الاستجابة للقرآن

 

﴿إِنَّ هَٰذَا القرآن يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [سورة الإسراء، الآية: 9].

يتفاوت مستوى الاستفادة من قراءة القرآن واستماعه حسب اختلاف مقاصد القراءة ودوافعها.

فهناك من يقرأ القرآن بقصد البركة ونيل ثواب التلاوة، كما هو السّائد عند أكثر المسلمين، وقد يُهدون ثواب التلاوة لموتاهم.

وهناك من يقرأ القرآن ليتذوّق بلاغة التعبير في آياته، وفصاحة ألفاظه وكلماته، أو يستمع التلاوة من صوتٍ حسنٍ الأداء والإيقاع إعجابًا بموسيقاه الجميلة.

وهناك من يقرأ القرآن لكسب الأجر أو المكافأة.

وهناك من يقرؤه لتحصيل استفادة علمية في اللغة أو التاريخ أو الفقه، أو سائر حقول العلم والمعرفة.

وكلّها مقاصد نبيلة، لكن ما يجب أن يكون مقصدًا أساسًا في قراءة القرآن هو الاهتداء بالقرآن، والاستجابة لأوامره وتعاليمه.

إنّ القرآن يقرّر أنّ وظيفته ومهمّته هي هداية الإنسان، يقول تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا القرآن يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [سورة الإسراء، الآية: 9]، ويقول تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ. [سورة البقرة، الآية:185]

ويقول تعالى: ﴿ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ. [سورة البقرة، الآية:2]

ويقول تعالى: ﴿طس ۚ تِلْكَ آيَاتُ القرآن وَكِتَابٍ مُّبِينٍ ‎﴿١﴾‏ هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة النمل، الآيتان: 1-2] والهدى إراءة الطريق الموصل إلى المطلوب.

الحاجة إلى الهدى

وحاجة الإنسان إلى الهداية حاجة ملحّة، وبدونها يعيش الضّياع والضّلال، إنه كائن متميّز، فضّله الله على سائر مخلوقاته، بما منحه من عقل وإرادة، وينطوي على نزعات ورغبات متصارعة في أعماق نفسه، فكيف يستفيد من عقله؟ وكيف يستخدم إرادته؟ وكيف يتعامل مع نزعاته ورغباته المختلفة؟

ولأنّ الإنسان اجتماعي مدنيٌّ بطبعه، فهو يعيش مشكلة إدارة العلاقة مع محيطه الاجتماعي، حيث تختلف الآراء والتوجهات، وتتضارب المصالح والإرادات.

ويواجه الإنسان تساؤلات تفرض نفسها عليه ككائن مفكّر حول مصدر ونهاية وجوده، وعن هدف ومعنى حياته، وتقلقه الحيرة أمام هذه التساؤلات، وتتأثر حياته بالإجابات عليها.

إنّ الإنسان كثيرًا ما يجد نفسه أمام خيارات مختلفة متعدّدة، على صعيد الأفكار والآراء، والمواقف والتصرّفات، فيحتار في معرفة الصحيح والأصح منها، وحتى حينما يعرف، فقد يواجه ضغوطًا من داخل نفسه، أو من محيطه الاجتماعي تصرفه عن اختيار الصواب.

من هنا يكون الهدى حاجة دائمة للإنسان، ليتجنّب متاهات الضّلال والضّياع، والقرآن أنزله الله ليكون مصدر هدًى يُري الإنسان طريق الحقّ والصواب، في مختلف الشؤون والمجالات.

كما يصف القرآن نفسه بأنه نور، ووظيفة النور الإضاءة، ليرى الإنسان موقع وجوده، ومسار حركته، ويرى الأشياء من حوله.

يقول تعالى: ﴿... قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ‎﴿١٥﴾‏ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة المائدة الآيتان: 15-16].

ويقول تعالى: ﴿الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سورة إبراهيم، الآية:1].

كيف نهتدي ونستنير بالقرآن؟

لكنّنا نجد أنّ كثيرًا ممن يقرؤون القرآن لا يستضيئون بنوره في حياتهم، ولا يستجيبون لهدايته.

فكيف يهتدي الإنسان ويستنير بقراءة القرآن؟

عليه أولًا: أن يستحضر في نفسه، أنّ ما يقرؤه خطابٌ من الله تعالى إليه، وليس كما يقرأ كتابًا تاريخيًّا أو لأحد المؤلفين، بل كما يقرأ الرسالة أو الخطاب الذي يأتيه من مقام يحترمه ويجلّه، ويرى نفسه في حاجة لإرشاده، وملزمًا بتوجيهه، كما إذا جاءت الموظف رسالة أو تعليمات من إدارته، أو جاءت رسالة إلى خادم من مخدومه، أو من حبيب إلى حبيبه، فإنه يتعامل معها باهتمام.

إنّ استحضار هذا المعنى هو ما تشير إليه بعض النصوص الدينية، فقد ورد عن الإمام جعفر الصادق : (مَنْ قَرَأَ اَلْقُرْآنَ فَكَأَنَّمَا أُدْرِجَتِ اَلنُّبُوَّةُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُوحَى إِلَيْهِ)[1] .

وعنه : (لَقَدْ تَجَلَّى اللّهُ لِخَلْقِهِ في كَلامِهِ وَلكِنَّهُمْ لا يُبْصِروُنَ)[2] .

ثانيًا: أن يتأمّل ما يقرأ، ويحاول فهمه والتدبّر فيه، ليعرف ما تقوله الآيات القرآنية، ويتفاعل مع مضمونها.

ورد عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: (قَالَ لِي النَّبِيُّ : «اقْرَأْ عَلَيَّ»‌، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَأَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: «نَعَمْ». فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [سورة النساء، الآية: 41]، قَالَ: «حَسْبُكَ الْآنَ»، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ)[3] .

وعن زر بن حبيش قال: (قَرَأتُ القُرآنَ مِن أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ فِي المَسجِدِ الجامِعِ بِالكوفَةِ عَلى أميرِ المُؤمِنينَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ - إلى أن قال - فَلَمّا بَلَغتُ رَأسَ العِشرينَ مِن حم عسق: ﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [سورة الشورى، الآية: 22] بَكى حَتَّى ارتَفَعَ نَحيبُهُ)[4] .

وجاء عن الإمام جعفر الصادق : (يَنْبَغِي لِمَنْ قَرَأَ القرآن إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ مِنَ القرآن فِيهَا مَسْأَلَةٌ أَوْ تَخْوِيفٌ أَنْ يَسْأَلَ عِنْدَ ذَلِكَ خَيْرَ مَا يَرْجُو، وَيَسْأَلَهُ الْعَافِيَةَ مِنَ النَّارِ وَمِنَ الْعَذَابِ)[5] .

الالتزام بتطبيق القرآن

ثالثًا: أن يقرأ مع الاستعداد للاستجابة والتفاعل مع أوامر القرآن وتوجيهاته، وهذا ما تؤكّد عليه النصوص الدينية حول قراءة القرآن.

فقد ورد عن النبي : (اقْرَأِ الْقُرْآنَ مَا نَهَاكَ، فَإِنْ لَمْ يُنْهِكْ فَلَسْتَ تَقْرَؤُهُ)[6] .

وورد عنه : (رُبَّ تَالٍ لِلْقُرْآنِ وَالقرآن يَلْعَنُهُ)[7] .

وجاء عن الإمام محمد الباقر : (وَرَجُلٌ قَرَأَ القرآن، فَحَفِظَ حُرُوفَهُ، وَضَيَّعَ حُدُودَهُ، وَأَقَامَهُ إِقَامَةَ الْقِدْحِ، فَلَا كَثَّرَ اللهُ هؤُلَاءِ مِنْ حَمَلَةِ القرآن)[8] .

يقول الشيخ محمد الغزالي: (قد تكون مشكلتنا اليوم في التعامل مع القرآن كالعاصي من البشر الذي يسمع آيات تدعو إلى التوبة فلا يدرك أبعاد معصيته، وضرورة الالتفات إلى التوبة المودعة في الآيات، وإنما يلتفت إلى موسيقى القراءة ونغم التالي، فيقول: "الله.. الله" للنغمة التي يسمعها)[9] .

إنّ من يقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا. [سورة الإسراء، الآية: 36] عليه أن يتحقّق من أيّ فكرة ترد إلى ذهنه، ومن أيّ معلومة تصله، ولا يحقّ له أن يتبع الظّنون والأقاويل.

وأنّ من يقرأ قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا. [سورة البقرة، الآية: 83]، وقوله تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا. [سورة الإسراء، الآية: 53]، عليه أن يحرص على حفظ لسانه من أيّ كلمة بذيئة أو مسيئة.

وأنّ من يقرأ قوله تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ. [سورة النور، الآية: 22] عليه أن يتحلّى بالحلم والصّفح والعفو عمّن أخطأ بحقّه أو أساء إليه.

إنّ القرآن كتاب هداية وحياة، وقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ. [سورة الأنفال، الآية: 24]

 

خطبة الجمعة 16 رمضان 1444هـ الموافق 7 أبريل 2023م.

[1]  وسائل الشيعة، حديث ٧٧٠٤.
[2]  بحار الأنوار ج89، ص107، حديث 2.
[3]  صحيح البخاري، باب قول المقرئ للقارئ حسبك، ح 5050.
[4]  بحار الأنوار، ج 92، ص 206، ح 2.
[5]  وسائل الشيعة، ج6، ص171، حديث ٧٦٥٦.
[6]  كنز العمال، ح2776.
[7]  بحار الأنوار، ج89، ص 184، حديث19.
[8]  الكافي، ج2، ص627، حديث1.
[9]  محمد الغزالي، كيف نتعامل مع القرآن، ص53.