حسن الصفار .. رمز الاعتدال الناطق

د. أحمد حسين * صحيفة أوان

عندما يزور الكويت أشعر بحالة شديدة من الفرح والتفاؤل، وعندما يودعنا أشعر بنوع من غذاء روحي ومعنوي وقد رسخ في نفسي وظهر على فعلي، وجعلني أزداد يقينا أن الدنيا لاتزال بخير، وأن العلماء الربانيين مازالوا، يسبغون نبراسا وأمانا على الناس في هذا الزمان وفي كل زمان. ولعل زيارته الأخيرة للكويت جعلتني أتساءل في نفسي عن ضيوفنا في الكويت وتقييم زياراتهم، ومدى ما تعود به علينا من فائدة. ولا شك أننا لا نريد إلا الخير لبلادنا ومواطنينا، كيفما كانت معتقداتهم وآراؤهم. ولذلك فإننا وبأخينا الكبير العزيز على قلوبنا، سماحة الشيخ حسن الصفار، الرجل الفذ الذي عرفته بصفتين هما عندي من أعظم صفاته وأجملها بجانب صفاته الأولى: السماحة والحصافة.

ولا ريب أن السماحة والحصافة لا يجتمعان معا في إنسان إلا وأورثاه فهما صائبا، وعقلا راجحا، وشفافية واضحة، وشجاعة نادرة، وهذه هي سمات الصفاء حيث تجالسه وتحادثه.

لن استغرق في الحديث عن ذاتيات الصفار، فإنه حديث بعيد عن اهتماماتي، وإن كنت أعترف للرجل بالذاتية الفذة المليئة بالتواضع والإيثار والمدد المعنوي والتقوى والتدين.. كل ذلك بامتياز، ولكنني أتحدث عن الصفار موضوعا وأنموذجا لظاهرة يندر في يومنا الحاضر العثور على شبيه لها، وهي «الوسطية الحقة»، أو «الاعتدال الناطق». وأعتقد أنه من الضروري التأصيل لهذين المعنيين لكي تخطو أمتنا نحو التقدم الحقيقي والنهضة الواعية فعلا، ولاسيما عندما نعلم أن هذين المفهومين قد تم اختطافهما من دعاة الفتن، وعشاق التفرقة بين المسلمين. ولذلك فإنه من أوجب الواجبات على من يعمل مخلصا لنهضة الأمة، أن ينتشل الإنسان من وحي النفاق والتدليس والاصطفاف باسم الاعتدال.

نقتبس هنا من كلمات العالم النبيل الشيخ حسن الصفار في موضوعات متعددة. ولا شك أن هذا الاقتباس ليس عشوائيا، بل يقوم على نظام منهجي راسخ، أقصد من خلاله توجيه رسائل إلى قطاعات مختلفة توقظ العقول النائمة، وتهدئ النفوس المشحونة التي ستجد بلا شك فيها ما يعينها على تخطي حاجز الخوف، وإعادة التفكير الإيجابي من جديد.

أخي الكريم لعلك تشاركني الرأي فيما تشهده مجتمعاتنا من حالات الإساءات والاستفزازات الطائفية والمذهبية وحدة الخطاب الديني الذي بدأ يتحول لدى البعض الى طرح إقصائي بامتياز، والأمة تعاني ما تعاني من تهميش ولامبالاة جماعية حول ما يجري في العالم من أحداث سياسية وعسكرية متسارعة لن تحمد عواقبها. إن المخيف حقا مدى التشنج والتصعيد الذي يتزايد بشكل مثير، بحيث يهدد نظام الدولة، وإيمان الساسة، والعامة، بكيانها وبنظام المؤسسات، على رغم أهميتها. ولذلك فإن صوت الاعتدال لابد أن يواجه التحدي الأكبر لينطلق بإخلاص لتأسيس واقع جديد تتغير معه القناعات، وتتحقق معه المصالح العليا الحقيقية، يقول الصفار «إن عنوان الوحدة والتقارب أصبح يتناول بنوع من الاستخفاف والازدراء على رغم أنه مبدأ قرآني».

هناك العديد من النظم التي يمكن من خلالها إنتاج الاعتدال والوسطية في المجتمع، منها كما يقول الشيخ الجليل: «الدعوة الى الانفتاح والتقارب والوحدة وظيفة إسلامية شرعية، وعلى المجتمع أن يحاسب من يتخلف عن القيام بهذه الوظيفة».. و«الاجتهاد وشرعية الاختلاف، وإنهما مبدآن متفق عليهما، ولا يحق لأحد أن يتهم الرأي الآخر بالخروج والمروق من الدين بسبب ذلك، وإنه خلاف الأخلاق والدين وخلاف المنهج العلمي».

ويمتاز فكر الشيخ الصفار بالتجدد والتطور اللا تقليدي. ومن النماذج الجريئة في هذا المجال ما قاله في لقاء عام: «أدعو الناس أن يدخلوا طرفا في الحوار، ولا تصبح القضية، وكأنها بين العلماء وبين شريحة معينة فقط. فالمثقفون ورجال المجتمع يجب أن يكون لهم دور، وينبغي أن نحذر من مستقبل الأوضاع في بلادنا، وفي منطقتنا الخليجية، ومن ثم علينا أن نحصن الوحدة في بلادنا بمزيد من التداخل والتقارب على مستوى الناس والجمهور، لابد أن تكون لنا مشاريع إنسانية عامة، وأطروحات للناس كلهم.. لماذا لا يتم عمل مشاريع إنسانية، أو مركز أبحاث ودراسات على مستوى الوطن، او مستشفى لعلاج الأمراض المستعصية على مستوى المنطقة، أو إسكان خيري للفقراء، أو العمل على تشجيع طلب العلم، وطلب الدراسات العليا على مستوى عام»..

ألا يعني هذا أن الخطاب المذهبي لدى الصفار قد انفتح إنسانيا، شأنه في ذلك، شأن خطابات الأنبياء.. ولا شك أن هذا التحول ينتج وراثة العلماء للأنبياء، حينما يحس العالم بمسؤوليته نحو المجتمع بشكل مباشر، ومن دون قناع زائف، مهما كان نوعه. ويقول الشيخ «لو أن رجل أعمال شيعي تبرع بألف بعثة على حسابه، نصفها لأبناء السنة في المنطقة، ونصفها لأبناء الشيعة، لكان لذلك أبلغ الأثر في الدعوة إلى الوحدة».

وهنا أتساءل من هو ذاك الشجاع الذي يقبل أن يبني من ماله الخاص الوحدة الوطنية، ويعطيها من ذاته ووجاهته.. الا يبقى حديث الشيخ مجرد أمنية في الوقت الحاضر، أم إن الأيام ستكشف لنا معادن وجواهر متوهجة.

يكثر الحديث في الكويت اليوم عن المواطنة، وسيعقد البعض مؤتمرا للمواطنة، ولكنه سيظل حديثا في حديث في حديث. وهو جيد لا أنكر أهميته في مجتمع بات يفقد إيمانه بالوسطية والاعتدال، ولكن حتى متى يتوقف عطاؤنا عند حدود نظرية مجردة، ولا يتواصل ليندمج مع العمل والإنجاز الواقعي الذي بإمكانه أن يغير وجه التاريخ والمجتمع، ويقلب الموازين إلى الأفضل دائما.

استغرب من أساتذة الأجيال، إذ لم يفكروا يوما في تأسيس جامعات علمية تعنى بالنقد العلمي الذي يقوم على منهجية الدراسات المقارنة. ولا أدري، ألا يعني ذلك أن كثيرا منهم لا يؤمن بالتعددية، ووجوب قراءة الآخر، ويحرم بذلك المجتمع من عملية تطوير أساسية في مسائل العلوم المختلفة.

لماذا لا نصغي للشيخ الصفار حينما يدعو إلى ميثاق شرف يتم بموجبه تجاوز الصراعات المذهبية، وحماية الوحدة الوطنية.

إنني أؤمن بفقدنا للفرسان من أصحاب المبادرات الإيجابية في هذا الزمان، الذي كثرت فيه الاصطفافات الطائفية، إلا أن الشيخ حسن الصفار وأمثاله سيظلون حجة بالغة على من سواهم ممن يخشى الحق، ويجامل على حسابه.

«إننا بحاجة الى مفكرين أحرار يتمسكون بحقهم في التعبير عن آرائهم، ويقاومون ضغوط الترهيب والترغيب».

هذه كلمات نيرة من رمز الاعتدال الناطق والوسطية التي تأبى التزييف والتعطيل. ولا شك أنها الكلمات المفاتيح لأيقونة السلام والأمان، ويجب أن نكون من حملتها المخلصين بكل فعالية وشجاعة، فإنها الأمانة التي حملها الإنسان.. غير أنني لن أكون ظلوما جهولا أبدا.

الأربعاء 10/2/2010م - العدد: 806
كاتب من الكويت