العمل الإنساني بطولة الاقتحام

 

يقول تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ‎﴿١٠﴾‏ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ‎﴿١١﴾‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ‎﴿١٢﴾‏ فَكُّ رَقَبَةٍ ‎﴿١٣﴾‏ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ‎﴿١٤﴾‏ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ‎﴿١٥﴾‏ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد: 10-16]

ليس صعبًا على الإنسان أن يعرف طريق الخير، فقد أودع الله في أعماقه وجدانًا يهديه إلى الخير، وعقلًا يرشده إلى طريقه.

لكنّ الصعوبة تكمن في أن يتخذ الإنسان قرار السير في طريق الخير، حيث تعترضه عقبة كأداء، والعقبة الموضع المرتفع الوعر من الطريق، فيتردّد في تجاوزها، ويحتاج إلى شجاعة لاقتحامها، والاقتحام هو الدخول بشدّة ومشقّة في مكان أو جماعة كثيرة، كما يقال: اقتحم الصف.

يقول تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ أي الطريقين طريق الخير وطريق الشّر يعرفهما الإنسان بهداية الله عن طريق وجدانه وعقله.

ثم يحث الله تعالى الإنسان أن يسلك طريق الخير، يقول تعالى: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، لكنّه يستخدم استعارتين لتوضيح ما يواجه الإنسان من صعوبة في انتهاج هذا الطريق:

الاستعارة الأولى: الاقتحام. والاستعارة الثانية: العقبة.

ويؤكد تعالى أنّها عقبة صعبة الاقتحام: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ؟

ثم يبيّن تعالى المنطقة الأكثر صعوبة في طريق الخير، التي تنطبق عليها هاتان الاستعارتان، وهي استشعار آلام الآخرين ومعاناتهم، ومن ثم مساعدتهم وإنقاذهم من تلك المعاناة.

أنانية الإنسان تجعله متمحورًا حول ذاته يلبّي رغباتها ويدفع عنها أيّ ضرر أو أذى، وحين تستحكم الأنانية في نفسه وتسيطر على ذاته، فإنه لا يهتم بآلام من حوله ولا بمعاناة الآخرين من أبناء مجتمعه أو جنسه. ولا يكون مستعدًّا لتحمّل أيّ أعباء تجاههم.

إلّا إذا قرّر تجاوز عقبة الأنانية والشُّح، كما يقول تعالى: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9، التغابن: 16]

وقد تكرّرت مرّتين في القرآن الكريم في سورتي الحشر والتغابن.

الشعور بمعاناة الآخرين ومساعدتهم

وفي هذه الآيات تذكير بمعاناة الأسرى والأرقّاء الذين فقدوا حريتهم، والأيتام المحتاجين وخاصّة الأقارب، والمساكين الذين يلتصقون بالأرض والتراب في زمن المجاعة والفقر، فإنّ الشعور بمعاناة هذه الشرائح الضعيفة ومساعدتها، هو البطولة الحقيقية والاقتحام للعقبة الصعبة.

وقد يواجه من يتصدّى لمساعدة الضعفاء عقبات اجتماعية فيحتاج للاستعداد لاقتحامها وتحمّل سلبياتها.

ومن يتوفق إلى هذا الإنجاز، ويهتم بمعاناة المحرومين والمكروبين، فإنه يستحقّ الفوز والفلاح من قبل الله تعالى: ﴿أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، ﴿أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ.

الإشادة بالعاملين في المجال الإنساني

وهؤلاء يستحقون الإشادة والإكبار من قبل الواعين المنصفين وقد اعتمدت الأمم المتحدة يوم التاسع عشر من أغسطس المصادف لهذا اليوم، ليكون يومًا عالميًّا للعمل الإنساني لتكريم جميع العاملين في مجال تقديم المساعدة الإنسانية، وخاصة من يواجهون المخاطر ويتحمّلون الصعوبات في هذا المجال. كالعاملين في المؤسسات الإغاثية في أماكن الأزمات كمناطق الحروب، وأثناء الكوارث الطبيعية كالسيول والفيضانات والزلازل وتفشّي الأوبئة.

فقد شهد عام 2021م تعرّض 460 عامل إغاثة للهجوم، وقتل منهم 140 شخصًا وجرح 203، واختطف 117.

وفي سنة 2020 تعرّض 483 من العاملين في المجال الإنساني للهجوم، وقتل منهم 125 وجرح 234 واختطف 124.

إنّ المبادرة المحفوفة بالمخاطر لمساعدة الآخرين لا يقوم بها إلّا من يتصف بإرادة العطاء والتضحية، والنشامى والنبل. فيكون حريًّا بالإكبار والتقدير من الناس وعظيم الأجر والمثوبة من الله تعالى.

نماذج في التضحية والإيثار

قبل أقلّ من أسبوعين سجلت مواطنتان سعوديتان موقفًا من أروع مواقف البطولة والتضحية، وهما الدكتورة (عفاف فلمبان) وهي استشارية نساء وتوليد وعقم بمستشفى الحرس الوطني في الرياض، وصديقتها الدكتور (لينا طه).

كانت الدكتورة عفاف مسافرة إلى جدة لزيارة أسرتها، وأثناء وجودها في أحد المنتجعات مع إخوتها وصديقاتها فوجئت بحركة غير اعتيادية وسط البحر، وشاهدت فتاتين تصارعان الموج على وشك الغرق، فبادرت وصديقتها الدكتورة (لينا طه) لمحاولة إنقاذهما، وكان أجلهما أسرع فرحلت وصديقتها غرقًا[1] .

وموقف مشابه ومقارب زمنيًّا قبل أسبوعين أيضًا حيث بادر ثلاثة شبان سعوديين لإنقاذ طفلة ووالدها من الغرق في بحيرة في منطقة سياحية في النمسا، حيث سمعوا صوت صراخ وأنين لطفلة تبلغ من العمر عامين سقطت من مطل البحيرة على ارتفاع يزيد عن 5 أمتار، وكان والدها يحاول إنقاذها دون جدوى، وكان على وشك الغرق هو أيضًا مما جعل الشباب الثلاثة يركضون للسباحة في البحيرة وإنقاذ الطفلة ووالدها من الغرق وسط ذهول الحاضرين من هول الموقف[2] .

تقدير المتطوعين في العمل الخيري

وإذا كانت مثل هذه المواقف تمثل صورة مكبرة لتضحيات العاملين في المجال الإنساني، فإنّ كلّ من يتطوع لأعمال الخير ضمن الجمعيات الخيرية ومراكز التنمية، يجسّد هذا النموذج المشرق، ويستحقّ التقدير والإكبار وخاصة في مثل هذا اليوم.

إنّ هؤلاء العاملين المتطوعين يبذلون من وقتهم وجهدهم في خدمة المحتاجين ومساعدتهم، ويواجهون التحديات المختلفة. فلهم من الله عظيم المثوبة والأجر.

وعلى كلّ واحدٍ منّا أن يتحفّز ويبادر للالتحاق بالعمل الإنساني لأخذ دور في مساعدة الضعفاء والمحتاجين، وتوفير الخدمات التي يحتاجها مجتمعه، فالآيات الكريمة خطاب لنا جميعًا ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ.

ندعو الله أن يجعلنا ممن يقتحمون هذه العقبة.

 

 

خطبة الجمعة 21 محرم 1444هـ الموافق 19 أغسطس 2022م.

[1]  صحيفة عكاظ: https://www.okaz.com.sa/news/local/2111948
[2]  العربية نت: https://ara.tv/98xn7