تقديم كتاب «أم البنين عليها السلام رسالة للمرأة المسلمة»

الكتاب: أم البنين رسالة إلى المرأة المسلمة
المؤلف: عبد العظيم المهتدي البحراني
الناشر: مؤسسة عاشوراء، الطبعة الأولى 2002م

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله الطاهرين

تواجه العائلة في المجتمعات المعاصرة تحديات كبيرة من قبل الحضارة المادية الزاحفة، فهي آخر حصن وقلعة للمبادئ والقيم الإنسانية، بعدما حطمت النزعات المادية والتوجهات الأنانية المصلحية، كل حصون المبادئ والمثل، من النظام السياسي، إلى النظام الاجتماعي العام، إلى وسائل الإعلام، وبرامج التعليم، ومؤسسات الاقتصاد.. حيث أصبحت كل هذه الميادين ساحة للكسب المصلحي والتنافس المادي، وخدمة الذات والأنا على حساب المبادئ والقيم، ودون أي اعتبار لها أو مبالاة بها. مما صيّر الحياة غابة وحوش، وميدان صراع، لا مكان فيها للعواطف والمشاعر، ولا رعاية فيها للقيم والمبادئ.

وبقيت العائلة كحصن أخير لأنها بطبيعتها تنبثق من حالة فطرية وجدانية، وتقوم على أساس إنساني، وتعتمد لغة العواطف والمشاعر، ومعادلة البذل والعطاء والتضحية في مقابل الأنانية والمصلحية.

لقد شاءت حكمة الله تعالى أن يودع قلوب الأمهات والآباء العطف والحنان على أبنائهم، بحيث يؤثرونهم على أنفسهم، ويضحّون بوجودهم من أجلهم، ويسخرون كل إمكاناتهم لخدمتهم وإسعادهم.

وفي المقابل يكون الأبناء ملتصقين بالوالدين وخاصة في فترة طفولتهم والتي تمتد لسنوات، متأثرين بهما، تابعين لهما، وضمن أجواء الحنان والعطف والانشداد والانجذاب، ينشأ الإنسان ويتربّى وتنمو عواطفه ومشاعره، فيستقبل الحياة كإنسان سويّ، مشبَّع العواطف، مرهف الأحاسيس، يعرف قيمة التضحية والعطاء، ويقدّر جهود الإحسان والبذل.

هكذا شاءت الحكمة الإلهية أن ينشأ الإنسان ويتربّى، ضمن أجواء العائلة والأسرة، والتي لا يحتاج إليها لتنميته جسمياً ومادياً فقط، بل لإعداده نفسياً وروحياً كذلك.

ومن هنا تأتي أهمية الأسرة فهي أرضية بناء إنسانية الإنسان، ومركز تنمية مشاعره وعواطفه، ومدرسة تربيته على القيم والمثل.

والحضارة المادية التي تعمل على (تشيّي) الإنسان، وتحويله إلى شيء من الأشياء، تحكمه معادلة المصالح والمكاسب، ويدور في طاحونة الأنانية والذاتية، غايته اللذّة، وهدفه إشباع الشهوة، وتحقيق المصلحة العاجلة، أما القيم والمثل والمبادئ والأخلاق، فهي في معادلة الحضارة المادية أساطير وخرافات وأوهام.

ولإنجاز هذا الهدف الخطير تزحف الحضارة المادية على كل منابع القيم والأخلاق لتجفيف روافدها، وتحطيم قنواتها، وقد وصلت حشودها الغازية إلى آخر الحصون، هو حصن العائلة الإنساني، لتدكّ كيانه العريق.

وترى الآن في المجتمعات الغربية عزوفاً واضحاً تتسع رقعته يوماً بعد آخر عن الرغبة في الزواج، وتكوين العائلة، وتحمّل مسؤولية الأسرة، ولماذا يتحمل الإنسان المادي الغارق في أنانيته، اللاهث خلف شهواته، أعباء تكوين العائلة وإدارتها ورعايتها؟ إنّ ذلك يستلزم منه العطاء من ذاته، والتنكّر لأنانيته، والتضحية برغباته من أجل زوجته وأبنائه، وهو ليس مستعداً لذلك.

ونسمع الإحصاءات والتقارير عن شيوع العلاقات الجنسية خارج الإطار العائلي، وعن الأرقام القياسية لإنتشار حالات الطلاق وانهيار العلاقات الزوجية.

لقد اهتزّت العلاقات الأسرية العائلية تحت وطأت ضغوط الحضارة المادية، وأنماط السلوك المادي الأناني.

وما عاد كل من الزوج والزوجة مستعداً للتنازل عن شيء من رغباته لصالح العلاقة مع الآخر واستقرار الكيان العائلي، فالمصلحة الذاتية، والنزعة الأنانية، مستحكمة غالبة، والتحريض الخارجي إعلامياً وثقافياً ومعلوماتياً في تصاعد مستمر، يدفع كلا من الزوجين إلى التخلّص من التقيّد بالآخر، والركض خلف المصالح واللذات والشهوات.

أما الأبناء فقد أصبحوا عبئاًَ ثقيلاً يبحث الوالدان عن فرص التخلّص منه عبر مؤسسات الحضانة والرعاية، أو بتلهيتهم بالإنشداد إلى الأفلام التلفزيونية والألعاب الكمبيوترية، أو أي شيء آخر، يريح الوالدين من أعبائهم. مع الاتجاه إلى تقليل النسل وتحديده، تجنّباً لمسؤولية التربية والرعاية.

هكذا تعيش الأسرة والكيان العائلي تحدّياً مصيرياً خطيراً أمام زحف الحضارة الغربية.

وفي ظل العولمة فإن مجتمعاتنا الإسلامية تواجه ذات الخطر، وتقابل ذات التحدي على صعيد البناء الاجتماعي ومستقبل العائلة.

ولمواجهة هذا الاجتياح الزاحف نحتاج إلى إعلان حالة طوارئ لتحصين مجتمعاتنا، وللحفاظ على النظام العائلي الأسري، والذي هو الخيار المتوفر لحماية القيم والمبادئ ونقلها إلى أجيالنا القادمة.

وذلك يستدعي خططاً شاملة تتضمن محاور عديدة من أبرزها ما يلي:

1/ تيسير مشروع الزواج وبناء الأسرة والتشجيع على ذلك.
2/ مساعدة ودعم الحالة الأسرية في مواجهة الضغوط الاقتصادية.
3/ إنشاء المؤسسات لمعالجة المشاكل التي تطرأ على الكيان الأسري.
4/ بث الوعي والثقافة الإنسانية والاجتماعية لمواجهة الثقافة المادية ونمط السلوك الغربي.

وفي تراثنا الديني والمعرفي رصيد ثقافي كبير يمكننا تفعيله والاستفادة منه في هذا المجال على مستوى الأحكام والقوانين الشرعية، وعلى مستوى الآداب والسنن والأخلاق، وعلى مستوى الفكر والطروحات الثقافية.

وكنموذج من المخزون الديني المعرفي الذي ينبغي بعثه وإثارته على هذا الصعيد، هو سير الأولياء الصالحين في بُعد حياتهم العائلية، وتعاملهم الأسري.

وهو ما نستلهمه من القرآن الكريم في حديثه عن الأنبياء والأولياء حين يستعرض جوانب من حياتهم العائلية الأسرية.

ضمن هذا السياق قرأتُ هذه الصفحات الجميلة الرائعة التي خطّتها أنامل أخينا وصديقنا الفاضل المجاهد سماحة الشيخ عبدالعظيم المهتدي (حفظه الله).

حيث قدّم سيرة إحدى النماذج الرسالية العظيمة، سيّدتنا أم البنين التي حباها الله تعالى الكثير من الفضل والكرامة باقترانها بأفضل الخلق بعد رسول الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وبإنجابها لأربعة أقمار مشرقة، في طليعتها أبو الفضل العباس بن علي قمر بني هاشم .

إنّ هذه السيرة العطرة لأم البنين تقدّم نموذجاً لحياة عائلية أسرية صالحة، بهدف التأسي والإقتداء، وبعْث هذا النموذج وبثّه ونشره على أوسع نطاق يعتبر مفردة هامة في برنامج التوعية والتثقيف بأهمية الحياة الأسرية، وأساليب نجاحها.

وليس هذا الطرح والعطاء غريباً على سماحة الشيخ المهتدي (حفظه الله) فقد نذر نفسه، ووظّف جهده، من حداثة سنّه لخدمة الدين والمجتمع.

ومن توفيق الله تعالى له أن منحه قلماً سيّالاً أنتج به العديد من المؤلفات والكتب التي تستهدف إصلاح المجتمع، وتوعية أبناء الأمة، ونشر معارف الدين، أسأل الله تعالى له المزيد من التوفيق والتقدم، وأن يكثّر في رجال العلم والدين أمثاله، وأن ينفع بكتابه هذا وسائر كتاباته القيّمة، ويجعلها في سجّل أعماله وحسناته، إنه وليّ الصالحين. والحمد لله رب العالمين

حسن بن موسى الصفار
24/5/1423هـ