صنّاع الفتن بين الشعوب والمجتمعات

 

يقول تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ. [الأنفال: 25]

حين نقرأ تاريخ الحروب والنزاعات بين المجتمعات والجماعات، نجد أنّ قسمًا منها ينشأ بسبب تصرّفات ومواقف متشنجة من أفراد ضمن هذه الجماعة أو تلك، يقابله انفعال وردّ فعل مشابه من أفراد في الجماعة الأخرى، ثم يصبح النزاع شاملًا بين الجماعتين.

وقد ذكروا أنّ بعض الحروب بين القبائل العربية في الجاهلية انطلقت من تصرّفات فردية استفزازية، قادت إلى حروب طويلة.

فكُليب يصيب ضرع ناقة امرأة يقال لها البسوس بسهم، فتندلع على إثرها حرب ضروس. استمرّت لما يقارب الأربعين سنة.

وزعيم قبلي يمدّ رجله مهدّدًا من يجرأ على إصابتها، قائلًا: «أنا والله أعزّ العرب، فمن زعم أنه أعزّ منّي فليضرب هذه بالسيف»، فيستجيب لاستفزازه شخص من قبيلة منافسة، ويضرب رجله فتقع معركة.

وفي عصرنا الحاضر، فإنّ الحرب العالمية الأولى في أوروبا، أشعل شرارتها طالب جامعي صربي، قام باغتيال ولي عهد النمسا وزوجته اثناء زيارتهما لسراييفو في 28 يوليو/ حزيران 1914م، وانتهت بصراع عنيف لأربع سنوات شاركت فيه أكثر من 70 دولة، وراح ضحيتها 22 مليون إنسان.

ونجد مثل ذلك في الحروب الدينية والنزاعات الطائفية، التي قد تنشب بسبب كلمة متطرفة، أو ممارسة متشنجة، من أفراد ضمن هذه الديانة أو ذاك المذهب.

وقد عاصرنا تداعيات 11 سبتمبر 2001م والهجوم على برجي مركز التجارة الدولية في مانهاتن في الولايات المتحدة الأمريكية، من قبل مجموعة إرهابية تنتسب إلى الإسلام، هذه التداعيات التي أدخلت العالم كلّه في نفق جديد، وأدت إلى احتلال أفغانستان ثم العراق، وما رافق ذلك من أحداث ساخنة لا تزال آثارها مستمرّة إلى اليوم.

لذلك فإنّ الله تعالى يحذّر المجتمعات من حصول الفتن، فآثارها الخطيرة تتعدّى صانعيها وتصيب المجتمع كلّه، يقول تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ. [الأنفال: 25]

التطرف اليميني الغربي

وهذا هو ما يجب أن يثير القلق على المستوى العالمي، من الممارسات اليمينية المتطرفة في الدول الغربية، ضدّ المقدّسات الإسلامية، وآخرها ما حصل في السويد  في الأسبوع الماضي (22/01/2023م)، من إقدام زعيم حزب يميني متشدد (راسموس بالودان) على حرق القرآن، بعد أن أخذ رخصة من الشرطة السويدية، للتظاهر في خمس مناطق بالعاصمة ستوكهولم، لإحراق القرآن في كلّ منطقة، وفي منشور له على حسابه على (فيسبوك) قال: (إنّ الغرض من التظاهرة السّخرية من الإسلام وإهانة محمد)، وقد اختار لمظاهراته الأحياء التي يقطنها عدد كبير من المواطنين ذوي الأصول الأجنبية والمسلمين، ونقلت عنه وكالة (يورو نيوز) الأوربية قوله: (نريد أن يستيقظ السويديون، إحدى الطرق لفعل ذلك هي إظهار ردّ فعل بعض الناس عند إحراق القرآن).

وخرجت مظاهرات احتجاجية على حركته أدت إلى صدامات عنيفة، وإصابة 26 شرطيًا و14 مدنيًا. وتخللها رشق بالحجارة وإحراق سيارات، أعقبها اعتقالات واسعة. مما يهدّد التعايش في المملكة الأوروبية الهادئة.

وتشير تقارير وتحليلات غربية، إلى تصاعد تيار اليمين ا لمتطرف في عموم الدول الأوربية، الذي يتبنّى فكرة تفوق الرجل الأبيض. ويشكّل هذا التيار أخطر التهديدات في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.

إنّ المقصود من هذه الممارسات المتطرفة ضدّ الإسلام والمسلمين إشعال حرب دينية، وصدام حضاري، بين الوجود الإسلامي في البلدان الغربية ومجتمعات تلك البلدان، وبين الشعوب الإسلامية والعالم الغربي.

إنّ هؤلاء ينطلقون من فكر متطرف، ونزعة عنصرية، ليحرّضوا على الكراهية، ويشعلوا الحروب والمواجهات.

وهم يعزفون على وتر العاطفة الدينية، والهوية الحضارية، بخطاب شعبوي بغيض، ليستقطبوا أبناء مجتمعاتهم.

وقد تقف وراءهم بعض القوى السياسية لتحقيق أغراض مصلحية.

إنّ على المسلمين أن يواجهوا هذا الاستهداف لدينهم ومقدّساتهم ووجودهم، ولكن بخطط حكيمة مدروسة، حتى لا يقعوا في فخ صدام الحضارات، واستخدام الأساليب المشينة، والممارسات العنفية الإرهابية.

حرية التعبير عن الرأي مبرر زائف

ومن المؤسف والمؤلم أن تفسح الحكومات الغربية المجال لهؤلاء المتطرفين، ليشعلوا الحروب والفتن في داخل البلدان الغربية نفسها، نظرًا للوجود الإسلامي فيها، وعلى مستوى العلاقات الدولية مع الحكومات والبلدان الإسلامية.

والمبرّر الذي يطرحونه هو حرية التعبير عن الرأي مبرّر زائف مرفوض؛ لأنّ الإساءة للآخرين، والتحريض على الكراهية لا تدخل ضمن حرية التعبير عن الرأي.

كما أنّ النتائج والتبعات الخطيرة لهذه الممارسات المتطرفة، تضرّ بالأمن والسلم العالمي، والشعوب تتطلّع لقرارات من الأمم المتحدة بتجريم الازدراء بالأديان، والتعدّي على المقدّسات الدينية لكلّ الأمم والشعوب.

لماذا تُجرّم القوانين الغربية التشكيك في المحرقة (الهولوكوست)، وتعتبره معاداة للسامية، عقوبتها السجن 15 سنة.

وكذلك فإنّ القانون السويدي يجرّم أيّ حرق لعلم المثليين؛ لأنه يشكّل تحريضًا ضدّ مجموعة من المواطنين، ولا يجرّم حرق القرآن، الكتاب المقدّس لأكثر من ملياري مسلم، منهم عشرات الآلاف مواطنون سويديون!

إنّها ازدواجية مفضوحة.

تبرير الإساءة لرموز المذاهب الإسلامية

ونجد شبيهًا بهذا التبرير الغربي المرفوض، ما يطرحه بعض المتطرفين في داخلنا الإسلامي، من تبرير إساءاتهم لمقدّسات المذهب المخالف لهم، بأنّ ذلك ضمن حرية التعبير عن المعتقد، وممارسة الشعيرة المذهبية، إنه مبرّر مرفوض؛ لأنّ أئمة أهل البيت وجهوا شيعتهم للالتزام بأعلى درجات الأدب في التعامل مع المخالفين في الدين والمذهب.

وعلينا أن نرفض أيّ صوت متطرف، أو ممارسة متشنّجة، تسبب توترًا مذهبيًّا طائفيًّا في أوطاننا ومجتمعاتنا.

في هذا السياق نستحضر رواية وردت في الكافي عَنِ اَلْحَارِثِ بْنِ اَلْمُغِيرَةِ قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو عَبْدِ اللّهِ [الإمام جعفر الصادق] فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: «مَنْ ذَا أَحَارِثٌ؟»

قُلْتُ: نَعَمْ.

قَالَ: «أَمَا لَأَحْمِلَنَّ ذُنُوبَ سُفَهَائِكُمْ عَلى عُلَمَائِكُمْ».

ثُمَّ مَضى، فَأَتَيْتُهُ، فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ، فَدَخَلْتُ، فَقُلْتُ: لَقِيتَنِي، فَقُلْتَ: «لَأَحْمِلَنَّ ذُنُوبَ سُفَهَائِكُمْ عَلى عُلَمَائِكُمْ؟» فَدَخَلَنِي مِنْ ذلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ.

فَقَالَ: «نَعَمْ، مَا يَمْنَعُكُمْ إِذَا بَلَغَكُمْ عَنِ الرَّجُلِ مِنْكُمْ مَا تَكْرَهُونَ، وَمَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا بِهِ الْأَذى أَنْ تَأْتُوهُ، فَتُؤَنِّبُوهُ، وَتَعْذِلُوهُ، وَتَقُولُوا لَهُ قَوْلًا بَلِيغًا»؟

فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِذا لَا يُطِيعُونَا، وَلَا يَقْبَلُونَ مِنَّا؟

فَقَالَ: «اهْجُرُوهُمْ، وَاجْتَنِبُوا مَجَالِسَهُمْ»[1] .

إنّ على العلماء والواعين في كلّ مجتمع ألّا يسمحوا للعناصر المتطرفة الفاقدة للرشد العقلي، وهم السفهاء حسب التعبير القرآني، وما ورد في الرواية، أن يعبثوا بسمعة المجتمع، وعلاقاته مع المكونات الوطنية والاجتماعية الأخرى.

عليهم أن يردعوا هذه العناصر، ويحاصروها اجتماعيًّا، حتى لا تتمدّد ويتّسع تأثيرها على الجمهور، لما تطرح من شعارات عاطفية، وخطاب شعبوي، يسبّب الضرر والأذى لخطّ أهل البيت ، ويمزّق ساحة الأمة، فكما نرفض تبريرات الغرب للإساءة لديننا، بأنه من حرية التعبير، كذلك يجب أن نرفض التبرير للإساءة لرموز سائر المذاهب، بأنه تعبير عن حرية المعتقد وشعائر المذهب.

 

خطبة الجمعة 5 رجب 1444هـ الموافق 27 يناير 2023م.

[1]  الشيخ الكليني: الكافي (الإسلامية)، ج8، ص162، ح169، الكافي (دار الحديث)، ج15، ص386، ح ١٤٩٨٤.