تجدد الأمل في مسيرة الوحدة والتقارب

 

﴿إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ[سورة الأنبياء، الآية: 92].

تمثل ذكرى ميلاد الرسول الأكرم محمد مناسبة للتذكير بالوحدة الإسلامية. حيث صارت تحتفل مجاميع من الأمة بما بات يعرف بأسبوع الوحدة الإسلامية، من خلال إقامة البرامج في بلدان مختلفة إحياء لهذه المناسبة العظيمة. وقد اكتسبت هذه البرامج أهمية خاصة في هذا العام، وذلك لما مرّ بالأمة خلال الشهور الماضية، من عاصفة طائفية هوجاء، جرّاء عوامل وظروف سياسية، ونتيجة لدخول الجهلاء والعملاء والمغرضين والحمقى على خط الأزمة، حتى امتلأت أجواء الأمة الإسلامية في بقاع عديدة بالصخب الطائفي، والتهريج، وإثارة الفتن الطائفية، وقد سقط في هذا المستنقع بعض ممن كانت تعقد الأمة عليهم الآمال، وترى فيهم روّادًا ودعاة للوحدة. حيث وقع بعض هؤلاء في الفخ، وراحوا، تحت تأثير الأجواء السياسية والحملات الإعلامية، يثيرون الأضغان ويبثون الأحقاد بين أتباع المذاهب الإسلامية، حتى أصبحت سماء المنطقة العربية بشكل خاص، ملبّدة بغيوم الطائفية والفتن المذهبية. 

وهذا ما بعث القلق في نفوس المخلصين الواعين، وأثار جملة من الأسئلة، حول ما إذا كانت الأمة بعد لم تنضج تجاه مسألة الوحدة، وحول جدوائية المضي في مسيرة العمل على صعيد التقريب والتقارب بين أتباع المذاهب الإسلامية، حيث بدأ الشك يساور بعض النفوس حيال هذا الأمر. سيما وقد ساهمت حالة التوتر في انتعاش التيارات المتطرفة على الجهتين السنية والشيعية، حتى بدأ المتطرف السني يعيّر دعاة الوحدة في أوساطه، ويذكرهم بتحذيراته لهم من التقارب مع الشيعة، وكذلك الحال مع التيار الشيعي المتشدد، الذي بدأ يوجه اللوم والتوبيخ لدعاة الوحدة في مجتمعه، ساخرًا من رهانهم على التقارب مع السنة، وعلى هذا النحو انتعش المتشددون على الجانبين، وهذا ما بعث التوجس والقلق في نفوس المخلصين، ليس على ذواتهم، وإنّما على مشروع التقارب والوحدة بين المسلمين، الذي نذروا أنفسهم لتحقيقه في سبيل تجنيب الأمة الفتن والانقسامات. 

مؤتمر الوحدة الإسلامية

وقد جاء انعقاد مؤتمر الوحدة الإسلامية العشرين في العاصمة الإيرانية طهران، بمشاركة علماء ومفكرين من السنة والشيعة مؤخرًا بتاريخ  17-19 ربيع الأول 1428ﻫ، ليبعث الأمل من جديد في استمرار مشروع التقارب والوحدة. وقد مثلت هذه الاجتماعات شكلًا من أشكال جسّ النبض، وتلمّسًا لحالة الساحة، في أعقاب الموجة الطائفية الأخيرة. ولي أن أبشّركم من خلال ما رأيت ومن التقيت في تلك الاجتماعات، بأنّ هناك إصرارًا على المضيّ في مسيرة الوحدة والتقارب بين أبناء الأمة، وأنّ هناك عزمًا أكيدًا عند الواعين المخلصين من الطرفين، ألّا يتراجعوا عن هذا المشروع؛ لأنّ البديل عن ذلك لن يكون سوى الكارثة، ودمار الأمة.

لقد مثّل المؤتمر محطة ليطمئنّ من خلالها الجميع على العلاقة بين مختلف فئات الأمة بعد الموجة الطائفية الأخيرة. سيما مع توافد ما بين 150 و 200 شخصية من العلماء والمفكرين على المؤتمر قادمين من أكثر من ستة وأربعين بلدًا إسلاميًّا، من مختلف التوجهات من السنة والشيعة والزيدية والإباضية والصوفية. وبحمد الله فقد تبيّن أنّ أكثرية الحضور لم يقعوا في فخّ الشقاق الطائفي، بل وأظهروا التصميم على مواصلة السير على طريق الوحدة والتقارب والتقريب، وذلك من خلال الخطابات والأبحاث التي ألقيت في المؤتمر من قبل العلماء والباحثين، والتي كانت تؤكّد بأجمعها على ضرورة تحقيق الوحدة الإسلامية. وعلاوة على الاجتماعات الموسّعة شهدت أروقة المؤتمر الكثير من اللقاءات الثنائية التي كانت خلالها جميع الأطراف متشوقة للالتقاء ببعضها، وقد تبين كذلك من خلال هذه اللقاءات بأنّ الأمة قد تجاوزت ـ إن شاء الله ـ المحنة التي عصفت بالأمة مؤخرًا.

وقفات للمراجعة

وشهدت جلسات المؤتمر وقفات للمراجعة تناولها الحضور من جوانب مختلفة. ولعلّ أبرز ما صبغ تلك الوقفات، هو انتقاد كلّ طرف للمواقف الذاتية وجوانب القصور عند فريقه، فقد أبدى علماء ومفكرون من أهل السنة سخطهم وانزعاجهم من بعض المواقف المتشنجة التي خرجت عن بعض المحسوبين عليهم، كما وجدنا في مقابل ذلك مواقف ساخطة وناقدة من قبل علماء الشيعة على بعض التوجهات المتشددة والمتشنجة عند المحسوبين عليهم. وهذا أمر لافت ومهم عند علماء ومفكري الطرفين، إذ ليس من الشجاعة ولا البطولة أن ينتقد طرف مواقف الفريق الآخر، حتى وإن وجد البعض في هذه الممارسة وسيلة للبروز في صفوف أبناء جماعته. وهذا تحديدًا هو المحور الذي تناولته شخصيًّا ضمن المساحة المتاحة لي للحديث أمام المؤتمر، وقد شددت في الكلمة على حاجة كلّ فريق إلى أن يقف وقفة مراجعة ونقد ذاتي لتراثه وممارسات فاعلياته فيما يرتبط بموضوع الوحدة والتقريب. 

ذلك أنّ العالم السني إذا انتقد الشيعة، كما لو وضع مصنّفًا ينتقد فيه كتاب الكافي أو بحار الأنوار وغير ذلك، فإنه سيجد في أوساط جماعته من يمجده ويثني عليه ويضعه في عداد الأبطال، على اعتبار دفاعه عن مذهبهم من جهة ونقده للمذهب الآخر من جهة أخرى. وكذلك الحال مع العالم الشيعي فيما لو وضع كتابًا ينتقد فيه روايات البخاري أو صحيح مسلم أو غير ذلك، فإنّ جماعته سيمجدونه ويثنون عليه ويعدون عمله بطوليًّا. غير أنّ الشجاعة الحقيقية ليست في انتقاد الآخرين، وإنّما في انتقاد العلماء والمفكرين لتراثهم الخاص، وغربلته من كلّ ما يثير التفرقة بين المسلمين، فهذه هي البطولة الحقيقية وهذا ما ينفع الأمة ويعزز الوحدة الإسلامية. وقد كنا فيما سبق نجد الاستعداد ضعيفًا للتصدّي لهذا الأمر. 

أنموذجان لشجاعة النقد الذاتي

وقد سردت في الكلمة أمام المؤتمر مثالين لعالمين شجاعين، أحدهما من السنة والآخر من الشيعة، ممن انبروا إلى نقد تراثهم الخاص عوضًا عن التفرغ لمهاجمة المذهب الآخر. فقد انبرى العلامة الكبير الشيخ أبو الأعلى المودودي، من كبار علماء أهل السنة ومؤسس ورئيس الجماعة الإسلامية في باكستان، إلى نقد جوانب من التراث السني حين وضع مصنف «الخلافة والملك»، وقد فرّق في كتابه بين مرحلة الخلافة الراشدة وبين فترة الحكم الأموي والعباسي، ورأى أنّ الحكم الأموي جرى التمهيد له في عهد الخليفة عثمان بن عفان، على يد الحاشية المحيطة بالخليفة، الذين هيؤوا لظهور القوة الأموية لاحقًا. ومع كلّ ما اتّسم به كتاب المودودي من العمق العلمي، وهو الحاصل على جائزة الملك فيصل في العام 1979، ومع كون كتبه تمثل مرجعية فكرية لحركة الإخوان المسلمين وأوساط إسلامية واسعة لكنه حين قدم مقاربته النقدية للتراث ثارت حوله ضجة كبيرة، وتضرّرت شخصيته، تحت مزاعم قيامه بالتجريح في الصحابة، والنيل من السلف الصالح، ونقده خير القرون..، ورغم مقامه الديني والعلمي الرفيع فقد غيّر كثيرون رأيهم فيه، وصاروا يشككون في صدق توجّهاته، حتى اضطره الأمر لأن يكتب مقالًا يوضح فيه موقفه ويبين فيه أدلته، نشره في الطبعات التالية لكتابه. 

وعلى المقلب الآخر، واجه الإمام السيد محسن الأمين العاملي عنتًا كثيرًا حين انبرى إلى نقد جوانب من الممارسات الشعائرية الشيعية. هذا العالم الجليل لم يشك أحد يومًا في اجتهاده وفقاهته ودفاعه عن الدين والذب عن مذهب أهل البيت، فهو صاحب أكبر موسوعة في تراجم رجال الشيعة «أعيان الشيعة» وغيرها من المصنفات الكثيرة، كما كان زعيم الطائفة في جبل عامل وبلاد الشام، لكنه حين أصدر بحثه الناقد لبعض الممارسات الشعائرية بعنوان «التنزيه في أعمال الشبيه»، اعتبره البعض من داخل الساحة الشيعية متجاوزًا للخط الأحمر، لذلك اتّهموه وشتموه وأنشدوا القصائد الهجائية فيه، حتى إنّه حين أراد زيارة النجف الأشرف نصحه كثير من العلماء بألّا يذهب إلى هناك؛ لأنّ حياته ستكون في خطر. أصبحت حياة هذا المرجع الديني الكبير في خطر في مهد الحوزة العلمية في النجف الأشرف، لا لشيءٍ سوى أنّه اتّخذ الموقف المناسب بممارسته النقد الذاتي تجاه بعض الممارسات الدينية. 

انهيار حاجز الرهبة

إنّ مما يثير الغبطة اليوم هو انهيار حاجز الرهبة حيال ممارسة النقد الذاتي عند الفريقين السنة والشيعة.  هناك علماء ومفكرون على الجانبين يمارس كلٌّ منهم النقد الذاتي داخل مجتمعه، وهذا ما يمهّد لتصفية الأجواء، وتجنب الأحكام التعميمية الجائرة، فإذا ما أساء أحد من أهل السنة للشيعة فلا ينبغي أن يحمل تصرفه على جميع أهل السنة، والحال نفسه إذا ما أساء أحد الشيعة إلى أهل السنة فلا يعمم سوء تصرفه على جميع الشيعة، فهذا التصرف لا يمثل جميع الشيعة بأيّ حال، وذلك ما لن يتحقق سوى بالاطّلاع بموضوعية على التعددية القائمة لدى كلّ فريق.

وحقيقة الأمر، جاء مؤتمر الوحدة الإسلامية بمنزلة الرافعة لمعنويات الواعين المصلحين وجدد الأمل في الوحدة الإسلامية. سيما مع قيام سلسلة من نشاطات إقليمية مشابهة على الصّعيد ذاته، فقد انعقد في العاصمة الأردنية مؤتمر لجمع من العلماء السنة من أهل العراق الذين أصدروا بيانًا أكّدوا فيه على حرمة الدم المسلم، سنيًّا كان أم شيعيًّا، وعلى رفض توجهات الإرهاب والعنف، والسعي إلى التوحّد والتقارب بين أبناء الشعب العراقي، وهذا تطور بالغ الأهمية، وأحوج ما تكون إليه الساحة، يضاف إلى ذلك ما رشح بحسب وسائل الإعلام من توافق بين فصائل المقاومة في العراق على التصدي للتوجهات العنفية الطائفية، وهذا مما يبشر بالخير، فقد أدرك الجميع أنّ الإرهاب لا دين ولا مذهب له، مهما توهّم البعض في هذا الفريق أو ذاك أنه هو الوحيد المستهدف بالقتل والإبادة، على نحو دفع بعضهم إلى عقد مؤتمر لنصرة أهل السنة في العراق!. 

غير أنّ ما بدا واضحًا للجميع اليوم هو أنّ تيارات الإرهاب يستهدفون في حقيقة الأمر السنة والشيعة على حدٍّ سواء، ولا أدلّ على ذلك من تلك التفجيرات التي تستهدف المدنيين هنا وهناك، وأحدثها سقوط عشرات القتلى والجرحي في تفجيرات إرهابية في الجزائر، وجميعهم من أهل السنة، وكذلك الحال مع الأعمال الإرهابية في المغرب، وعلى غرار ذلك ما يجري من قتل وتنكيل في أفغانستان والصومال، ما يؤكّد على أنّ وجود هذه التيارات العنفية هو بحدّ ذاته خطر على الجميع لزعزتها الأمن والاستقرار في البلاد الإسلامية، وإعطائها الفرصة بذلك لأعداء الأمة. 

غاية ما هناك أنّ هؤلاء الإرهابيين يبدّلون جلودهم من بلد لآخر، ويستخدمون عناوين مختلفة لتبرير إرهابهم، فهم يمارسون القتل تحت العنوان المذهبي في العراق نتيجة التنوع المذهبي هناك، بينما يقترفون ذات الجرائم تحت عناوين مختلفة في بلاد أخرى. 

وبذلك نخلص إلى أنّ المسألة ليست حربًا طائفية بين السنة والشيعة. وإنّما هي توجهات عنفية إرهابية متطرفة تحترف التقاتل وتسلب الأمن من حياة الناس، وبذلك ينبغي للجميع أن يقفوا بمواجهتها، والأهم من ذلك مجابهة أفكارها العنفية. إننا نرجو أن تمضي مسيرة التقريب والوحدة في طريقها وتحقق النجاحات. وعلى المستوى الوطني وضمن ذات السياق يمكن النظر إلى استضافة أخينا الشيخ محمد الصفار في مهرجان الثقافة والفنون في مدينة عنيزة بمنطقة القصيم بتاريخ 26 ربيع الأول 1428ﻫ ، واستقباله بقدر كبير من الاحترام والترحيب هناك، من قبل المسؤولين وسائر الكتاب والمثقفين المشاركين، الذين أكّدوا جميعًا أنّهم مع الوحدة الوطنية والإسلامية، لا يقبلون التفرقة ولا إثارة الفتنة، نقول إنه يمكن النظر إلى هذا أيضًا من زاوية اعتبار التوجه الرئيس في شعبنا وأمتنا هو توجه داعم للوحدة ومستجيب لنداءات الإسلام والقرآن الكريم في هذا المجال، مهما علت بعض الأصوات النشاز التي يخيل للكثيرين بسبب علو صوتها أنّها تسود الساحة وأنّها تمثل الصوت العام، وهذا غير صحيح.

 

* خطبة الجمعة بتاريخ 25 ربيع الأول 1428هـ الموافق 13 أبريل 2007م.