المطففون والكيل بمكيالين

الشيخ الصفار يستنكر التواطؤ العالمي تجاه ما يجري في غزة

مكتب الشيخ حسن الصفار

استنكر سماحة الشيخ حسن الصفار التواطؤ العالمي تجاه ما يجري في غزة، واصفاً موقف الدول المستكبرة بأنه كيلٌ بمكيالين، ففي الوقت الذي تكون لها مطامع ومصالح فإنها ترفع شعارات حقوق الإنسان، والالتزام بقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة والمواثيق الدولية، أما عندما تكون لها محاباة لجهةٍ أخرى فإنها تتغاضى عن كل ذلك، حتى وإن انتهكت دويلة إسرائيل كل المواثيق الدولية وقامت بأبشع الفظاعات على مستوى التاريخ واستخدمت القنابل الفسفورية المحرّمة دولياً، فإن ذلك يكون من باب الدفاع عن النفس ومواجهة الإرهاب. مؤكداً أن هذه الممارسة القذرة من الدول المستكبرة هي من أسوأ وأبشع ألوان التطفيف الذي توعّد الله تعالى أصحابه بالويل والهلاك والعذاب في سورةٍ كاملةٍ من القرآن الكريم وهي سورة المطففين. مشيراً إلى أن التطفيف يصدق على المستوى الفردي وكذلك الاجتماعي، واستعرض عدة مجالات للتطفيف على المستوى الفردي، والتي منها: المجال الاقتصادي، ومجال العلاقات الاجتماعية، ومجال التقويم والأحكام. وأكد أنه ينبغي للإنسان أن تكون القيم والمعايير والمقاييس التي يُطبّقها على الآخرين هي ذاتها التي يُطبّقها على نفسه وعلى من يرتبط به، وإلا فهو يُمارس التطفيف الذي يتوعد الله تعالى أصحابه بالويل والهلاك والعذاب.

الافتتاحية

الحمد لله الذي تفرّد بالقِدَم في الوجود، فهو الأول في الابتداء، الباقي بعد فناء الأشياء، فطر عقول الخلق على إدراك أزليته وأبديته، وشرح نفوسهم للإيمان بربوبيته وإلهيته.

نحمده تعالى على نعمه المتواترة، وله الشكر على أياديه المتكاثرة، وآلائه المتضافرة.

ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، أبدع طبائع الأشياء، ونشر رحمته على جميع الأرجاء.

ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اصطفاه بعلمه وإرادته، وفضّله على جميع خلقه وبريّته، وجعله منارًا لهديه ورحمته.

صلى الله عليه وعلى الأطائب من أهل بيته وعترته.

عباد الله، أوصيكم ـ ونفسي ـ بتقوى الله بامتثال أوامره، والانزجار عن نواهيه، ومجاهدة النفس الأمّارة بالسوء، هدانا الله وإياكم إلى طريق الطاعة، وأبعدنا وإياكم عن مزالق المعصية.

الخطبة الأولى

أكد الشيخ الصفار في بداية خطبة الجمعة 19 محرم 1430هـ (16 يناير 2009م) أن كل إنسان في هذه الحياة يود أن لا يُعتدى على أي حقٍ من حقوقه ولا يُظلم، وهذا حقٌ طبيعي، إلا أنه في المقابل ينبغي أن يتعامل مع الناس على هذا الأساس. مشيراً أن بعض الناس فيما يرتبط بهم يأخذون حقهم دون نقص، إلا أنهم لا يلتزمون بإعطاء الحقوق إلى أهلها. مؤكداً أن هذه الخصلة سيئة، وحالةٌ منحرفة، ويطلق عليها القرآن الكريم مصطلح (التطفيف) أو (المطففين). وفي القرآن سورةٌ كاملة تبحث هذه الصفة، وتبدأ السورة بإعلان التهديد لهم بالهلاك والعذاب، يقول تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (المطففين، 1-6).

وأشار إلى معنى كلمة المطففين، وهي من التطفيف، وأصلها من الطف وهو جوانب الشيء وأطرافه، وسُمّيت كربلاء وادي الطف لوقوعها على ساحل نهر الفرات. والطفيف في اللغة: الشيء النزير، والتطفيف اصطلاحاً: البخس في الكيل والوزن ونقص المكيال، وهو أن لا تملأه إلى نهايته. مضيفاً: الظن في الآية الكريمة يأتي إما بمعنى اليقين، وقد ورد في القرآن استخدام لفظة الظن بهذا المعنى، يقول تعالى: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (البقرة، 249) فالظن هنا بمعنى اليقين أي أنهم متيقنون بلقاء الله، إلا أن المعنى المصطلح للظن هو الترجيح، وقد ذهب بعض المفسرين إلى هذا المعنى أيضاً. والنتيجة أن مجرد الاحتمال للقاء الله تعالى كفيلٌ بأن يجعل الإنسان يحذر من العذاب ويتعامل مع الآخرين  بإنصاف.

واستعرض الشيخ الصفار عدة مجالات يصدق فيها مصطلح التطفيف:

أولاً- المجال الاقتصادي، وهو المجال الذي بحثته السورة الكريمة، بأن يقوم الإنسان بإنقاص الوزن في حال البيع، بينما يأخذ حقه كاملاً حال الشراء. وهو لا ينحصر في الكيل والوزن فقط، فأي معاملة بينك وبين الآخرين فإن إنقاص حقوق الآخرين يُطلق عليه (تطفيف). مضيفاً: ومما يتفرع عن المجال الاقتصادي تعامل الإنسان مع العمل، فإذا كان في وظيفته متسيباً، بينما مع موظفيه محاسباً ومشدداً عليهم، فهذا أيضاً من مصاديق التطفيف، وهو كيلٌ بمكيالين، ومشمولٌ بالتهديد الإلهي.

ثانياً- مجال العلاقات الاجتماعية، حيث يتوقع الإنسان من الآخرين أن يحترموه ويُقدروه ويُراعوا مقامه وحقوقه، بينما هو في المقابل لا يؤدي للآخرين حقوقهم في هذه الجوانب. وهذا يشمل مختلف العلاقات الاجتماعية سواءً مع الأسرة أو الجيران وسائر العلاقات مع الناس. وهذا أيضاً تطفيف، وكيلٌ بمكيالين في العلاقات الاجتماعية، ومشمولٌ بالتهديد الإلهي.

ثالثاً- مجال التقويم والأحكام، حيث يُقوّم البعض الأمور التي ترتبط بهم تقويماً عالياً ويغضون الطرف عن سلبياتها، بينما فيما يرتبط بالآخرين فإنهم يبخسون الناس حقوقهم، وهو خلاف الإنصاف الذي تدعو له الآيات القرآنية، يقول تعالى: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ (الشعراء، 183). وهذا لونٌ آخر من ألوان التطفيف، وهو أيضاً مشمولٌ بالتهديد الإلهي.

وأكد أنه ينبغي للإنسان أن تكون القيم والمعايير والمقاييس التي يُطبّقها على الآخرين هي ذاتها التي يُطبّقها على نفسه، وإلا فهو يُمارس التطفيف الذي يتوعد الله تعالى أصحابه بالويل والهلاك والعذاب. مستشهداً بما ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في وصيته لابنه الإمام الحسن من الدعوة إلى الإنصاف ومعاملة الناس بمثل ما نُحب من معاملتهم لنا، يقول : «اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تُحب لنفسك واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تُحب أن تُظلم، وأحسن كما تُحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارضَ من الناس بما ترضاه لهم من نفسك».

مضيفاً: إن التطفيف كما أنه يتحقق على المستوى الفردي فإن له مظاهر على المستوى الاجتماعي والدولي، فعلى المستوى الاجتماعي تجد هناك جماعة يستنكرون على الآخرين حينما يتحدثون عنهم أو ضدّهم، بينما تجدهم يُعطون لأنفسهم الحق في الحديث عن الآخرين وبيان نقاط ضعفهم، وهذا أيضاً تطفيف.

وعبّر عن التطفيف على المستوى الدولي بأنه المأساة الكبرى التي تعيشها البشرية، حيث أن الدول الكبرى تكيل بمكيالين، فعندما تكون لها مصالح ومطامع في مكانٍ ما فإنها ترفع شعارات حقوق الإنسان، والالتزام بقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة والمواثيق الدولية، أما عندما تكون لها محاباة لجهةٍ أخرى فإنها تتغاضى عن كل ذلك. مضيفاً: وهذا ما نراه جلياً من الفظائع والمآسي التي تحصل في غزة، من قصفٍ للمستشفيات والمنازل ومؤسسات تابعة للأمم المتحدة، وقنابل فسفورية محرمة دولياً تُستخدم، وكل ذلك على مسمع ومرأى من الدول المستكبرة، حيث لم يحصل في تاريخ البشرية فظاعات وجرائم بحجم هذه الجرائم والفظائع. ومع ذلك كله فلا عينٌ تطرف للإدارة الأمريكية ولا البريطانية، ويعتبرون أن إسرائيل تُدافع عن نفسها، وتقاوم الإرهاب، ويُصرون على أن الحرب لا تقف إلا إذا رفع المظلومون راية الاستسلام.

واستنكر على المؤسسات الدولية والدول المستكبرة التي تتغنى بالمواثيق الدولية وشعارات حقوق الإنسان، غضّها الطرف عما يجري في غزة من فظاعات مؤلمة، وكأن الضمير الإنساني قد مات في نفوس هؤلاء الحاكمين والمستكبرين.

وأكد الشيخ الصفار أن ما يزيد الألم أن العرب قد أعانوا على أنفسهم بتخاذلهم، فتجد أن رؤساءهم لم يتفقوا حتى على عقد قمة للنظر في هذا الأمر، وكأن هذه الدماء التي تسيل لا تستحق أن يجتمعوا من أجلها، ولا تستحق أن يتخذوا من أجلها قرارات حازمة. والأسوأ من ذلك أن بعض الدول العربية لا تزال تحتضن سفارات إسرائيل، والعلم الإسرائيلي يرفرف في عواصمها،  بينما دولٌ أخرى كفنزويلا تُبادر إلى قطع علاقاتها مع إسرائيل، وطرد السفير الصهيوني.

واستفهم باستنكار بأن الأمة التي لا تحترم نفسها، كيف تتوقع من العالم أن يحترمها؟ والناس الذين لا يعطفون على بعضهم بعضاً، كيف يستجدون الرقة والعطف من الآخرين؟

واختتم الشيخ الصفار الخطبة بالتأكيد على أن ما يوجد في النفس الأمل والاطمئنان هو الصمود والبسالة التي تتحلى بها المقاومة الإسلامية في غزة، وصمود الأهالي رغم ما يعيشونه من عذاب، ومن جحيم ومن تنكيل لم يعرف التاريخ له مثيلاً. داعياً إلى لزوم نصرة هذا الشعب المظلوم، وذلك من تعاليم ووصايا أمير المؤمنين حيث يقول : «كونوا للظالم خصماً، وللمظلوم عونا».

وفي الخطبة الثانية تحدّث سماحته عن أهمية أن يتذكّر الإنسان الآخرة وما فيها من أهوال وعذابات تنتظر العصاة، مشيرًا إلى أن العديد من الآيات تحذّر الإنسان من ارتكاب المعاصي والتساهل في مراعاة حقوق الناس، وأن ما ينتظر الإنسان من أهوال يوم القيامة تصفه الآيات الكريمة بما لا يستطيع الإنسان تصوّره، لأنه فوق الوصف، كقوله تعالى ﴿أُولَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ،  واعظًا الحضور بمراعاة حق الله على العباد بالطاعة والالتزام بأوامره ونواهيه سبحانه، وكذلك باحترام حقوق الآخرين، فالتفريط فيها يوقف الإنسان يوم القيامة للمساءلة والمجازاة والمحاسبة، فكثير من الناس تشغلهم الدنيا عن التفكير في الآخرة، فهم كالجنين الذي في بطن أمه لا يعلم ما يستقبله، لهذا فإن التصوير القرآني في جانبي النعيم والعذاب جاء ليقرب الصورة عما يحدث في الآخرة، يقول تعالى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا فهذه الجلود تجدد وهي دلالة على استمرار العذاب، بل في آية أخرى يتمنى من في النار الموت على ما يرونه من عذاب ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ، فهل يعقل أن يسلم الإنسان جسده الذي يرفهه في الدنيا إلى نار الحريق من أجل شهوة عابرة، أو حق لأحد يسلبه منه، أو اعتداء بظلم على ضعيف ليس له معين؟ على الإنسان أن يفكر في ذلك مليا، ولا يعيش في الغفلة، فهذا أمير المؤمنين يقول: «واعلموا أنه ليس لهذا الجلد الرقيق صبر على النار، فارحموا نفوسكم فإنكم قد جربتموها في مصائب الدنيا. أفرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه، والعثرة تدميه، والرمضاء تحرقه. فكيف إذا كان بين طابقين من نار، ضجيع حجر، وقرين شيطان! أعلمتم أن (مالكاً) إذا غضب على النار حطم بعضها بعضاً لغضبه، وإذا زجرها توثبت بين أبوابها جزعاً من زجرته»، فعلى الإنسان أن يفكر في آخرته ولا يجعل الدنيا شغله الذي يشغله عنها، فهذا الإنسان الضعيف عن بلاء الدنيا كيف له تحمل عذاب الآخرة، يقول الإمام علي كما في دعاء كميل: «يا رب وأنت تعـلم ضعفي عن قليـل من بلاء الـدنيا وعـقوباتها، وما يـجري فيها من المكاره على أهلـها، على أن ذلك بلاء ومـكروه، قلـيل مكثه، يسـير بـقاؤه، قصير مدته، فكيف احتمالي لبلاء الآخرة وجليـل وقوع المـكاره فيها، وهو بلاء تطول مـدته، ويدوم مقامه، ولا يخفف عن أهله، لأنه لا يكون إلا عن غضبك وانتقامك وسخطك، وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض، يا سـيدي فكيـف بـي وأنا عبدك الضعـيف الذلـيل، الحقير المسكين المستكين».