تشويه سمعة الآخرين خلل في التديّن

مكتب الشيخ حسن الصفار

قَالَ النَّبِي‏ صلى الله عليه وآله:

«مَنِ اغْتَابَ مُسْلِماً فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَمْ يُؤْجَرْ عَلَى صِيَامِهِ»[1] .

شهر رمضان دورة تأهيليّة تدريبيّة للالتزام بالقيم وضبط الرغبات والأهواء؛ وذلك لأن ما يعوّق الإنسان عن الالتزام بالقيم والمبادئ هو خضوعه لشهواته ولأهوائه، وفي هذا الشهر الكريم يلتحق الإنسان بهذه الدورة التأهيليّة التدريبيّة بغية أن يتعوّد على ضبط رغباته ومخالفة أهواءه، بما يتوافق مع الالتزام بالقيم والمبادئ.

احترام الآخرين قيمة أخلاقيّة دينيّة

ومن القيم التي تركّز النصوص على مراعاتها في هذا الشهر الكريم هي: «قيمة احترام الآخرين وعدم التجاوز على حريم حقوقهم الماديّة والمعنويّة»، وهي قيمة مهمة أكّدت النصوص عليها؛ أمّا الحقوق الماديّة ـ كإصابة جسم إنسان أو سرقة ماله مثلاً ـ فلا يتوغّل فيها إلا عدد محدود من الناس، لتسالم الجميع على قبح هذا اللون من الاعتداء، ولوجود روادع قانونيّة؛ لكن الاعتداء المعنوي ـ ونعني منه إسقاط شخصيّة الإنسان وتشويه سمعته ـ فهذا ما يمارسه كثير من الناس؛ لأن البعض منهم لا يلتفت إلى قبح هذا العمل، أو لأنه تعوّد على التساهل فيه، لعدم الاكتراث بسلبيّته من قبل المجتمع، فلا يبدو في نظره أمراً قبيحاً مستهجناً.

وقد الفتت النصوص نظر الإنسان إلى إن الاعتداء على كيان الإنسان المعنويّ، ليس أقل قبحاً وسوءً من الاعتداء على كيانه الماديّ؛ بل هو أشدّ وأخطر.

الغيبة نموذج للاعتداء على الآخرين

الغيبة هي نموذج بارز لهذا النوع من الاعتداء؛ فذكر الإنسان عيب أحد في حالة عدم وجوده، من أجل تشويه سمعته، والانتقاص منه، يُعدّ أمراً قبيحاً مستهجناً، شرعاً وأخلاقاً، حتى ولو كان ذلك العيب حاصلاً في واقع الأمر؛ إذ نرى البعض يسوّغ استغابته للناس، وذكر معايبهم، بأن ما ذكره موجود في من استغابه، ولكن خفي على هؤلاء أن مجرّد ثبوت هذا العيب في الإنسان لا يكون مسوّغاً لنشره وفضحه، بل تبقى المسألة غيبة محرّمة ما دام ذكره يشوّه سمعة هذا الإنسان ويحطّ من كرامته.

وقد مثّل الله سبحانه وتعالى للغيبة بأبرز الأمثلة الصارخة المستقبحة عند بني البشر حيث قال تعالى: ﴿وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً؛ أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحيم‏[2] .

فالإنسان يكره أن يأكل من لحم أخيه الميّت، ويستقبح أكل لحوم البشر عموماً، وحينما يتحدّث العقلاء عن شخص يمارس هذا الموضوع فسيموضعونه في دائرة الشذوذ والانحراف، وهذا ما نوّهت إليه الآية المتقدّمة؛ فإن من ينهش كيان الإنسان المعنوي وسمعته فهو يمارس عملاً أقبح من أكل لحمه الماديّ.

والروايات في هذا الباب كثيرة؛ حيث حذّرت من الغيبة وشدّدت النكير على ممارستها، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله حديثاً ينبغي التأمّل فيه كثيراً من أجل معرفة قبح هذه الظاهرة:  

«يَا أَبَا ذَرٍّ، إِيَّاكَ وَ الْغِيبَةَ، فَإِنَّ الْغِيبَةَ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْغِيبَةُ قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُهُ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ ذَاكَ الَّذِي يُذْكَرُ بِهِ. قَالَ: اعْلَمْ إِذَا ذَكَرْتَهُ بِمَا هُوَ فِيهِ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِذَا ذَكَرْتَهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ»[3] .

ولا شكّ إن السبب الذي حدا بالشريعة لتشديد النكير على حرمة الغيبة إنما هو أثرها السلبيّ على كرامة الإنسان، والانتقاص منه، وتسقيط شخصيّته، وتشويه سمعته، ولأن الغيبة تنشر الفاحشة والسوء في المجتمع، فإن تداول الغيبة بين الناس، وتحوّلها إلى حالة عامّة بينهم، هو سحق للقيم والأخلاق، الأمر الذي يفضي إلى التشجيع على التجاوز، فحينما يرى الإنسان الآخرين يفعلون فعلاً فإن ذلك باعثاً على إسقاط هيبة ذلك الفعل في نفسه، بل تسبّب الغيبة ردّة فعل من قبل المغتاب؛ فربما ينزعج وينتقم لنفسه، وهو أمرٌ طبيعيّ، ولأجل جميع هذه الأمور جاء التشديد على قبح الغيبة والتحذير منها.

وفي شهر رمضان بالذات ركّزت النصوص على حرمة الغيبة وقبحها، بغية تدريب الإنسان على ضبط نفسه ولسانه من ممارسة هذه الرذيلة الأخلاقيّة، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله إنّه قال:

« الصَّائِمُ فِي عِبَادَةٍ وَإِنْ كَانَ نَائِماً عَلَى فِرَاشِهِ مَا لَمْ يَغْتَبْ مُسْلِماً»[4] .

أي أن قبول العبادة يتوقّف على عدم الاغتياب؛ فقد يكون الصوم كعبادة ظاهريّة سليماً حينما يطبّق الإنسان شروطه الفقهيّة، لكنه من حيث أهليّته للقبول عند الله سبحانه وتعالى قد لا يكون كذلك إذا أفسد الصائم جوهره بمثل هذه الرذائل الأخلاقيّة، ومن الواضح فإن العلماء يفرّقون بين شرائط الصحّة وشرائط القبول.

ولعل الالتفات إلى مضمون هذا الحديث المرويّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله، يُسهم في الابتعاد عن ممارسة هذه الرذيلة، في هذا الشهر الفضيل، وغيره من الشهور، حيث استخدم فيه نبيّ الرحمة نفس التعبير القرآني فقال:

«مَا صَامَ مَنْ ظَلَّ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاس‏»[5] .

 وفي حديث آخر روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله قال فيه:

«مَنِ اغْتَابَ مُسْلِماً أَوْ مُسْلِمَةً لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ تَعَالَى صَلَاتَهُ وَلَا صِيَامَهُ أَرْبَعِينَ يَوْماً إِلَّا أَنْ يَغْفِرَ لَهُ صَاحِبُه‏»[6] .

هذه عينة من النصوص الدينيّة التي جاء فيها التأكيد على رعاية حرمات الآخرين، لكننا نعيش اليوم في عصر أصبحت فيه هذه ظاهرة انتهاك الحقوق المعنويّة للآخرين، وتشويه شخصياتهم، من أكثر الظواهر تفشّياً وظهوراً، وخاصة في أوساط المتدينين، مع الأسف الشديد؛ فالمتديّنون الذي يتعاطون ويتداولون هذه النصوص الشريفة الذامّة لهذه الرذيلة والمتلبّس بها، نراهم يمارسونها دون هوادة، ولا أدري لِمَ هذا التساهل في أوساطهم في تشويه شخصيات بعضهم بعضا، مع هذه النصوص الماثلة أمامهم؟ ولا أدري أيضاً السر الذي جعل من هذه المشكلة خطراً أكبر وأظهر في عصرنا الراهن؟

حرية التعبير سلاح ذو حدّين

إننا نعيش في عصر أصبح من السهل التعبير فيه عن آرائنا؛ فالاهتمام بالرأي والمعرفة لم يعد حكراً على طبقة خاصّة من المجتمع قد تمتنع أحياناً من الكشف عنه والتصريح به، بل أصبح مع اتساع رقعة التعليم والمعرفة شرعة لكل وارد، ومع وجود فرصة التعبير عن الرأي فستحصل لا محالة آراء متعدّدة، ومع تعدّد الآراء يحصل الاختلاف والتباين بينها، وفي خضم هذه المهمة يصبح تسقيط الشخصيات وتشويه سمعتها سلاحاً في معركة اختلاف الآراء والأفكار في الأوساط الدينيّة، لكن الصحيح: إن التعبير عن الآراء والأفكار شيء معقول وسليم جداً، لكن خيبتنا أن يتحوّل هذا الأمر إلى سلاح فتّاك لاتهام الآخرين في الدين والعرض وغير ذلك من أنواع الاتهامات الجاهزة.

التطوّر الإعلاميّ سبب آخر

إن تطوّر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعيّ سبب آخر يسّر أمر هذا السلوك القبيح أعني الغيبة وتشويه السمعة؛ حيث تجد البعض يسقّطون الناس تحت مظلّة اسم مستعار بإسفاف وجهل، لكنهم غفلوا إن هذا الاسم المستعار قد يخفى على الناس لكنّه لا يخفى على خالقهم العليم الخبير بكلّ شيء.

والأنكى والأتعس تكوّن جهات تحترف إسقاط شخصيات الناس، من خلال تجهيز وسائل إعلاميّة يكون شغلها الشاغل تسقيط سمعة المؤمنين؛ فلديهم آراء معيّنة متطرّفة، يعتبرونها هي الحقّ الصراح، ومن خالفهم في ذلك فهو كافر وضال ومبتدع وناقص العقيدة وهادم للإسلام... إلى غير ذلك من الأوصاف التي يكيلونها دون أن يفرّقوا بين متقدّم ومتأخر، ولم يسلم من إيذائهم وسوؤهم أحد من الأولين والآخرين من مراجع وعلماء وفقهاء ومفكرين.

وهذا الأمر أخطر من الخطير؛ فحينما تتحوّل الغيبة وإسقاط سمعة الآخرين من عمل فرديّ إلى عمل مؤسساتي فهذه هي الكارثة؛ إذ نجد مؤسسات منظّمة يكون شغلها الشاغل إسقاط الآخرين وتشويه سمعتهم، مرتكزين في ذلك على عنوان التقرّب إلى الله تعالى، خدمة للدين والمذهب، مع أن هذا  العمل من أشدّ المحرمات التي تحقّق أهداف الأعداء المتربصين لإضعاف مجتمع المؤمنين، ولا وسيلة أفضل من هذه الوسيلة الناجعة في تفكيك اللحمة، والاجهاز على ثقة الناس بالدين وعلماءه؛ فإذا فرضنا إن هذا المرجع أو هذا الخطيب الذي أدّى دوراً كبيراً في خدمة الدين والمنبر يوصف بهذه المواصفات البذيئة، فلا يبقى للدين ورموزه باقية، وهذا الأمر يعدّ من أخطر وأقبح الأعمال السيئة التي تفشّت في مجتمعات المؤمنين في هذا العصر.

وعلى المؤمنين أن يكون لهم دور في تحصين المجتمع من تأثيراتها، وينبغي أن لا يصغي الناس لهؤلاء، حتى لا يتربّى جيل مجتمعيّ على هذا المنحى والتوجّه، كما نلحظ في واقعنا الحاضر شباباً في مقتبل العمر متحمسين لدينهم يلهجون بلعن هذا وإتهام ذاك.

إننا ونحن نعيش في رحاب هذا الشهر الكريم، ومع هذه النصوص الدينيّة الوافرة التي حذّرت من انتهاك سمعة الآخرين وتشويه شخصياتهم، ينبغي أن نستثمر هذا الشهر الفضيل في بثّ ثقافة التحصين لمجتمعنا من مثل هذه التوجهات السيئة السلبيّة، نسأل الله تعالى أن يبعدنا وإياكم عن مساوئ الأخلاق.

 

* خطبة الجمعة 7 رمضان 1435هـ الموافق 4 يوليو2014م
[1]  بحار الأنوار: ج72، ص259.
[2]  سورة الحجرات، الآية: 12.
[3] الطوسي، الأماليّ: 537.
[4]  الكلينيّ، الكافي: ج7، ص374.
[5] النوري، مستدرك الوسائل: ج7، ص370.
[6]  بحار الأنوار. ج72، ص258.