كلمة وفاء في حق الأستاذ العلامة الشيخ إبراهيم الغراش

رافقت الأستاذ العلامة الشيخ إبراهيم الغرّاش بضع سنوات في مقتبل حياتي العلمية الدراسية، وتتلمذت على يديه في مبادئ الفقه وعلوم اللغة العربية، فاكتسبت منه عشق اللغة، والدقة في مراعاة القواعد النحوية عند التحدّث والخطاب، حيث كان شديد الملاحظة والاهتمام في هذا الجانب، ليربي تلامذته والمحيطين به على الالتزام بما يدرسونه من قواعد النحو، في كلامهم وحديثهم الخاص والعام.

ولأنه كان يفتقد القدرة على القراءة والمطالعة لضعف بصره، كنت أقرأ عليه ما يحتاج من الكتب في دراسته وتحضيره لخطابته، فيوقفني عند كلّ كلمة أخطئ في تشكيلها ونطقها بشكل صحيح، ويمتحنني في إعراب بعض الكلمات والجمل، فكانت استفادتي منه في هذا المجال كبيرة لا تقدّر بثمن.

وقد درست على يديه في النحو كتاب (الآجرومية) لابن آجروم الصنهاجي، رغم أني كنت درسته عند الشيخ أحمد بوعلي في الأحساء سنة 1389هـ، لكن الشيخ الغراش حبذّ لي إعادة دراسته على يده، وشرح (قطر الندى وبل الصدى) لابن هشام، حيث كانت تُعتمد دراستهما في الحوزة العلمية، كما درست عنده الرسالة العملية للسيد الخوئي (المسائل المنتخبة).

ولأنه كان يدرّس طلابًا آخرين شرح ابن الناظم على ألفية ابيه ابن مالك في النحو، فقد كان يعتمد عليّ غالبًا في التحضير لدرسه، حيث أقرأ عليه ما يحتاج منها.

كما كان يحضر درساً في (مغنى اللبيب عن كتب الأعاريب) عند الشيخ منصور البيات رحمه الله، وهو الآخر كفيف البصر، فقد أقرأ لهما معظم الأيام. وأيضًا كنت أرافقه في حضور درسه لحاشية الملا عبدالله في المنطق، على يد الشيخ عبد الحسين آل صادق من علماء لبنان.

وهكذا كانت فرصتي منه كبيرة للاستفادة من اهتمامه وتضلّعه في النحو وعلوم اللغة العربية.

وكان الأستاذ الغراش عاشقًا للشعر والأدب الكلاسيكي، فكان يطرب لشعر المتنبي، ويتغنّى بشعر أبي فراس الحمداني، ويلهج بروائع الشعر الحسيني وخاصة من قصائد السيد حيدر الحلي والسيد جعفر الحلي.

كما كان مغرمًا بشعر إيليا أبي ماضي وخاصة (الطلاسم)، التي كان يحفظها عن ظهر قلب، إعجابًا منه بمستواها الأدبي، ومحتواها الفلسفي المثير للأذهان، حيث يناقش ويرد على بعض التساؤلات والإشكالات التي تثيرها.

أما ألفية ابن مالك فهي حاضرة دائمًا وأبدًا في ذهنه وعلى لسانه، يستشهد بمقاطعها عند كلّ مسألة نحوية.

وهكذا توثقت علاقتي بالشعر والأدب، ونمت لدي ذائقته والاهتمام به، من خلال صحبتي للشيخ الأستاذ.

بقي أن أشير إلى ما أولاني من رعاية وعناية أبوية بالغة، منذ أن تعرّفت عليه في الأحساء، في صيف 1390ﻫ، حيث كنت مدعوًّا لقراءة المجالس الحسينية في بداية مشواري الخطابي، وعمري آنذاك ثلاث عشرة سنة، وكنت أتنقل من قرية إلى أخرى، وكان الشيخ الغراش قد قصد الأحساء بحثًا عن مجالس للقراءة، ولأن المآتم كانت تعقد ليلًا، فكنت ألتقيه كلّ صباح يأتي إليّ في القرية التي أكون فيها، أو أذهب إليه في مكان تواجده، أو نتفق على الالتقاء في مدينة الهفوف، وأبقى بخدمته طوال اليوم، أقرأ عليه من الكتب، أو أزور معه بعض العلماء والخطباء، وهكذا بدأت صلتي به، وحين عزمت على الذهاب للدراسة في النجف الأشرف في السنة التالية 1391ﻫ، تجدّد للشيخ الأستاذ العزم على العودة إلى النجف، وكان قد تركها قبل سنوات، بسبب ضغط الظروف المعيشية بعد زواجه، وأذكر أنّ للخطيب الشيخ عبد الحميد المرهون دورًا كبيرًا في إثارة هذا العزم لديه، حيث كانت للشيخ المرهون في نفس الشيخ الغراش مكانة لا تضاهى من المحبّة والثقة.

وبعزم الشيخ الغراش على الذهاب إلى النجف الأشرف، اطمأنّ والدي (رحمه الله) وزال تردّده وقلقه عليَّ من الذهاب إلى النجف في تلك السنّ المبكرة.

وبرفقة الشيخ الغراش سافرت مع والدي إلى النجف الأشرف، حيث تركني تحت رعاية الشيخ الغراش، فأسكنني معه في البيت الذي استأجره في أحد زقاق شارع زين العابدين، وتعامل معي كأحد أفراد عائلته، حيث كانت معه والدته (رحمها الله)، وزوجته كريمة الملا علي الطويل (رحمه الله)، وابنه البكر زهير، وكان في الثالثة من عمره، وقد فجع به أبوه وهو في ريعان شبابه.

وهكذا أمضيت سنتي الدراسية الأولى في النجف الأشرف تحت رعاية الشيخ الغراش، وفي خدمته، وما تزال في ذاكرتي كثير من الصور والانطباعات، عن يوميات تلك السنة الجميلة المباركة، وهي السنة التأسيسية لتحصيلي العلمي.

ولا أنسى أن أشير إلى أنه شجّعني على اعتمار العمامة، ورتّب الأمر مع العلامة الشيخ فرج العمران (رحمه الله) الذي كان في زيارة للنجف الأشرف، وأقام حفلًا بهيجًا بهذه المناسبة في مقرّ إقامته، حيث تفضل بتتويجي بالعمامة، وألقى الأستاذ الشيخ الغراش قصيدة بهذه المناسبة، وكذلك الخطيب الشيخ جمعة الحاوي (رحمه الله) من البحرين، وقد وثّق الشيخ فرج العمران وقائع الحفل في الجزء الرابع عشر من مذكراته (الأزهار الأرجية في الآثار الفرجية) في الصفحة 47.

جزى الله الأستاذ الشيخ إبراهيم الغراش عنّي خير الجزاء، وكذلك زوجته الكريمة، وأطال الله في عمره، ومتّعه بالصحة والعافية.

20 صفر 1436ﻫ