعف والفساد إلى منجزه، أو يتوانى عن استثماره وتطويره.

فقد يتفوق طالب في دارسته في مرحلة من المراحل، ويحقّق التميّز، بجهدٍ واهتمام، لكن عليه أن يحافظ على مستوى نشاطه واهتمامه، ليواصل مسيرة التفوق والتميّز في المراحل اللاحقة، وإلّا فإنه سيتراجع إلى مستوى الطلاب العاديين، ويفقد نتائج إنجازه السّابق.

وقد يحقّق رجل أعمال تقدّمًا اقتصاديًّا، باغتنامه لبعض الفرص، وقيامه بمشاريع ناجحة، لكنّه إذا ما تراخى في عمله، أو ضعف في إدارته، فستتبخر ثروته، وقد يصبح أسيرًا للديون والأزمات المالية.

وفي المجال الروحي والمعنوي، فإنّ الإنسان إذا وفّقه الله للقيام بأعمال الخير والصّلاح، من عبادات يتقرّب بها إلى الله سبحانه، ومن خدمة يقدّمها لعباد الله، فإنّ عليه أن يحافظ على مكتسباته الروحية، وأعماله الصالحة، حتى لا تتسلّل إليها عوامل البطلان والفساد.

وهذا ما تؤكّد عليه الآية الكريمة، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ. [سورة محمد، الآية: 33].

(وَالْإِبْطَالُ: جَعْلُ الشَّيْءِ بَاطِلًا، أَيْ لَا فَائِدَةَ مِنْهُ، فَالْإِبْطَالُ تَتَّصِفُ بِهِ الْأَشْيَاءُ الْمَوْجُودَةُ)[1] .

ورد عن الإمام محمد الباقر : «اَلْإِبْقَاءُ عَلَى اَلْعَمَلِ أَشَدُّ مِنَ اَلْعَمَلِ»‌[2] .

مكتسبات شهر رمضان

لقد تفضّل الله علينا بأن بلّغنا شهر رمضان، ووفقنا لصيامه، وأداء الطاعات فيه، حيث عاشت مجتمعاتنا أجواءً روحية وإيمانية عالية، بالإقبال على المساجد والمجالس الدينية، وإحياء ليالي القدر بالبرامج العبادية، وكانت هناك استجابة سخية لمشاريع البذل والعطاء، في إفطار الصائمين، ومساعدة المحتاجين، والتفاعل مع الجمعيات الخيرية.

وأمرنا الله تعالى أن نعيش فرحة تحقيق هذه الإنجازات، بإعلان العيد، بعد إتمام الشهر الكريم، فالحمد لله على نعمته وتوفيقه.

لكنّ الآية الكريمة بعمومها وإطلاقها تحذّرنا من إبطال هذا العمل العظيم، والإنجاز الكبير، الذي منَّ الله علينا بتحقيقه في شهر رمضان المبارك.

فكيف نحمي هذا المنجز ونصونه من البطلان والتلاشي؟

أولًا: المحافظة على آثار الصوم

بأن نحافظ على آثار الصوم في نفوسنا وسلوكنا، بتنمية القدرة على التحكم في الرّغبات والشهوات، ذلك أنّ غرض الصوم هو تعزيز التّقوى في نفس الإنسان.

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. [سورة البقرة، الآية: 183].

وخلال شهر كامل يكبح الصائم رغباته وحاجاته المنافية للصوم، ليتدرّب على مخالفة الرّغبات المنافية للدين وقيم الأخلاق.

جاء في خطبة لأمير المؤمنين علي في يوم الفطر: «اِعْلَمُوا عِبَادَ اَللَّهِ أَنَّ أَدْنَى مَا لِلصَّائِمِينَ وَاَلصَّائِمَاتِ أَنْ يُنَادِيَهُمْ مَلَكٌ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ: أَبْشِرُوا عِبَادَ اَللَّهِ، فَقَدْ غُفِرَ لَكُمْ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَكُونُونَ فِيمَا تَسْتَأْنِفُونَ»[3] .

إنّ على الإنسان أن يفعّل نتائج هذه الدورة التدريبية المكثفة في سلوكه، فلا يستجيب للأهواء والشهوات، ويقع في المعاصي والذنوب، كما يقول الشاعر أحمد شوقي متحدّثًا عمّن ينتكسون إلى الذّنوب بعد شهر رمضان:

رَمَضانُ وَلّى هاتِها يا ساقي      مُشتاقَةً تَسعى إِلى مُشتاقِ

ما كانَ أَكثَرَهُ عَلى أُلّافِها               وَأَقَلَّهُ في طاعَةِ الخَلّاقِ

اللَهُ غَفّارُ الذُنوبِ جَميعِها                إِن كانَ ثَمَّ مِنَ الذُنوبِ بَواقي

بِالأَمسِ قَد كُنّا سَجينَي طاعَةٍ          وَاليَومَ مَنَّ العيدُ بِالإِطلاقِ[4] 

ثانيًا: المداومة على السنن الحسنة

إنّ أجواء شهر رمضان المبارك تحفّز الإنسان للالتزام ببعض البرامج الدينية والاجتماعية، وعلينا الاستمرار على هذه السنن والعادات الطيبة التي مارسناها في الشهر الكريم، بالمقدار الممكن، من مواظبة على تلاوة القرآن، وحضور المساجد، والتواصل الاجتماعي، والبذل والعطاء.

سُئِلَ رَسُولَ اللهِ : أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: «أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ»[5] .

وورد عن الإمام محمد الباقر : «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِنْ قَلَّ»[6] .

ثالثًا: المحافظة على رصيد الثواب الإلهي

هذا الثواب الذي نرجو أنه قد تراكم لنا من بركات الشهر الكريم، فلا نحرق ذلك الرّصيد بالأعمال السيئة، لا سمح الله.

وقد تحدّث القرآن الكريم في عدد من آياته عن إحباط الأعمال الصالحة، بمعنى إبطالها وإلغاء ثوابها، بسبب ارتكاب بعض المفاسد.

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ. [سورة الحجرات، الآية: 2].

ويشير عدد من النصوص الدينية إلى أنّ بعض السيئات تأكل الحسنات.

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ. [سورة البقرة، الآية: 264].

وورد عن النبي : «إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ»[7] .

وجاء عن الإمام جعفر الصادق : «قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ : مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اَللَّهِ غَرَسَ اَللَّهُ لَهُ بِهَا شَجَرَةً فِي اَلْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ غَرَسَ اَللَّهُ لَهُ بِهَا شَجَرَةً فِي اَلْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ غَرَسَ اَللَّهُ لَهُ بِهَا شَجَرَةً فِي اَلْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَ اَللَّهُ أَكْبَرُ غَرَسَ اَللَّهُ لَهُ شَجَرَةٌ فِي اَلْجَنَّةِ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، إِنَّ شَجَرَنَا فِي اَلْجَنَّةِ لَكَثِيرٌ. قَالَ: «نَعَمْ، وَلَكِنْ إِيَّاكُمْ أَنْ تُرْسِلُوا عَلَيْهَا نِيرَاناً فَتُحْرِقُوهَا، وَذَلِكَ أَنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَأَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَلاٰ تُبْطِلُوا أَعْمٰالَكُمْ»[8] .

 

خطبة الجمعة 8 شوال 1444هـ الموافق 28 أبريل 2023م.

[1]  التحرير والتنوير، ج26، ص127.
[2]  الكافي، ج2، ص296.
[3]  بحار الأنوار، ج87، ص362.
[4]  أحمد شوقي: ديوان الشوقيات، قصيدة "رمضان ولّى"، ص432.
[5]  صحيح مسلم، حديث: 782.
[6]  الكافي، ج2، ص82، حديث: 2.
[7]  سنن أبي داود، حديث: 4903. ومثله في بحار الأنوار، ج70، ص255.
[8]  أمالي الشيخ الصدوق، ص607، حديث 968.