الشيخ الصفار يؤكد حاجة الأمة لإعادة النظر في فهمها لرسالة الإسلام

مكتب الشيخ حسن الصفار القطيف: تركي العجيان

أكد سماحة الشيخ حسن الصفار حاجة الأمة لإعادة النظر في فهمها لرسالة الإسلام، حيث ساد الأوساط الإسلامية فهم مغلوط للكثير من تعاليم الإسلام، وحاول الكثير من المسلمين أن يلبسوا الرسالة الإلهية أوضاع الواقع المزري الذي يعيشونه، مبررين بذلك التصرف الشنيع واقعهم المتخلف. مضيفاً أن المشكلة الكبرى التي وقعت فيها الأمة هي تجاهلها للرسالة  في مجال التطبيق والعمل مسلّطاً الضوء على مناسك الحج وما ترمز إليه من مفاهيم وقيم سامية، تتجسد في مشهدٍ إيماني ليس له نظير في واقع العالم كله، مشيراً إلى بعض الأمثلة التي تغيب عن واقع الأمة الإسلامية المعاصرة، كتجسيد المساواة والعدل، والتأكيد على السلم والسلام والدعوة للعلم والمعرفة.

وفي سياقٍ آخر أكد حاجة الإنسان الماسّة إلى رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة. مبيناً أن طريق الرحمة الإلهية يتحقق من خلال الإحسان للآخرين، ومستعرضاً جملة من النصوص الدينية التي تُعزز هذا الجانب.

الافتتاحية

الحمد لله بارئ النسم، وسابغ النعم، خالق الأرواح، وفالق الإصباح، ومسخّر الرياح، الذي عز عن الإدراك بالأبصار، وبعد عن مرامي العقول والأفكار، واحتجب بعظمته عن ملاحظة الأنظار.

أحمده سبحانه في السراء والضراء، وأشكره في حالتي الشدة والرخاء، وأستدفع برحمته السوء والبلاء.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الواحد الجبّار العالم بالخفايا والإسرار.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المبعوث بالأنوار الساطعة، والمؤيد بالحجج والبراهين القاطعة، والصادع بالشريعة السمحاء الكاملة النافعة.

وأصلي عليه وعلى آله ذوي المجد والكمال، والنبل والاعتدال، الذين جسّدوا مكارم الأخلاق، وحفظوا الشريعة عن التحريف والتشويه والاختلاق. صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، فإنها الحصن المنيع من الشقاء والعناء، وطريق النجاة يوم القيامة من النار والعذاب، جعلنا الله وإياكم من المعتصمين بتقواه والفائزين برحمته ورضاه.

الخطبة الأولى

أشار الشيخ الصفار في بداية خطبة الجمعة 14 ذو القعدة 1429هـ (12 ديسمبر 2008م) أن الرسالات الإلهية تبدأ كمشروع تغيير ومنهج تقدم في مجتمع متخلّف، ثم ما تلبث أن تتحول إلى مجرد عنوان للانتماء خالٍ من المضمون، وقد قدّم القرآن الكريم تشبيهاً بليغاً لهذه الحالة، يقول تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (الجمعة، 5). مبيناً أن الأسفار: جمع سفر، والسفر هو الكتاب، وسُميّ بذلك لانه يحمل في طياته العلم والمعرفة، فهو يسفر عن الحقائق أي يظهرها.

مضيفاً إن الأمم السابقة كاليهود والنصارى والتي كانت تحمل رسالتي التوراة والإنجيل قد انحرفت عن مسار تلك الرسالتين المقدّستين بصريح القرآن الكريم.

والسؤال المهم الإجابة عليه هو: هل أن الأمة الإسلامية، وهي صاحبة أعظم رسالة في تاريخ البشرية، وهي رسالة الإسلام التي جاء بها أعظم الخلق وأفضلهم نبينا محمدٍ ، بعيدةً عن هذا التشبيه القرآني، أم أنه يشملها أيضاً؟

وفي معرض إجابته أكد الشيخ الصفار أن واقع الأمة الإسلامية كفيلٌ بالإجابة على هذا التساؤل الخطير، فقد حمّل الله تعالى هذه الأمة مسؤولية عظيمة ورسالة خالدة وهي القرآن الكريم، فهل التزم المسلمون بتعاليم القرآن وطبّقوا أحكامه وشرائعه وهديه، وبذلك يستحقون أن يكونوا: ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (آل عمران، 110)، أم أنهم انحرفوا بهذه الرسالة الخالدة فيتحقق بذلك المثل القرآني عليهم ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا كما تحقق على الأمم السابقة.

وأشار أن مشكلة الأمم تجاه الرسالت الإلهية تكمن في جانبين:

الأول: سوء الفهم للرسالة، وهو ينبع من الجهل ومن تفسير الرسالة وفقاً للمصالح والأغراض الشخصية، فتنحرم الأمة عن الرسالة الحقة، يقول تعالى: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ (المائدة، 13).

وأكد أن الأمة الإسلامية وقعت في هذا الأمر حيث ساد الأوساط الإسلامية فهم مغلوط للكثير من تعاليم الإسلام، وحاول الكثير من المسلمين أن يلبسوا الرسالة الإلهية أوضاع الواقع المزري الذي يعيشونه، مبررين بذلك التصرف الشنيع واقعهم المتخلف.

مضيفاً: إن الرسالة الإلهية تحتاج إلى فهم صحيح، والتزام عملي بأن تُصبح منهج حياة، لا أن تتحول إلى مجرد شعار وعنوان كما هو حال الكثير من المسلمين اليوم.

الثاني: تجاهل الرسالة في مجال التطبيق والعمل، وهي المشكلة الكبرى التي وقع فيها المسلمون في الكثير من أبعاد ومجالات الحياة، وواقعهم المعاصر خير شاهدٍ على ذلك.

وسلّط الضوء على مناسك الحج وما ترمز إليه من مفاهيم وقيم سامية، تتجسد في مشهدٍ إيماني ليس له نظير في واقع العالم كله. مشيراً إلى بعض تلك المعالم:

أولاً- الحج تجسيد للمساواة والعدل، إذ يعيش الحجيج من مختلف البقاع والأصقاع واللغات، حالة المساواة بلباسٍ واحد ونسكٍ واحد وفي مكانٍ واحد، لا فرق بينهم، وكلهم في ذلك سواء. إنه مشهد عظيم لو يُترجم إلى واقع فعلي يعيشه المسلمون في حياتهم بشكلٍ عام، إلا أن ذلك لم يتحقق مع شديد الأسف، حيث يعيش المسلمون في أغلب مناطقهم وبلدانهم حياة التمييز والتفرقة بمختلف عناوينها الدينية والمذهبية والعرقية والقبلية. بعكس الواقع الذي يعيشه الاخرون من غير المسلمين حيث تراهم يحترمون الإنسان في مجتمعاتهم بما هو إنسان بغض النظر عن الدين أو المذهب أو العرق.

ثانياً: الحج رسالة سلم وسلام، حيث أن حرمة الإنسان في تلك البقاع الطاهرة مصانة، حتى المجرم الذي يستحق العقوبة إذا لجأ للبيت الحرام فإنه يأمن من تنفيذ الحكم عليه حتى يخرج من البلد الحرام. بينما يعيش المسلمون في واقعهم أجواء الظلم وانتهاك الحقوق حيث تحصل ممارسة العنف بأبشع صوره فيما بينهم وكذلك ضد الآخرين، وباسم الإسلام وتفجيرات بومباي الأخيرة إحدى الشواهد المفجعة.

ثالثاً- الحج دعوة للعلم والمعرفة، حيث يجتمع المسلمون في المشاعر المقدّسة يتفكرون ويتأملون ويتضرعون، مستجيبين لنداء الله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ (محمد، 24)، ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (الحشر، 21). وأما واقع المسلمين فهو أبعد ما يكون عن التقدم العلمي والتكنولوجي، ويكتفي الكثير من المسلمين عندما يبتكر الغرب أو يخترعون اختراعاً علمياً أو تكنولوجياً، يتفرغ هؤلاء بالبحث في ثنايا القرآن الكريم لعلّهم يجدون ما يُشير إلى ذلك التقدم العلمي، ليتغنوا فيما بعد بذلك بأن الرسالة الإليهة الخالدة تحدثت عن ذلك من قبل مئات السنين تحت عنوان الاعجاز العلمي للقرآن والسنة، والحال أن المسلمين يقبعون في واقع متخلف مزري.

وأشار إلى وجود حالة من الازدواجية عند المسلمين فيما يتعلق بالعلم والمعرفة والتطبيق، فيؤمنون بأفضل الرسالات، ويُقدّمون أفضل الأفكار، إلا أن الواقع الفعلي يحكي عكس النظرية، وهذه مصيبة كبرى، تحذّر النصوص الدينية من الوقوع فيها، يقول الرسول الأكرم : «نعوذ بالله من علم لا ينفع»، ويقول : «من ازداد علماً ولم يزدد هدىً لم يزد من الله إلا بعداً»، وقال الإمام علي : «لا تجعلوا علمكم جهلاً، ويقينكم شكّاً، إذا علمتم فاعملوا، وإذا تيقنتم فأقدموا»، وقال : «كفى بالعالم جهلاً أن يُنافي علمه عمله»، وقال : «العالم العامل بغير علمه الجاهل الحائر، بل الحجة عليه أعظم، والحسرة له ألزم، وهو عند الله ألوم».

وختم الشيخ الصفار الخطبة بالتأكيد على أنه لابد للإنسان أن يلتزم بالأفكار التي يطرحها، وبالقيم التي يؤمن بها، وإلا فإن ذلك مدعاة لهلاكه، فقد جاء عن رسول الله أنه قال: «رأيت ليلة أسري بي إلى السماء قوماً تُقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتك! يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون».

الخطبة الثانية

أكد الشيخ الصفار في الخطبة الثانية حاجة الإنسان الماسّة إلى رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة.

أما في الدنيا فإن استمرار النعم على الإنسان، ودفع النقم والبلاء، وحمايته مما يواجهه من أزمات وصعوبات في الحياة، مما لا يستطيع الإنسان بنفسه الابتعاد عنها، كل ذلك يجعل الإنسان في حاجة إلى رحمة الله وعطفه وامتنانه.

مؤكداً أن الإنسان في هذه الحياة وإن وفّر لنفسه مسببات المناعة الكاملة، فإنه يظل معرضاً للأخطار والصعوبات والمشاكل، إن لم يكن من نفسه فمن الآخرين من حوله، فكثير من الأمراض تنتقل عبر العدوى، وكثير من حوادث الطريق تحصل وإن كان هذا الإنسان ملتزماً بالقوانين والأنظمة المرورية، إلا أنه قد يتعرض له من لا يُعير لتلك الأنظمة حساباً. إضافةً إلى الكوارث الطبيعية التي تحصل، والتي لا يستطيع الإنسان تجاوزها إلا برحمة الله تعالى.

وأما في الآخرة فإن الحاجة للرحمة الإلهية هناك أجلى وأوضح، حيث لا يدخل الجنة أحدٌ إلا برحمة الله تعالى، ولم يستثن رسول الله أحداً من ذلك حتى نفسه، فقد ورد عنه أنه قال: «لن يدخل الجنة أحد إلا برحمة الله»، قالوا: ولا أنت؟ قال : «ولا أنا إلا أن يتغمّدني الله».

وأكد الشيخ الصفار أنه لا أحد يجزم بأن جميع ملفاته في الدنيا مرتبة لتكون أوضاعه في الآخرة على أكمل وجه، فمهما عمل الإنسان من أعمال البر والصلاح فإنه لن يتجاوز حد شكر بعض النعمة التي أنعم الله بها عليه، ولذلك لا غنى للإنسان عن رحمة الله تعالى وعفوه.

وأشار إلى كيفية التوفيق لرحمة الله تعالى، حيث أبان الله تعالى ذلك في كتابه المجيد حيث يقول: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (الأعراف، 56)، فطريق الرحمة الإلهية هو الإحسان، والإحسان يعني: فعل الإنسان ما ينفع غيره بحيث يصير الغير حسناً به، كإطعام الجائع. مؤكداً أن طريق الإحسان في الدنيا هو السبيل لتوفيق الله تعالى للإنسان في حياته، وخلاصه من عذاب الله تعالى يوم القيامة، والفوز برضوانه تعالى والجنة.

ولذلك وردت نصوص كثيرة عن أهل البيت تؤكد هذا الجانب المهم أن يتحقق في شخصية الإنسان، فعنه أنه قال: «الراحمون يرحمهم الرحمن يوم القيامة، ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء». وقال : «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله»، وقال الإمام علي : «أحسن يُحسن إليك، ارحم تُرحم»، وقال : «عجبت لمن يرجو رحمة من فوقه، كيف لا يرحم من دونه»، وقال : «من لا يرحم الناس منعه الله رحمته». وورد عن رسول الله أنه قال: «بنما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له»، وعن حذيفة بن اليمان عن رسول الله قال: تلقّت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم، فقالوا: أعملت من الخير شيئاً؟ قال: لا. قالوا: تذكّر. قال: كنت أداين الناس، فآمر فتياني أن يُنظروا المعسر، ويتجاوزا عن الموسر. قال الله –عز وجل: تجاوزوا عنه».

وأشار الشيخ الصفار أن حاجات الناس في المجتمع كثيرة، وأبواب الإحسان مفتحة، وما على الإنسان إلى أن يتوجه إلى هذا الطريق، فيسعى لأن يكون وجوده فاعلاً ومؤثراً في مجتمعه ومحيطه بحيث يشعر الناس بأهمية وجوده.

مؤكداً في ختام الخطبة أن الإحسان ينبغي أن يكون بدءً من الدائرة الصغيرة الوالدان، والزوجة والأولاد، وقد تباهى رسول الله بهذه الخصلة حيث قال: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي». وبعد ذلك على الإنسان أن يتوسع في دائرة الإحسان لتشمل الأقارب والجيران، ثم المجتمع والوطن حتى يصل للإنسانية جمعاء، وبعدها لجميع المخلوقات على وجه البسيطة، فكلما كانت دائرة الإحسان بالنسبة للإنسان أكبر فإنه يحظى بتوفيق الله تعالى وبرحمته بشكل أكبر.

والحمد له رب العالمين