العام الجديد حيوية وتجديد

﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ[1] .

لأنّ الانسان كائن مفكر، فقد أدرك أنه يعيش ضمن حركة الزمن التي تستوعب حياته ونشاطه، وأنّ لتلك الحركة تأثيرًا على حياته، وعلى الطبيعة من حوله، وأدرك الحاجة إلى نظام يقيس به الزمن، عبر تقسيمه إلى وحدات، ليتسنّى له تنظيم أدائه لمهماته، وتعاطيه مع حركة الطبيعة والحياة، ولضبط الارتباط بين بني البشر في القيام بالمهام والأعمال.

وحين رأى الانسان انتظام حركة الكواكب، وما تحدثه من تغيّرات نظامية واضحة في الحياة، كتعاقب الليل والنهار تبعًا لغروب الشمس وشروقها، وكذلك دورة تغيّر الشكل المرئي للقمر، هداه ذلك التأمل إلى إمكانية وضع نظام لقياس الزمن، يرتبط بتلك التغيّرات النظامية الفلكية.

فبملاحظة غروب الشمس وشروقها حصل اعتماد أوضح وحدة زمنية هي اليوم، وبمراقبة تغيّر موقع القمر وتغيّر أشكاله، أمكن اعتبار الزمن بين بدرين متتاليين وحدة زمنية، أ ُطلق عليها الشهر، كما أظهر تعاقب الفصول وحدة زمنية أوسع هي السنة الشمسية.

بين الضياء والنور

وتشير الآية الكريمة إلى أنّ ذلك هو ما أراده الله تعالى من وجود هذا النظام الكوني الرائع الدقيق.

يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وقد تأمل العلماء (في الفرق بين كلمتي الضياء والنور، فالبعض منهم اعتبرهما مترادفتين وأن معناهما واحدٌ، والبعض الآخر قالوا: إنّ الضياء استعمل في ضوء الشمس، فالمراد به النور القوي، أما كلمة النور التي استعملت في ضوء القمر، فإنها تدلّ على النور الأضعف.

الرأي الثالث في هذا الموضوع هو أنّ الضياء بمعنى النور الذاتي، أما النور، فإنه أعمّ من الضياء، ويشمل الذاتي والعرضي، وعلى هذا فإنّ اختلاف تعبير الآية يشير إلى هذه النقطة. وهي أنّ الله سبحانه قد جعل الشمس منبعًا فوّارًا للنور، في الوقت الذي جعل للقمر صفة الاكتساب، فهو يكتسب نوره من الشمس.

والذي يبدو أنّ هذا التفاوت مع ملاحظة آيات القرآن، هو الأصح؛ لأنا نقرأ في الآية (16) من سورة نوح: ﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) وفي الآية (61) من سورة الفرقان، ﴿جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا، فإذا لاحظنا أنّ نور السراج ينبع من ذاته، وهو منبع وعين للنور، وأنّ الشمس قد شبهت في الآيتين بالسراج)[2] .

فذلك يؤكد هذا الفارق بين كلمتي الضياء والنور.

الوعي بحركة الزمن

إنّ الله تعالى قدّر للقمر محطات ومنازل في حركته، ليضع الإنسان من خلال ذلك نظاماً يقيس به حركة الزمن، لتنظيم حياته.

يقول تعالى: ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ.

إنّ وعي الإنسان بحركة الزمن لها دخل كبير في تحضره وتقدمه، فكلّما كان أكثر وعياً واهتماماً بحركة الزمن، كان أكثر استفادة من وقته واستثمارًا لحياته، بينما يضيع عمر الانسان الغافل اللّامبالي بالوقت.

ويجري هذا الأمر على مستوى الأفراد ومستوى المجتمعات البشرية.

ولأننا على أعتاب سنة جديدة حسب التقويم الميلادي السائد على المستوى العالمي، أردنا الاضاءة على موضوع التعامل مع بدء أيّ سنة جديدة بالنسبة لأيّ مجتمع.

فهناك تواريخ مختلفة لرأس السنة باختلاف الثقافات، حيث تبدأ السنة عند المسلمين حسب التقويم الهجري، بشهر المحرم. بينما تبدأ السنة الميلادية الجديدة عند المسيحيين بالأول من شهر يناير كانون الثاني. كما يبدأ العام الفارسي والكردي الجديد في 20-21 آذار/ مارس من كلّ عام ويسمّونه (نوروز)، أي اليوم الجديد. وهناك بداية العام الصيني، وبداية العام الكوري، وبداية العام الأمازيغي وغيرها.

بين الحول والعام والسنة

الوحدة الزمنية المتضمّنة للفصول الأربعة في اثني عشر شهرًا، يطلق عليها في اللغة العربية ثلاثة أسماء، هي: الحول، والعام، والسنة.

وقد وردت هذه الأسماء الثلاثة في القرآن الكريم.

يقول تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ[3] .

ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا[4] .

ومع أنّ هذه الألفاظ الثلاثة أسماء لمسمًّى واحد، وتدلّ على معنى واحد، إلّا أنّ بعض المحققين في اللغة العربية يرى أنّ كلّ لفظٍ منها قد يلحظ خصوصية معينة، انطلاقًا من قاعدة يتبنّاها بعض اللغويين في الكلمات المترادفة، مفادها أنه (لا يجوز أن يختلف اللفظ والمعنى واحد، إلّا أن يكون في كلّ لفظة زيادة معنى ليس في الأخرى). لذلك صنّفوا كتبًا في الفروق اللغوية.

قال العلامة المصطفوي: (التعبير بالحول دون السنة والعام: فانّه أعمّ ويمكن أن يحاسب من كلّ يوم إلى أن ينتهي إلى ذلك اليوم من السنة الآتية، فيتحوّل امتداد الزمان إلى الأوّل، وغير لازم أن يحاسب من أوّل السنّة)[5] .

وأما الفرق بين السنة والعام فإنّ (السنة مأخوذة من السّنو، بمعنى التحوّل والتغيّر. والعَامُ‌ مأخوذ من العوم بمعنى الجريان الطبيعيّ المعتدل. فيطلق‌ العَامُ‌ إذا كان الملحوظ هو ذلك الجريان. وأمّا إذا كان الملحوظ جهة التغيّر والتحوّل الخارج عن الاعتدال: فيعبّر بكلمة السنة، وهذا التغيّر بالنظر الى الوقائع الجارية فيها.

فالسنة انّما تدلّ على عام فيه تغيّر وتحوّل، خيرًا كان أو شرًّا وابتلاءً.

وأمّا العَامُ‌: فأطلق على أزمنة فيها جريان طبيعيّ وعلى برنامج عاديّ... فظهر لطف التعبير بكلّ واحدة من الكلمتين في موردهما)[6] .

تجديد الحيوية

نريد من خلال هذه الإضاءة التركيز على أمرين:

تجديد الحيوية على المستوى النفسي، بأن يستقبل الإنسان العام الجديد بحالة تفاؤل وأمل وثقة واطمئنان، يحمد الله تعالى على أن بلّغه العام الجديد، وعلى ما أنعم به عليه في العام المنصرم، وما كفاه من شرور، ومكّنه من تخطّي مشاكل وعقبات.

ومن المناسب لو استحضر الإنسان قائمة النعم والإنجازات، وقائمة المصاعب والمشاكل التي تجاوزها في العام المنصرم.

إنّ التفاؤل يريح نفس الإنسان، ويعزّز ثقته واطمئنانه، ويزيد في فعاليته وإنتاجه، لذلك ورد عن رسول الله : «نِعمَ الشَّيءُ الفَألُ؛ الكَلِمَةُ الحَسَنةُ يَسمَعُها أحَدُكُم»[7] .

وكان كثير التفاؤل، ويتصيّد أيّ مناسبة لبثّه ونشره بين أصحابه، ففي قصة الحديبية حينما قيل له إنّ المفاوض من قبل قريش هو (سهل بن عمرو)، قال : «لقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِن أمْرِكُمْ»[8] .

وفي قصة كتابه إلى خسرو برويز (كسرى الفرس) يدعوه إلى الإسلام، فحين مزّق كسرى كتاب رسول الله وأرسل إليه قبضة من تراب، تفاءل من ذلك أنّ المؤمنين سيملكون أرضهم.

علي : «تَفَأَّلْ بِالْخَيْرِ تَنْجَحْ»[9] .

والدعاء الوارد عن الإمام جعفر الصادق الذي يقرأ عند بداية العام الجديد، يؤكد روح التفاؤل بالتوجه إلى الله تعالى وطلب التحول والتغيير إلى ما هو أفضل في العام القادم، (يَا مُحَوِّلَ الْحَوْلِ وَالْأَحْوَالِ حَوِّلْ حَالَنَا إِلَى أَحْسَنِ الْحَالِ. وَبِرِوَايَةٍ أُخْرَى: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ يَا مُدَبِّرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَا مُحَوِّلَ الْحَوْلِ وَالْأَحْوَالِ حَوِّلْ حَالَنَا إِلَى أَحْسَنِ الْحَالِ)[10] .

التجديد في البرامج والسّلوك

يميل الإنسان غالبًا إلى الاسترسال في نمط شخصيته وحياته، والاستمرار في تبنّي ما اعتنقه من أفكار، وألفه من عادات وأساليب في شؤونه الخاصة، وفي مجال علاقاته بالآخرين.

وقد يكون فيما ألفه واعتاد عليه شيء من الخطأ، وهذا أمر طبيعي، أو أنّ هناك ما هو أفضل وأصح من الأفكار والأساليب وطرق التعامل مع قضايا الحياة.

لكن التغيير والتطوير في الأفكار والسّلوك، عادة ما تكون فيه صعوبة نفسية على الإنسان، أو ممانعة اجتماعية، وهنا يحتاج الإنسان إلى إرادة وعزم، ليحقق التجديد والتغيير في حياته.

ومن المفيد للإنسان أن يستثمر دخول العام الجديد في تحفيز إرادته وعزمه على التجديد والتغيير. فيقوم بمراجعة لأفكاره وعاداته وأساليب حياته، وحال علاقاته مع الآخرين، ليصحح الخطأ فيها، ويسدّ النواقص والثغرات، ويضع أمامه خطة للبدائل والخيارات الأفضل، ليسير عليها في العام الجديد.

فمثلًا في المجال الروحي وفي علاقاته مع ربه؛ عليه أن يفكر في مستوى التزامه بواجباته الدينية، وإقباله على البرامج والأعمال الصالحة المرغوبة عند الله تعالى.

وفي المجال الثقافي والمعرفي عليه أن يفكر في تخصيص جزء من وقته لتنمية مستوى ثقافته ومعرفته.

وفي مجال علاقاته بالآخرين، وخاصة القريبين منه، عليه أن يخطط لمعالجة أيّ مشكلة أو سلبية على هذا الصعيد، وأن يعمل على تحسين علاقاته، بالمزيد من تفهّم الآخرين، والإحسان إليهم.

وهكذا في سائر المجالات الصحية والاقتصادية وسواها.

النجاح في تطبيق الخطط والبرامج

لكنّ المشكلة التي يواجهها كثيرون ممن يضعون لأنفسهم خطط التغيير والتطوير للعام الجديد، هي الالتزام بالتطبيق والتنفيذ، حيث تفشل الأكثرية في ذلك.

إنّ مما يساعد الإنسان في تجاوز هذه المشكلة، هي الواقعية والتدرج في الخطط التي يضعها لنفسه.

فقد ورد عن علي : «قَلِيلٌ يَدُومُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مُنْقَطِعٍ»[11] .

كما أنّ التزام الإنسان بما يقرّره لنفسه، يرتبط بمستوى احترامه لذاته، فكيف يلتزم بما يقرّره الآخرون له، بينما يتهاون فيما يقرّره لذاته؟

وورد عن علي : «مَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فَلاَ تَرْجُ خَيْرَهُ»[12] .

ويؤكد الإمام جعفر الصادق على ضرورة إصرار الإنسان على تنفيذ ما يقرّر لنفسه من برامج، وألّا يتراجع عن أيّ برنامج قبل مضي عام كامل: «إِذَا كَانَ اَلرَّجُلُ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَدُمْ عَلَيْهِ سَنَةً ثُمَّ يَتَحَوَّلُ عَنْهُ إِنْ شَاءَ إِلَى غَيْرِهِ»[13] .

وعنه : «إِيَّاكَ أَنْ تَفْرِضَ عَلَى نَفْسِكَ فَرِيضَةً فَتُفَارِقَهَا اِثْنَيْ عَشَرَ هِلاَلاً»[14] .

فالتحوّل عن برنامج ينبغي أن يستند إلى قرار لا أن يكون ناشئًا من كسل وملل.

 

خطبة الجمعة 27 جمادى الأولى 1443هـ الموافق 31 ديسمبر 2021م.

[1]  سورة يونس، الآية: 5.
[2]  الأمثل، ج6، ص279.
[3]  سورة البقرة، الآية: 233.
[4]  سورة العنكبوت، الآية: 14.
[5]  المصطفوي: التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج2، ص373.
[6]  نفسه، ج8، ص325-326.
[7]  كنز العمّال، ج 10، ص117، ح 28593.
[8]  صحيح البخاري، ح2731.
[9]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص316.
[10]  المجلسي: زاد المعاد، ص328.
[11]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص498.
[12]  عيون الحكم والمواعظ، ص465.
[13]  الكافي، ج2، ص82.
[14]  نفسه، ج2، ص83.