كيف نشكر الله؟

 

يقول تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13]

يفرح الإنسان حينما يحصل على مكسب ونعمة، وحينما يتجاوز محنة أو مشكلة.

ويدفعه وجدانه وعقله لإبداء الشكر والامتنان لمن كان منشأً وسببًا لحصول النعمة، أو تجاوز المحنة.

وانطلاقًا من الإيمان بأن الله تعالى هو خالق الكون، ومدبّر الحياة، فإنه تعالى مصدر كلّ نعمة، ودافع كلّ نقمة.

يقول تعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ. [النحل: 53]

من هنا يحكم العقل بوجوب شكر الله تعالى على نعمه، ويأتي الدين ليذكّر الإنسان ويرشده إلى ما يحكم به عقله ووجدانه، فشكر المنعم في الأصل واجب عقلًا قبل أن يكون واجبًا شرعًا.

ولكن كيف يكون الشكر لله تعالى على نعمه، وبأيِّ طريقة وأسلوب؟

مراتب الشُّكر

هناك ثلاث مراتب للشُّكر:

الأولى: أن يدرك بقلبه أنّ النعمة من الله، ويتوجه إليه بالشُّكر من أعماق نفسه.

ورد عن الإمام جعفر الصادق : «مَنْ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِ بِنِعْمَةٍ فَعَرَفَهَا بِقَلْبِهِ فَقَدْ أَدَّى شُكْرَهَا»[1] .

الثانية: أن يظهر شكر الله تعالى بلسانه، وهو الإعلان التعبيري عن الحمد والثناء على الله، بما أفاض عليه من النعم.

ورد عن الإمام جعفر الصادق : «تَمامُ الشُّكرِ قولُ الرجُلِ: الحَمدُ للّه رَبِّ العالَمِينَ»[2] .

وعنه : «كانَ رسولُ اللّه ِ إذا وَرَدَ علَيهِ أمرٌ يَسُرُّهُ قالَ: الحَمدُ للّه على هذِهِ النِّعمَةِ»[3] .

الثالثة: الشكر بالمبادرة العملية لفعل الخير.

وهذا ما تشير اليه الآية الكريمة: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ، ويستنتج المفسّرون من قوله تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ أنّ المقصود قلّة الشاكرين لله تعالى على مستوى الشكر العملي، أما الشكر باللسان فقد يلهج به كثيرون.

ورد عن الإمام علي : «شُكرُ المؤمِنِ يَظهَرُ في عَمَلِهِ، شُكرُ المُنافِقِ لا يَتَجاوَزُ لِسانَهُ»[4] .

ظاهرة إيجابية لافتة

من الظواهر الإيجابية اللّافتة في ميدان العمل الخيري والتطوعي في المجتمعات الغربية، أنّ كثيرًا من المبادرات الخيرية يطلقها أشخاص كانوا يعيشون أزمة أو محنة في حياتهم، فلمّا تجاوزوها دفعهم وجدانهم لتبنّي عمل خيري تطوعي، يعالج المشكلة التي كانوا يعانون منها. وكأنّ ذلك نوع من الشكر بدافع فطري وجداني، على النعمة التي نالوها، والمحنة التي تجاوزوها.

وأذكر هنا بعض الشّواهد والنماذج:

قرأت عن  منظّمة باسم "أصدقاء الأطفال"، في مدينة بورتلاند في الولايات المتحدة الأمريكية، التي تأسّست عام ١٩٩٣م، على يد رجل أعمال، عاش طفولة مريرة صعبة مع عائلته، ونشأ في حي فقير مليء بالمشكلات، وبعد أن نجح في مجال ريادة الأعمال، قرّر أن يبادر لفعل شيءٍ من الممكن أن يُجنّب الأطفال ما مرّ به، ويوفر لهم بيئة صحية وملائمة للنُّمو في حياتهم، فقرّر إنشاء منظّمة تهتم بالأطفال الذين يعيشون حياة صعبة لفقر عوائلهم، أو تخلّف وضعهم الاجتماعي، أو لتفكّك الأسرة، وذلك بتعيين موجّه لكلّ طفل من هذه الفئة، يطلق عليه (صديق الطفل) وهو موظف لدى المنظّمة بمرتّب، ويختار ضمن مواصفات تؤهّله لدوره، يكون معنيًا بمتابعة وضع الطفل، وقضاء وقت محدّد معه يوميًّا أو أسبوعيًّا، ضمن الخطة الموضوعة للمتابعة، إلى أن يتخرّج من الثانوية، ويلتحق بالجامعة. وتقوم المنظّمة بتقويم مستمرٍّ لبرنامجها بالتعاون مع باحثين من عدّة جامعات للتطوير الدائم[5] .

مبادرات متنوعة

ونقرأ في مبادرة أخرى أنّ امرأة فقدت ابنها دهسًا أمام المدرسة، وحينما تجاوزت صدمة الحادث الأليم، صارت تقوم بدور الحماية للطلاب عند دخولهم وخروجهم من المدرسة، بداية الدوام الدراسي ونهايته، وتشجّع الآخرين على القيام بهذا الدّور.

ونقرأ عن مصابٍ بفشل كلوي يجد له متبرّعًا ينقذه من معاناته، فينشئ مؤسّسة للحثّ على التبرّع بالأعضاء.

وعن ممثل أمريكي كان ينتمي لعائلة فقيرة، وكان يمرّ على متجر يبيع حلوى (سنيكرز) فيتحسّر؛ لأنه لا يمتلك ثمن شراء قطعة منها وهو في الرابعة عشرة من عمره، فكان يغافل الموظّف في المتجر ويسرق قطعة من الحلوى في معظم الأيام، وبعد أن كبر وأصبح ممثلًا، وله دخل وفير، استذكر تلك السيرة في صغره، ففكر في القيام بمبادرة عملية للتكفير عن ذنبه، فكان يشتري كمية الحلوى في المتجر للتوزيع على الأطفال، الذين لعلّ بعضهم لا يمتلك قيمتها كما كان هو يعاني في صغره، ووثّق ذلك بمقطع فيديو لمتابعيه على وسائل التواصل الاجتماعي.

توجيه قرآني

ويمكننا أن نستوحي التوجيه لمثل هذه المبادرات من قوله تعالى في سورة الضحى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ ‎﴿٦﴾‏ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ ‎﴿٧﴾‏ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ ‎﴿٨﴾‏ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ‎﴿٩﴾‏ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ‎﴿١٠﴾‏ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ.

فإنّ الله تعالى بعد أن يمتنّ على نبيّه بنعمه، يوجّهه للشكر العملي المتجانس مع تلك النعم.

كم من إنسان يوسّع الله تعالى عليه الرزق بعد فقر وضيق؟ إنّ عليه أن يشكر النعمة بأن يتحسّس معاناة من يعيشون معاناة ضيقه السّابق.

وكم من إنسان يمنّ الله عليه بالصحة والعافية والنجاة من مرض خطير، فعليه أن يشكر الله بمساعدة المرضى الآخرين.

وكم من إنسان كان يعيش الفراغ والانحراف، فأتاح الله له فرصة الهداية، فعليه أن يعمل لهداية الآخرين.

نسأل الله تعالى أن يديم علينا نعمه، وأن يمنحنا المزيد من فضله، وأن يوفّقنا لشكره من أعماق قلوبنا وبألسنتنا وصالح أعمالنا.

 

خطبة الجمعة 11 شعبان 1444هـ الموافق 3 مارس 2023م

[1]  الشيخ الكليني: الكافي: ج2، ص96، ح15.
[2]  المصدر السابق، ج2، ص95، 10.
[3]  نفسه، ج2، ص97، ح19.
[4]  عيون الحكم والمواعظ، ص291.
[5]  مصطفى المزعل: الفرصة الأخيرة.. تجربة قيادية ثقافية، ص89، عن موقع المنظمة: https://friendspdx.org/