قيمة الوطن وكفاءة المواطن

 

يقول تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ. [البلد: 1-2].

حبّ الإنسان وانجذابه لمسقط رأسه، وموطن نشأته، أمر فطري وجداني، حتى لو لم تكن لتلك البقعة أيّ ميزة إضافية، بل إنّ بعض البلاد تكتنف الحياة فيها صعوبات ومشاق، لكنّ أهلها يتشبّثون بها، ويسكن نفوسهم الحنين إليها، كبعض المناطق الجبلية الوعرة، أو البلدان التي تتكرّر فيها الفيضانات والهزّات الأرضية، أو تقلّ فيها الموارد والإمكانات الاقتصادية، وحتى من يغادرون موطنهم إلى بلدان أكثر تقدّمًا ورقيًّا، يحتفظون بالحنين والانجذاب النفسي إلى مسقط رؤوسهم.

ولعلّ من ذلك ما أشار إليه الشاعر العربي قتادة بن إدريس:

بِلاَدِي وَإِنْ جَارَت عليَّ عَزِيْزَةٌ           وَأَهْلِي وَإِنْ ضَنُّوا عَلَّيَ كِرامُ

ميزات الأوطان

وكلّما توفرت في الوطن ميزات إضافية، ازداد تعلّق الإنسان به، وانجذابه إليه، واعتزازه وافتخاره بالانتماء إلى ذلك الوطن.

والميزات الإضافية للأوطان بعضها ميزات معنوية، وبعضها ميزات مادية.

من أبرز الميزات المعنوية للوطن، أن يكون له عمق تاريخي حضاري، أو مكانة دينية.

ومن أبرز الميزات المادية، أن يتمتع الوطن بطبيعة خلّابة، أو تكون له موارد اقتصادية كبيرة، تنعكس على جودة حياة المواطن، وأن تتوفر للمواطن سُبُل الحياة الكريمة، فيكون متمتّعًا بالأمن والحرية والكرامة.

وبحمد الله تعالى ننتمي إلى وطن اجتمعت فيه ميزات كثيرة، فعلينا أن نشكر الله، وأن نستثمر هذه الميزات، لإسعاد حياتنا، وحياة أجيالنا القادمة.

ففي الجانب المعنوي، يتشرّف هذا الوطن، بالحرمين الشريفين مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وهما أفضل بقاع الأرض.

فضل مكة المكرمة

إنّ الله تعالى يقسم بمكة المكرمة في قوله تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ ‎﴿١﴾‏ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ [البلد: 1-2] حيث اتّفق المفسّرون على أنّ سورة البلد مكية، وإلى مكة يرجع اسم الإشارة ﴿هَٰذَا الْبَلَدِ.

وفي مكة المكرمة بيت الله الحرام، قبلة المسلمين، ومهوى أفئدة المؤمنين، وهو أول بيت وضع للناس، كما يقول تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ. [آل عمران: 96]

وبكّة من أسماء مكة، مأخوذ من البكّ وهو الزّحم، وبكّة أي زحمة، وتباكَّ الناس أي ازدحموا. سميت مكة بذلك؛ لازدحام الطائفين ببيتها الحرام.

والكعبة أول بيت للعبادة وضع للناس، فهي أقدم معبد بني على وجه الأرض، ليعبد فيه الله، وتفيض منه على الناس البركة والهداية.

إنّ المصادر الإسلامية والتاريخية، تحدّثنا أنّ الكعبة تأسّست على يدي آدم ، ثم تهدّمت بسبب الطوفان في عهد النبي نوح ، ثم جدّد بناءها النبي الأعظم إبراهيم الخليل . فهو ليس المؤسّس لبناء الكعبة، بل المجدّد له.

لذلك يقول تعالى على لسان النبي إبراهيم : ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ. [إبراهيم: 37]

والآية تدلّ على أنّ بيت الكعبة كان له نوع من الوجود حين جاء إبراهيم مع زوجه وابنه الرضيع إلى مكة.

ثم تأتي الآية الأخرى لتتحدّث عن إعادة بناء الكعبة، يقول تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127]، فإبراهيم وإسماعيل قد رفعا قواعد البيت التي كانت موجودة.

وجاء في خطبة للإمام علي : «أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ الْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ صلوات الله عليه إِلَى الْآخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ بِأَحْجَارٍ ... فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ ... ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ عليه السلام وَوَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ»[1] .

وقد وردت أحاديث وروايات كثيرة في فضل مكة، حيث جاء عنه أنه قال عند خروجه من مكة: «وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ»[2] .

وفي معتبرة ميسر بن عبدالعزيز قال: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ (الإمام محمد الباقر) وَعِنْدَهُ فِي اَلْفُسْطَاطِ نَحْوٌ مِنْ خَمْسِينَ رَجُلًا، فَجَلَسَ بَعْدَ سُكُوتٍ مِنَّا طَوِيلًا فَقَالَ: ... «أَتَدْرُونَ أَيُّ اَلْبِقَاعِ أَفْضَلُ عِنْدَ اَللَّهِ مَنْزِلَةً؟» فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ مِنَّا وَكَانَ هُوَ اَلرَّادُّ عَلَى نَفْسِهِ قَالَ: «ذَلِكَ مَكَّةُ اَلْحَرَامُ اَلَّتِي رَضِيَهَا اَللَّهُ لِنَفْسِهِ حَرَمًا، وَجَعَلَ بَيْتَهُ فِيهَا»[3] .

وورد عن الإمام الصادق : «أَحَبُّ اَلْأَرْضِ إِلَى اَللَّهِ تَعَالَى مَكَّةُ، وَمَا تُرْبَةٌ أَحَبُّ إِلَى اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ تُرْبَتِهَا، وَلاَ حَجَرٌ أَحَبُّ إِلَى اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَجَرِهَا، وَلاَ شَجَرٌ أَحَبُّ إِلَى اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ شَجَرِهَا، وَلاَ جِبَالٌ أَحَبُّ إِلَى اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ جِبَالِهَا، وَلاَ مَاءٌ أَحَبُّ إِلَى اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ مَائِهَا»[4] .

فضل المدينة المنورة

وفي فضل المدينة المنورة وردت أحاديث وروايات كثيرة، منها ما جاء عن رسول الله : «إِنَّ مَكَّةَ حَرَمُ اَللَّهِ حَرَّمَهَا إِبْرَاهِيمُ ، وَإِنَّ اَلْمَدِينَةَ حَرَمِي»[5] .

ويكفي في فضلها أنّها ضمّت جسد رسول الله ، وبضعته الطاهرة فاطمة الزهراء ، وكوكبة من أهل بيته، وكثيرًا من صحابته الشهداء الأبرار، والمجاهدين الأخيار.

إنّ وجود الحرمين الشريفين، فخر وشرف كبير لنا ولوطننا، علينا أن نعزّز من قيمته في نفوسنا.

كما حبي الله وطننا بثروات وخيرات هائلة، وهناك نعمة عظيمة نتمتع بها في هذا الوطن وهي نعمة الأمن والاستقرار، نسأل الله تعالى أن يديم علينا هذه النعمة.

إنّ كلّ ذلك يؤكّد القيمة العظيمة للوطن.

كفاءة المواطن تُعلي شأن الوطن

وكما اشتملت الآية الكريمة على القسم بالوطن/ البلد، فإنّها أردفته بالإشارة إلى قيمة إنسان هذا الوطن، وأنموذجه الأعلى شخصية النبي محمد وهو المقصود في قوله تعالى: ﴿وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ. فالبلد (مكة) استحقّ أن يُقسم الله به لوجود رسول الله وحلوله فيه.

ويمكننا أن نستنتج من هذه الإشارة، أنّ قيمة الوطن تتكامل وتتعزّز بكفاءة المواطن.

فالمواطن الكفو الصّالح، هو الذي يستثمر إمكانات الوطن، ويتمتّع بميزاته وخيراته على أفضل وجه، وينمّيها ويحافظ عليها، ويحميها ويدافع عنها.

إنّ كفاءة المواطن تُعلي من شأن الوطن، فالبلدان تفخر بأبنائها الكفوئين المبدعين، في أيّ مجالٍ من مجالات التميّز والابداع، العلمي والأدبي والأخلاقي.

وإنّ أفضل وأهم خدمة نقدّمها للوطن، هي تنمية كفاءات أبنائه.

فلتتضافر جهودنا جميعًا حكومة وشعبًا في الاهتمام بالتعليم، وإتاحة الفرص لتنمية المواهب والقدرات، ورفع مستوى الفاعلية والإنتاج، في مختلف مجالات التنمية الوطنية، والارتقاء بالمستوى القيمي والأخلاقي لأبناء هذا الوطن.

وعليننا أن نشجع بروز الكفاءات الوطنية، وأن نفخر بها، فهي الرّصيد الأكبر للوطن.

 

خطبة الجمعة 27 صفر 1444هـ الموافق 23 سبتمبر 2022م.

[1]  نهج البلاغة: ومن خطبة له تسمى القاصعة، رقم: 192.
[2]  الألباني: صحيح الترمذي، ح3925.
[3]  الشيخ محمد آصف المحسني: معجم الأحاديث المعتبرة، ج2، ص88.
[4]  من لا يحضره الفقيه، ج2، ص243.
[5]  الكافي، ج4، ص564.