الشيخ الصفار يُحذّر من تصاعد وتيرة الخلاف في الساحة اللبنانية

مكتب الشيخ حسن الصفار تركي مكي علي


حذّر سماحة الشيخ حسن الصفار من تصاعد وتيرة الخلاف في الساحة اللبنانية، مؤكداً أن المستفيد الأكبر من ذلك هي إسرائيل وأمريكا، وطالب الدول العربية بموقف حيادي لتطويق حالة النزاع، مشدداً على خطورة الانحياز لطرفٍ دون آخر.

وفي الوقت الذي أشاد فيه بإنجازات المقاومة الإسلامية في لبنان وموقفها الشجاع في مواجهة إسرائيل، أكد على ضرورة أن يكون الإعلام العربي والإسلامي مستوعباً لطبيعة الاختلاف في وجهات النظر، فمن حق كل واحد أن يتعاطف مع الجهة التي يُريد شريطة أن يكون التعاطف إيجابياً بعيداً عن حالة التمذهب، والتحريض، والتعبئة المضادة. وأكد أن الإصلاح هو المطلب الحقيقي، وهو الذي يخدم الساحة اللبنانية والمنطقة بكاملها.

وفي سياق آخر، تحدث الشيخ الصفار على أهمية التوازن في شخصية الإنسان، فكما أن الحياة بها أجواء السرور والفرح، فهي لا تخلو من لحظات الحزن والألم، وركّز حديثه عن الموت باعتباره حقيقة لا مفرّ منها، داعياً إلى اكتساب المعرفة حول هذه الحقيقة من مصادرها لكي يُوجد الإنسان في نفسه حالة التوازن، فيعيش حياةً مستقرة.

الخطبة الأولى

أكد الشيخ الصفار في خطبته الأولى للجمعة 4 جمادى الأول 1429هـ (9 مايو 2008م) أن حدوث حالات الاختلاف في المجتمعات البشرية أمرٌ طبيعي، مشيراً أن ذلك نتاج الاختلاف في الرأي أو التضارب في المصالح، مقارناً بين المجتمعات الراقية والمتقدمة وبين المجتمعات المتخلفة من حيث أسلوب التعامل مع الخلافات إذا وقعت، وذلك من خلال أمرين:

الأول: الوقاية والتقليل من الصراعات، حيث تسود المجتمعات المتقدمة قوانين وأنظمة وضوابط تحد حدوث الاختلافات، وعند حدوثها هناك دستور متفق عليه، وهناك مؤسسات يُرجع إليها حال الخلاف، مما يجعل تصاعد وتيرة الخلاف نادر جداً، فلا تكاد تجد في تلك المجتمعات أن الخلاف فيما بينهم وصل إلى مستوى الاقتتال والحروب الداخلية، رغم أنهم يعيشون الاختلاف فيما بينهم والتضارب في المصالح على أعلى المستويات. أما المجتمعات المتخلفة فهناك فرقٌ كبير بينها وبين تلك الدول، فهي لا تزال تعيش في ظلام اللانظام، وهذا مما يُسبب في تزايد وتيرة الخلاف في معظم الدول التي تُصنّف في هذا الاتجاه، ومع الأسف فإن الدول العربية والإسلامية هي ضمن هذا الصنف من المجتمعات.

الثاني: المبادرة لحل المشاكل والخلافات، بوجود جهات تهتم بتطويق حالات الخلاف وجعلها في الحدود المعقولة، بينما في المجتمعات المتخلفة فإنها تحتضن جهات تسعى لتوسيع دائرة الخلاف والنزاع، من خلال الانحياز لطرف دون آخر ضمن دائرة الخلاف والنزاع.

وحول الأوضاع الأخيرة في لبنان أشار الشيخ الصفار إلى وجود تيارين متنازعين سياسياً داخل الوسط اللبناني، وكل تيار يضم مختلف التوجهات من الشارع اللبناني، والتياران يُمثلان: السلطة من جهة والمقاومة من جهةٍ أخرى، والحلفاء المؤيدين لهذا الاتجاه أو ذاك.

وأكد على ضرورة ضبط هذا النزاع ضمن الحدود السياسية، مبدياً قلقه من الأحداث الأخيرة واصفاً إياها بالمرعبة، وأنها إن لم تُطوّق ستشعل المنطقة بأكملها، وأن المستفيد الأكبر من ذلك هي إسرائيل وحليفتها الكبرى الولايات المتحدة الأمريكية. مشيراً إلى أن إسرائيل في الوقت الذي تحتفل فيه بمرور ستين عاماً على احتلالها لأراضي ولمقدسات المسلمين، تعيش الفرحة فرحتين بالوضع الذي تجره إليها الأحداث الأخيرة في لبنان، ذلك لأن إسرائيل منذ قيامها لم تشعر بالخطر الحقيقي على وجودها إلا عندما واجهت المقاومة الإسلامية في لبنان، فدخول المقاومة في صراعٍ داخلي يُحقق للإسرائيليين أطماعهم وأهدافهم.

ومن جانب آخر فإن الأمريكيين يُريدون الهيمنة على المنطقة كلّها وليس هناك حكومة أو دوله تعتبرها أمريكا حليفاً لها من هذه المنطقة، فهم وإن أخضعوا بعض الحكومات لهيمنتهم ولتنفيذ مطامعهم، إلا أنهم في الوقت ذاته يُريدون السيطرة حتى على هذه الدول المساندة لهم، واشتعال نار الحرب في لبنان يُعتبر مكسباً كبيراً لهم، والتاريخ الماضي يكشف هذه الحقيقة.

ودعا الشيخ الصفّار إلى ضرورة أخذ العبرة من التجارب الماضية فالحرب العرقية الإيرانية، وحرب الخليج الثانية، وأحداث العراق، وما يجري الآن في لبنان، كلها مؤشرات لهدف واحد تسعى من أجله الولايات المتحدة الأمريكية وهو إخضاع المنطقة بأكملها لهيمنتهم وعنجهيتهم.
ودعا للبنانيين بأن يُفرّج الله محنتهم وأن يتجاوزا هذه الأحداث، لتعود الأمور في إطارها السياسي، ذلك لأن الانزلاق في وحل الحرب الداخلية يُمثل خسارة كبرى للبنانيين وللمنطقة كلها.

وأكد أن الدول العربية يجب أن تتحمل مسؤوليتها في تطويق المشكلة، محذراً من خطر الانحياز لطرف دون آخر، واصفاً ذلك كمن يصب الزيت على نار الفتنة، مضيفاً إن الانحياز ليس في مصلحة أحد، ولن تستفيد منه أي جهة سوى إسرائيل وأمريكا، مشدداً على ضرورة اتخاذ موقف الحياد من أجل استئصال الخلاف وعودته إلى وضعه الطبيعي.

وأكد الشيخ الصفار على موضوعٍ في غاية الأهمية، ووصفه بالخطير، وهو ضرورة عدم نقل تداعيات الخلاف والنزاع إلى المناطق الأخرى، مشيراً إلى أن بلادنا تتأثر سريعاً بالأحداث الإقليمية إلا أن ذلك ليس في مصلحة الوطن، وفي الوقت ذاته دعا إلى ضرورة توسيع أفق الإعلام ليستوعب مختلف التوجهات والآراء، فوجود صراع بين جهتين من شانه أن يخلق تعاطفا من قبل المؤيدين لهذا الطرف أو ذاك، وهذا حقٌ مشروع للجميع، وليس باستطاعة أحد أن يفرض سيطرته ورأيه على الآخرين. وفي الوقت ذاته دعا إلى ضرورة أن تبتعد الآراء المتعاطفة عن التحريض والتعبئة المضادة، مشدداً على ضرورة عدم مذهبة الصراع، فتلك هي أمنية العدو، وقد اتضح هذا الأمر بجلاء في أحداث العراق الأخيرة، حيث كانت أمريكا تدّعي وتُصّر أن الخلاف في العراق طائفي، إلا أنه تبين مع الوقت بطلان هذه الحجة وأن الصراع القائم سياسي، ولا أصل للمذاهب فيه، وإنما هي كانت بتحريض أمريكي.

واليوم تُمارس نفس اللعبة في الساحة اللبنانية، والمطلوب الوعي بمخططات العدو، وعدم إتاحة الفرصة لهدم البناء الوطني لأي بلدٍ عربي أو إسلامي.

وأكد الشيخ الصفار على ضرورة إتاحة الفرصة للتعبير عن الرأي الحر والمعتدل، مع تكافؤ الفرص، فالساحة في البلاد العربية تضم مختلف التوجهات، ولا يصح أبداً تجاهل أي توجه على حساب التوجهات الأخرى.

واختتم الشيخ الصفار الخطبة بالتأكيد على أن الدور الحقيقي المطلوب يكمن في الإصلاح، والإصلاح العادل، فآيات القرآن الكريم تدعوا لذلك بصريح النص القرآني: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
 

الخطبة الثاني

وفي الخطبة الثانية تحدث الشيخ الصفار على أهمية التوازن في شخصية الإنسان، فكما أن الحياة بها أجواء السرور والفرح، فهي لا تخلو من لحظات الحزن والألم، ورغم أن الإنسان لا يُعجبه الحديث عن الخوف والأخطار، ويرغب أن تكون حياته حافلة بالأجواء السعيدة، إلا أن ذلك ليس سليماً، وبعيداً عن التوازن الذي ينبغي أن يبحث عنه الإنسان.

فالإسلام أتاح للإنسان فرصة الاستمتاع بخيرات الدنيا، يقول تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بل إن هذه الخيرات والنعم التي أودعها الله تعالى في الكون مسخّرة للإنسان، يقول تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ. إلا أننا نُلاحظ أن هناك آياتٌ في القرآن الكريم تُلفت نظر الإنسان إلى حقائق أخرى يجب أخذها بعين الاعتبار، وهي تلك الحقائق التي تؤكد على أن الإنسان يسير إلى عالم آخر، وهذا العالم إما أن يكون نعيماً أبدياً أو عذاباً دائماً، أو مزيجاً بين العذاب والنعيم. وأن بداية هذا العالم تمر بمرحلة خطيرة جداً، وهي الموت.

وأشار الشيخ الصفّار إلى وجود بعض الاتجاهات التي تُخالف مسألة الوعظ الديني، مستنكرين الحديث عن الموت والنار والعذاب، وأن هذا الحديث يبعث الخوف في النفوس ويُرهب الناس. وحول هذا الأمر أكد الشيخ الصفار على أن الإفراط في الوعظ الديني في جانب العذاب والموت هو أمرٌ خاطئ، كما أن تجاهل ذلك أيضاً أمرٌ خاطئ، إذ كيف يُمكن تجاهل حقيقة واقعة لا محالة، بل لا يُمكن لأحد الفرار منها.

وهنا أكد الشيخ الصفار على ضرورة التوازن في طرح المواضيع المختلفة، فكما أن الناس تحتاج إلى زرع الأمل في النفوس، فإنها تحتاج أيضاً إلى التحذير من مخاطر المرحلة القادمة، ليعيش الإنسان حالة التوازن.

وركّز الشيخ الصفار الحديث عن الموت، فهو المحطة الفاصلة بين عالم الدنيا وعالم الآخرة، وهو حقيقة لا يُمكن إنكارها، أو تجاهلها، وآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وروايات أهل البيت مستفيضة بالحديث عن هذه الحقيقة، يقول تعالى: ﴿وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.

وأكد على ضرورة التفكير في هذه الحقيقة، بل وإعداد العدة لتلك اللحظات الصعبة من حياة الإنسان، فالإنسان الذي يمر بمرحلة الموت يشعر بما يدور حوله، ويكون في كامل وعيه، رغم أنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً ويراه الآخرون عاجزاً حتى عن الكلام.

وأشار إلى أن النافذة الوحيدة التي يُمكن من خلالها التعرف على هذه الحقيقة، والعالم الذي يأتي بعدها، هي القرآن الكريم، وأقوال الرسول وأهل البيت ، فقد ذُكر فيها تفصيل لتلك اللحظات، والأحداث التي تأتي بعدها، فهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول: ((فإنكم لو عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم، وسمعتم وأطعتم، ولكن محجوبٌ عنكم ما قد عاينوا، وقريبٌ ما يطرح الحجاب)).

وأشار إلى أن الأطياف قد تكون في بعض معانيها نذيرٌ وتنبيه للإنسان، رغم أنها ليست حجة. وقد رؤي أحدهم بعد وفاته فسئل: كيف وجدت الموت؟ قال: وجدت نفسي كالعصفور الحيّ، حين يُقلى على المقلى، لا يموت فيستريح، ولا ينجو فيطير.

وأكد في ختام خطبته أن الإنسان حينما يذكر الموت إنما من أجل أن يخلق التوازن في شخصيته، فيعرف كما أن في الحياة مُتعا ولذّات، فإنها لا تخلو من الصعاب، والمصائب، وأن بعض تلك الصعاب حتمي الوقوع، كالموت الذي هو أشدها.
فلابد من الاستعداد لتلك اللحظة الحتمية ولما بعدها بالعمل الصالح.

والحمد لله ربّ العالمين