صناعة العمل الخيري

 

قال تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[1] .

الخير ضدّ الشّر، قال بعض اللغويين: الخير لغة، أصله: العطف والميل. إذ كلّ أحد له ميل إلى الخير وعطف على صاحبه.

وقال المصطفوي في التحقيق: إنّ الأصل في مادة الخير: انتخاب شيء واصطفاؤه وتفضيله على غيره. فَالْخَيْرُ هو ما يقابل الشرّ: وهو ما يختار وينتخب ويكون فاضلًا وراجحًا.

إنّ معرفة الخير والشّر فطرية. فالناس خلقوا جميعًا بحيث يميلون صوب الخير ذاتًا، وينفرون من الشّر طبعًا وجِبِلّة. وعلى هذا جاء عن الإمام الصادق في تفسير الآية الشريفة ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ قوله : «نَجْدَ اَلْخَيْرِ وَنَجْدَ اَلشَّرِّ»[2] .

لو سلب الإنسان هذه المعرفة لكان ذلك سلبًا لإنسانيته.

ورد عن علي : «مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ البَهيمَةِ»[3] .

ولميل الإنسان الفطري للخير ورد عن علي : «اَلْخَيْرُ أَسْهَلُ مِنْ فِعْلِ اَلشَّرِّ»[4] .

وقد لا يميّز الإنسان بعض موارد الخير والشّر ومصاديقهما؛ لغياب الإحاطة بالتفاصيل المحيطة بتلك الموارد، أو لكونها غير واضحة أمامه، أو لرغبات أخرى مزاحمة. يقول تعالى: ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ[5] .

وهنا يأتي دور الوحي ودور النصح والإرشاد من العقلاء والمرشدين.

نعم، فطرة الإنسان تدفعه إلى الخير، لكنه قد يجهل بعض موارده ومصاديقه، أو يغفل عنها، وقد تحول بينه وبين عمل الخير موانع ذهنية أو نفسيه غير حقيقية، كضعف الثقة أو التهيّب أو الكسل أو البخل أو التسويف.

وهنا يأتي دور التذكير والتشجيع والتحفيز على الخير بين الناس.

مسؤولية الدعوة إلى الخير

إنّ البعض من الناس قد يتصور أنه مطلوب منه مباشرة عمل الخير فقط، فهو عليه أن يبادر ويتصدّى لعمل الخير، وليس معنيًا بحال الآخرين، لكن النصوص الدينية تحمّل الإنسان مسؤوليتين: 1/ مباشرة عمل الخير. 2/ ودعوة الآخرين إليه.

يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ[6] .

وإذا كان الإنسان يفعل الخير لنيل رضا الله وثوابه، فإنّ لذلك سبيلين عليه أن يسلكهما معًا هما المباشرة والدلالة.

ورد عن النبي : «مَنْ دَلَّ علَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ»[7] .

وعن الإمام جعفر الصادق عن آباءه عنه : «الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ»[8] .

وعنه : «الخازِنُ المُسْلِمُ الأمِينُ، الذي يُنْفِذُ - ورُبَّما قالَ: يُعْطِي- ما أُمِرَ به كامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبًا به نَفْسُهُ، فَيَدْفَعُهُ إلى الذي أُمِرَ له به أحَدُ المُتَصَدِّقَيْنِ»[9] .

وعن ابن مسعود: كُنّا عِندَ النَّبِيِّ جُلوساً، فَجاءَ سائِلٌ فَسَأَلَ فَناوَلَهُ رَجُلٌ دِرهَماً، فَأَخَذَهُ رَجُلٌ فَناوَلَهُ إيّاهُ، فَقالَ النَّبِيُّ : «مَن فَعَلَ مِثلَ هذا كانَ لَهُ مِثلُ أجرِ المُعطي»[10] .

وعنه : «مَنْ مَشَى بِصَدَقَةٍ إِلَى مُحْتَاجٍ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ صَاحِبِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ»[11] .

موثقة السكوني عن الإمام جعفر الصادق عن آبائه عنه : «مَنْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ أَوْ أَشَارَ بِهِ فَهُوَ شَرِيكٌ»[12] .

وقد اختلف العلماء في المراد بحقيقة المثلية المذكورة في الحديث، فمنهم من ذهب إلى أنّ الدال كالفاعل في حصول مطلق الأجر لا المساواة؛ لأنّ الأجر على قدر المشقّة، ومنهم من ذهب إلى القول بظاهر الحديث من أنّ الدال له مثل أجر الفاعل حقيقة؛ لأنّ الثواب على الأعمال إنّما هو بفضل الله.

طرق الدلالة على الخير

ومن الواضح وجدانًا تأثير الدعوة إلى الخير والدلالة عليه في الواقع الاجتماعي، فكثير من أعمال الخير تحصل بسبب الدعاة إليه، والمشجعين عليه.

وللدلالة على الخير طرق وأساليب أهمها ما يلي:

1/ الحثّ والتشجيع بالقول المباشر وعبر وسائل التثقيف والإعلام.

وقد أتاحت مواقع التواصل الاجتماعي الفرصة لكي يقوم كلّ واحد بدور الدعوة إلى الخير والتشجيع عليه.

2/ التحفيز عبر المبادرة والنموذج.

فإنّ من يقوم بعمل الخير، يخلق دافعًا وحافزًا عند الآخرين لمحاكاته، وهذا ما يشير إليه ما ورد عن الإمام الصادق : «كُونُوا دُعَاةً لِلنَّاسِ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُمْ»[13] .

3/ السعي والمطالبة:

هناك أمور كثيرة يحتاجها الناس يمكن أن تقوم بها الدولة، أو الجهات المتصدّية لأمور الدين والمجتمع، ولكنّ تنفيذها بحاجة إلى من يطرح الاقتراح ويطلب ويتابع التنفيذ.

إنّ الجهات المعنية قد لا تعرف بعض حاجات المجتمع وقضاياهم، وقد يكون هناك تقصير لدى بعض الأجهزة التنفيذية، وحين يتصدّى بعض المواطنين لإبلاغ المسؤولين، وتبيين الحاجات والنواقص، فإنّ قسماً منها ستتم معالجته. وقد لاحظنا شواهد مختلفة على ذلك.

ولوسائل الإعلام المحلية دور إيجابي على هذا الصّعيد، حيث تنشر تحقيقات عن بعض المشاكل والنواقص التي يعانيها المواطنون في هذا المجال أو ذاك، مما يلفت نظر المسؤولين، ويكشف تقصير بعض الأجهزة والموظفين، فيتم التدارك والمعالجة.

وبعض القضايا والحاجات ترتبط بالجهات الأهلية كالمؤسّسات الاجتماعية، ورجال الأعمال، وعلماء الدين، فإذا كان هناك من يلفت نظرهم ويقترح عليهم، ويقدّم لهم المشاريع والبرامج، فإنّ في معظمهم خيراً كثيراً واستجابة طيبة.

ومما يؤسف له أن نسمع الكثيرين في المجتمع ممن يشتكون من بعض المظاهر السلبية، أو من نقص في بعض الإمكانات، أو من سوء خدمة المواطنين في بعض الدوائر، ومع ذلك لا تجد من يتحرّك من أجل الإصلاح والتغيير.

إنّ التحرّك في هذه الأمور ذات الشأن العامّ من مصاديق دعاء الإمام زين العابدين: «وَأَجْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدَيَّ الْخَيْرَ»[14] .

قد يقول البعض بأنّ هذه المساعي قليلاً ما تجدي، ولكننا في ثقافتنا الدينية نجد أنّ مجرّد السعي للخير فيه ثواب وأجر.

ونجد في كثير من الأحيان عندما يكتب أحد الصحفيين في الجرائد المحلية أو المواقع الإلكترونية عن حاجة إنسان مريض أو فقير ويعرض مشكلته، ما هي إلّا أيام حتى يتصل أحد المحسنين ويتبرّع بحلّ مشكلة هذا المحتاج.

إنّ اهتمام بعض الكتّاب بالقضايا الخدمية والمشاكل الاجتماعية يؤدي في كثير من الأحيان إلى حلّها، وهذا دليل قوي على أنّ أعمال الخير في بعض مواردها قد لا تحتاج إلى أكثر من المطالبة والمتابعة سواء مع الجهات الرسمية أو الأهلية.

مؤسّسات لعمل الخير

4/ شقّ الطرق وتهيئة الوسائل بإقامة المؤسّسات التي يلتحق بها الراغبون في عمل الخير.

وفي محافظة القطيف حوالي 15 جمعية خيرية، وجمعيتان تعاونيتان، وأربع جمعيات تخصّصية، إضافة إلى تسع لجان للتنمية الاجتماعية.

والمجال مفتوح لإنشاء المزيد من المؤسّسات، فهناك حاجات قائمة في الواقع الاجتماعي، والمجتمع معطاء، والدولة تتبنّى برامج لتشجيع العمل التطوعي، ونشيد هنا بالمبادرتين الجديدتين:

فقد صدر قرار بالموافقة على إنشاء أول جمعية معنية بالسّرطان في محافظة القطيف، هي (جمعية الأمل لمكافحة السّرطان بالقطيف).

يبلغ عدد المنتسبين للجمعية في مرحلة التأسيس المسجلين بشكل رسمي 41 شخصاً من الكفاءات الطبية والشخصيات الاجتماعية المهتمة بمكافحة مرض السّرطان، ما يعزّز من قوة الجمعية في المجال الذي ستعمل عليه.

وتهدف الجمعية إلى المساهمة في دمج برامج الكشف المبكر لأمراض السّرطان، وتوعية المجتمع حول أمراض السّرطان المنتشرة في المملكة وطرق الوقاية منها، والمساهمة في علاج ذوي الدخل المحدود من مرضى السّرطان، وتأهيل الكوادر الصحية المتخصصة في أمراض السّرطان، وتطوير قدرات التعامل المساندة لأسر مرضى السّرطان، وتقييم الاستشارات والإرشادات لمرضى السّرطان.

كما صدر قرار بالموافقة على إنشاء (جمعية تنمية الموارد البشرية)، التي تهدف إلى:

المساهمة في التوجيه والإرشاد فيما يخصّ المستقبل الوظيفي لأبناء المجتمع، وتطوير السّلوك المهني والمعرفي للفئات المستفيدة، ومساعدة الأفراد على اختيار التخصص والمهنة التي تتناسب مع احتياجات المجتمع.

أعباء الدعوة إلى الخير

إنّ على الدعاة إلى الخير أن يتحمّلوا الأعباء في الدعوة إلى الخير. فقد لا يجدون تجاوبًا عند البعض، لكن عليهم ألّا يملّوا ولا يضجروا من الدعوة إلى الخير.

وقد يستلزم ذلك صرف وقت أو جهد، وعليهم أن يعلموا أنّ في ذلك ثوابًا، وتتحقق منه نتائج مستقبلية، فليس كلّ دعوة إلى الخير تؤتي ثمارها فورًا.

وقد يواجهون صعوبات اجتماعية بسبب عدم تفهّم البعض لدعوتهم، أو لدوافع سلبية لديهم، فهناك من يسعى لتعويق عمل الخير. يقول تعالى: ﴿مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ[15] .

لكنّ الإخلاص للدين، وحبّ المجتمع، والرغبة في عمل الخير، هو ما يدفع دعاة الخير إلى الاستمرار في جهدهم ونشاطهم المبارك.

 

الجمعة 7 ربيع الثاني 1443هـ الموافق 12 نوفمبر 2021م.

[1]  سورة آل عمران، الآية: 104.
[2]  بحار الأنوار، ج5 ص196.
[3]  بحار الأنوار، ج74 ص280.
[4]  غرر الحكم ودرر الكلم، ح64.
[5]  سورة البقرة، الآية: 216.
[6]  سورة آل عمران، الآية: 104.
[7]  الكافي، ج7 ص269. صحيح مسلم، ح1893
[8]  الكافي، ج4 ص27، ح4.
[9]  صحيح البخاري، ح1438.
[10]  كنز العمّال، ح17027.
[11]  من لا يحضره الفقيه، ج4 ص3.
[12]  وسائل الشيعة، ج11 ص398.
[13]  الكافي، ج2 ص78.
[14]  الصحيفة السجّاديّة، ص81، الدعاء: 20.
[15]  سورة القلم، الآية: 12.