رؤية حول التعايش المذهبي‮ (2ـ2)

 

تضمن البيان الهام الذي‮ ‬صدر من مكتب سماحة السيد السيستاني‮ ‬في‮ ‬النجف الأشرف بتاريخ ‮٤١ ‬محرم ‮٨٢٤١‬هـ‮ - ٣/ ٢ / ٧٠٠٢‬م رؤية عميقة لمعالجة المشكل الطائفي،‮ ‬تستحق الدراسة والاهتمام،‮ ‬وإني‮ ‬أوافق د.حمزة قبلان المزيني‮ ‬على ما ذكره حول هذا البيان في‮ ‬مقال له في‮ ‬جريدة‮ الوطن‮ ‬السعودية بتاريخ ‮٨ / ٢ ٧٠٠٢ ‬حيث قال‮: «وتأتي‮ ‬اهمية هذا البيان من صدوره‮  ‬عن هذه المرجعية الشيعية العليا التي‮ ‬يقلدها كثير من المؤمنين الشيعة في‮ ‬العالم،‮ ‬وهذا ما‮ ‬يوجب الترحيب به،‮ ‬والعمل على جعله اساسا لبداية عمل مخلص لوأد الفتنة بين المسلمين،‮ ‬كما‮ ‬يجب ان‮ ‬يبرز وينشر على نطاق واسع لما‮ ‬يتضمنه من المبادئ التي‮ ‬يمكن ان ترشد مواقف المسلمين الشيعة،‮ ‬وتدخل الاطمئنان على السنة،‮ ‬وتضع الخلاف بين المذهبين في‮ ‬مساره الحقيقي‮».‬«‬ومن هنا‮ ‬يجب ان نمسك بهذه اللحظة التاريخية التي‮ ‬يمثلها صدور هذا البيان من هذه المرجعية المرموقة،‮ ‬ونعمل تبعا لذلك على تعميمه على أوسع نطاق،‮ ‬في‮ ‬العراق خاصة الآن،‮ ‬وان‮ ‬يكون وثيقة‮ ‬يوعظ بها على منابر المساجد والحسينيات والمنتديات والصحف والندوات التلفازية والاذاعية،‮ ‬حتى‮ ‬يصل الى المسلمين جميعاً من المذهبين،‮ ‬بديلا لما تحفل به هذه المنابر كل‮ ‬يوم من الشحن الطائفي‮ ‬البغيض،‮ ‬ولا‮ ‬يقل عن ذلك اهمية ان‮ ‬يقابل هذا البيان ببيانات من علماء اهل السنة تماثله من حيث المرجعية والمحتوى‮».‬

وبالعودة الى الرؤية التي‮ ‬تضمنها البيان فان من اهم ملامحها ما‮ ‬يلي‮:‬

اولا‮: ‬اخذ الظروف العصيبة التي‮ ‬تمر بها الامة بعين الاعتبار،‮ ‬فهناك اكثر من وطن اسلامي‮ ‬يئن تحت وطأة الاحتلال كفلسطين والعراق وافغانستان،‮ ‬واوطان اخرى تحت طائلة التهديد بالتدخل والضربات العسكرية،‮ ‬وهناك حرب معلنة على رموز الاسلام ومقدساته،‮ ‬واستخفاف بوجود الامة وكرامتها،‮ ‬تحت‮ ‬غطاء مكافحة الارهاب‮.‬

ان من‮ ‬يعي‮ ‬هذه التحديات الخطيرة‮ ‬يجب ان‮ ‬يرفض اي‮ ‬اضعاف لجبهة الامة الداخلية،‮ ‬واي‮ ‬ارباك لساحتها بالنزاعات والخلافات‮.‬

ثانيا‮: ‬ان التنوع المذهبي‮ ‬وما‮ ‬يعنيه من اختلاف في‮ ‬بعض المعتقدات والاحكام ليس شيئا طارئا،‮ ‬ولا حادثا مستجدا،‮ ‬بل هو واقع عاشته الامة طيلة عهودها السابقة،‮ ‬فلا بد من قبول هذا التنوع والتعددية المذهبية،‮ ‬وهذا ما نصت عليه توصيات قمة مكة الاستثنائية بين قادة الدول الاسلامية،‮ ‬في‮ ‬العام المنصرم ‮٧٢٤١‬هـ‮ / ٦٠٠٢‬م‮.‬

ثالثاً‮: ‬إن أصول الدين وأركان العقيدة ودعائم الإسلام مورد اتفاق بين المسلمين،‮ ‬يشتركون بجميع مذاهبهم في‮ ‬الإيمان بها،‮ «فإن الجميع‮ ‬يؤمنون بالله الواحد الأحد وبرسالة النبي‮ ‬المصطفى‮ - ‬صلى الله عليه وآله،‮ ‬وبالمعاد،‮ ‬وبكون القرآن الكريم‮ - ‬الذي‮ ‬صانه الله من التحريف‮ - ‬مع السنة النبوية الشريفة مصدراً‮ ‬للأحكام الشرعية،‮ ‬وبمودة أهل البيت،‮ ‬ونحو ذلك مما‮ ‬يشترك فيها المسلمون عامة،‮ ‬ومنها دعائم الإسلام‮: ‬الصلاة والصيام والحج وغيرها،‮ ‬فهذه المشتركات هي‮ ‬الأساس القويم للوحدة الإسلامية‮...».‬

رابعاً‮: ‬إنه لا ضير في‮ ‬بحث الاختلافات العقدية والفقهية والتاريخية في‮ »‬إطار البحث العلمي‮ ‬الرصين‮« ‬وليس ضمن أساليب التعبئة والتهريج‮.‬

خامساً‮: ‬تحقيق التعايش السلمي‮ ‬على أساس الاعتراف والاحترام المتبادل،‮ ‬وحفظ الحقوق الإنسانية والوطنية،‮ ‬ونبذ المشاحنات والمهاترات المذهبية والطائفية‮. ‬والتأكيد على‮ »‬حرمة دم كل مسلم سنياً‮ ‬كان أو شيعياً،‮ ‬وحرمة عرضه وماله،‮ ‬والتبرؤ من كل من‮ ‬يسفك دماً‮ ‬حراماً‮ ‬أيا كان صاحبه‮».‬

باعث الدين والوعي

هذه الرؤية العميقة التي‮ ‬يقدمها السيد السيستاني‮ ‬للتعايش بين أبناء المذاهب الإسلامية،‮ ‬ليست فكرة أثارتها في‮ ‬ذهنه التطورات السياسية،‮ ‬بل تنطلق من جذور دينية راسخة،‮ ‬فهو خريج مدرسة حملت همّ‮ ‬الوحدة والتقريب بين المسلمين منذ عقود من الزمن،‮ ‬هي‮ ‬مدرسة أستاذه السيد حسين البروجردي‮ (‬توفي‮ ٠٨٣١‬هـ‮) ‬الذي‮ ‬كان المرجع الأعلى في‮ ‬الحوزة العلمية في‮ ‬قم،‮ ‬وهو الذي‮ ‬رعى تأسيس دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في‮ ‬القاهرة في‮ ‬ستينات القرن الميلادي‮ ‬المنصرم،‮ ‬وله آراؤه المعروفة على صعيد الانفتاح والتقريب‮.‬

وقد انضم السيد السيستاني‮ ‬إلى دروس السيد البروجردي‮ ‬عام ‮٨٦٣١‬هـ وتأثر به واستفاد من ملاحظاته ونظرياته الدقيقة العلمية في‮ ‬علمي‮ ‬الرجال والفقه‮.‬

إن السيد السيستاني‮ ‬في‮ ‬بحثه لموضوع الاجتهاد والتقليد‮ ‬يؤكد على أهمية اطلاع الفقيه الشيعي‮ ‬على آراء فقهاء السنة المعاصرين لائمة أهل البيت،‮ ‬وأن ذلك من مقومات الفقاهة والأعلمية،‮ ‬كما جاء في‮ ‬تعليقه على العروة الوثقى‮ (‬مسألة رقم ‮٧١).‬

وهو‮ ‬ينفي‮ ‬عن أهل السنة بغض أهل البيت،‮ ‬بل‮ ‬يراهم مؤمنين بمودتهم،‮ ‬كما جاء في‮ ‬بيانه بتاريخ ‮٤١ ‬محرم ‮٨٢٤١‬هـ‮ «فإن الجميع‮ ‬يؤمنون بالله الواحد الأحد‮.. ‬وبمودة أهل البيت‮».‬

وبناء عليه فالسنة ليسوا نواصب،‮ ‬لأن النواصب‮ «هم المعلنون بعداوة أهل البيت‮« ‬كما جاء في‮ ‬رسالته العملية الجامعة لفتاواه‮(منهاج الصالحين‮) ‬الجزء الأول ص‮٩٣١.‬

وهو‮ ‬يشيد برموز الجهاد من أهل السنة ويعتبر من‮ ‬يقتل منهم في‮ ‬سبيل الله شهيداً‮ ‬يدعو له بالرحمة والمغفرة،‮ ‬كما جاء في‮ ‬بيان مكتبه حول استشهاد الشيخ أحمد‮ ‬ياسين بتاريخ ‮٠٣ ‬محرم ‮٥٢٤١‬هـ‮. ‬

وحينما بلغه اقتحام بعض الجهلاء من الشيعة في‮ ‬بعض مناطق العراق لبعض مساجد اهل السنة وطرد ائمة الجماعة منها،‮ ‬اصدر السيد السيستاني‮ ‬فتوى في‮ ‬الاجابة على سؤال عن الموضوع،‮ ‬بتاريخ ‮٨١ ‬صفر ‮٤٢٤١‬هـ بالنص التالي‮: «هذا العمل مرفوض تماما،‮ ‬ولا بد من رفع التجاوز وتوفير الحماية لامام الجماعة واعادته الى جامعه معززاً‮ ‬مكرماً‮«.‬

بل انه امر بالاسهام في‮ ‬بناء مساجد اهل السنة واعادة تعميرها كما نقل ولده السيد محمد رضا السيستاني،‮ ‬حسبما اوردته جريدة‮ الحياة‮ ‬بتاريخ ‮٨١ ‬ابريل ‮٣٠٠٢‬،‮ ٦١ ‬صفر ‮٤٢٤١.‬

وهو‮ ‬يبرئ اهل السنة من جريمة الاعتداء على مقام الامامين العسكريين بسامراء،‮ ‬كما جاء في‮ ‬بيانه حول الذكرى السنوية بتاريخ ‮٣٢ ‬محرم ‮٨٢٤١.‬

لذا‮ ‬يمكن القول إن رؤية سماحة السيد السيستاني‮ ‬بما‮ ‬يمثله من مرجعية عليا،‮ ‬ومواقفه الوحدوية الداعية للتسامح والتعايش المذهبي،‮ ‬تشكل افضل رسالة دعم لخط الاعتدال العام في‮ ‬الساحة الشيعية‮. ‬فلا احد‮ ‬يستطيع المزايدة عليه،‮ ‬ولا اتهامه بالتخاذل في‮ ‬نصرة العقيدة،‮ ‬او تقديم التنازلات لمصالح سياسية،‮ ‬ونطمح من سماحته الى المزيد من هذه الرؤى المنفتحة،‮ ‬والمواقف الرسالية،‮ ‬ونأمل فيما‮ ‬يوازيها ويماثلها من كبار علماء السنة،‮ ‬حتى تستطيع الامة تخطي‮ ‬هذه المحنة والفتنة الطائفية العمياء،‮ ‬وليحقق هذا الجيل المسلم حلم الوحدة والتقريب ان شاء الله‮.‬

صحيفة الأيام البحرينية، الجمعة 9 مارس 2007م