في رابع ليالي عاشوراء: الإمام الحسين و حركته السلمية

مكتب الشيخ حسن الصفار

في ثلاثة محاور تحدّث سماحة الشيخ حسن الصفّار في الليلة الرابعة من المحرّم الحرام عن الحركة السلمية التي خاضها الإمام الحسين ، منطلقًا في ذلك من الآية القرآنية الكريمة: ﴿يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافّة ....

ركّز في المحور الأول على الأهمية التي يوليها الإسلام في نشر ثقافة السلم الأسري والاجتماعي، مستشهدًا ـ في ذلك ـ بالآداب الإسلامية التي تشجّع على الألفة والرحمة والمحبّة بين أفراد الأسرة والمجتمع كافّة. ومن أبرز هذه الآداب والتوجيهات ما يدعو إليه الإسلام من الرأفة باليتيم والاعتناء به وعدم جرح مشاعره. وكذلك ما يدعو إليه من الاهتمام بطبقة المحرومين في المجتمع، هذه الشريحة التي تكون البيئة الأبرز في ظهور حالات العنف والإجرام.

وفي هذه الناحية شدّد سماحته على أهمية زرع هذه الثقافة خصوصًا في هذا العصر الذي تشيع فيه ثقافة العنف والتمحور حول الذات والتركيز على تهييج الشهوات والغرائز.

وفي المحور الثاني أشار إلى أن ثقافة الإسلام تأمر المجتمع بالتعاطف مع المظلوم وإدانة الظالم. وبالتالي هي ثقافة تدعو إلى محاربة كافّة مظاهر العنف والإجرام، لينطلق من ذلك إلى التركيز على ما بدأ يعيشه مجتمعنا من ظهور حالات العنف والإجرام والاعتداء على الآخرين، وهي ظاهرة تدعونا جميعًا إلى إعلان حال الطوارئ للسيطرة عليها.

وفي مجال اقتراح الحلول ذكّر بأهمية وجود كثرة من المؤسسات الشبابية الاجتماعية تساهم هذه المؤسسات في ملء أوقات الشباب فيما هو مثمر ومفيد، وإلى ضرورة دعمها واحتضانها اجتماعيًّا ورسميًّا.

وفي المحور الثالث لفت سماحة الشيخ إلى أن حركة الإمام الحسين كانت في حقيقتها حركة ثورة على واقع الظلم والجور الذي تمثّله خلافة يزيد، فكانت حركة إصلاحية توعوية للأمة تدعوها إلى نبذ جميع أشكال الظلم، ومن أبرزه أن يتحكّم فيهم من يضطهدهم.

وهذا نص المحاضرة:

قال الله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا أدخلوا في سلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان أنه لكم عدون مبين[1]  الصدق الله العلي العظيم.

يتركز حديثنا هذه الليلة ـ من خلال الآية ـ في ثلاثة محاور:

المحور الأول: ثقافة السلم وثقافة العنف

الإنسان باعتباره مدنياً يعيش ضمن المجتمع، فإن الأجواء التي يتربي فيها، والثقافة التي يعيش ضمنها توجه نفسه وتؤثر على سلوكه. فإذا نشأ في مجتمع تسوده الرحمة والمحبة والتكافل فإن ذلك يهيؤه نفسياً لكي يسلك طريق السلم والمحبة والتعامل الصحيح في حياته. أما إذا نشأ في أجواء قاسية جافة، أو كانت الثقافة السائدة في مجتمعه ثقافة تشجع على العنف، فإن هذا المجتمع ينتج أشخاصاً متمردين وعنفيين.

ولهذا نجد أن الإسلام يحرص على أن يوفّر أجواء اجتماعية محاطة بالرحمة والمحبة، فيُشجّع الوالدين على أن يغمرا الطفل بالعطف والحنان، وقد ورد في الأحاديث أن تقبيل الأب لولده له فيه أجر، ففي الحديث عن رسول الله قال: «من قبّل ولده كتب الله له حسنة»[2] ، وعنه أنه قال: «أكثروا من قبلة أولادكم فإن لكم بكل قبلة درجة في الجنة»[3] .

وفي روايةٍ أن أحدهم رأى رسول الله وقد أجلس الحسنين على فخذيه وكان يقبل هذا تارة ويقبل هذا أخرى، فقال: يا رسول الله إن لي عشرة من الأولاد ما قبلت واحداً منهم، فقال رسول الله : «ما عليّ منك أن نزع الله الرحمة منك»[4] ، وفي الوسائل[5]  قال : «من لا يرحم لا يرحم».

فينبغي أن يعيش الولد في ظل المحبة والحنان منذ صغره.

المجتمع والسلم:

والإسلام يأمر كل أبناء المجتمع أن يعطفوا على الصغير وهذه من آداب الإسلام ومن توجيهاته السامية، كما قال رسول الله : «وقروا كباركم وارحموا صغاركم»[6] .

إنه يُريد للإنسان أن يعيش في مجتمع تسوده الرحمة وليس فقط ضمن العائلة، وبذلك تنعكس هذه التربية على سلوكه فتراه يحترم هذا ويُقدّر ذاك، ويصل أرحامه، ولا يُؤذي جيرانه. وفي الإسلام تعاليم خاصة باليتيم لأنه فقد أحد الوالدين باعتبارهما الجهة التي تغمره بالعطف والرحمة بشكل أساسي, لذا يأمر الإسلام بأن تكون لليتيم معاملة خاصة، يقول تعالى: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ[7] ، لكي يتربى هذا اليتيم في ذات الأجواء التي يُشجّع عليها الإسلام، وهي أجواء الرحمة والسلام.

أما إذا تربى الإنسان في أجواء قاسية جافة، لا أحد حوله، ولا أحد يعطف عليه، فهذا الإنسان لا يُمكن أن تتوقّع منه إلا ذات الطريقة التي عاشها في صغره، فقد يكون عنده حس انتقام من المجتمع ومن المحيط حوله، يتعامل بنفس الجفاف والقسوة.

ولهذا تجد الإسلام يحذر من وجود حالات الفقر والحاجة والظلم في المجتمع لما تنتجه هذه الحالات من ردات فعل سلبية تجاه المجتمع، ولهذا ورد في الحديث عن رسول الله قال: «كاد الفقر أن يكون كفرا»[8] . كما أن لأبي ذر الغفاري كلمة جميلة يقول: إذا ذهب الفقر إلى بلدٍ قال له الكفر خذني معك[9] .

تحية الإسلام:

ولأن الإسلام يحرص على أن يعيش الإنسان في ظل ثقافة السلم والسلام، وهذا أمرٌ واضحٌ جداً، لذا شرّع بدأ من تراه بقول: (السلام عليكم ورحمة الله) جاعلاً من هذه التحية أجلى الصور لذلك، فقد ورد عن رسول الله أنه قال: «إن السلام اسم من أسماء الله تعالى فأفشوه بينكم»[10] ، وورد عنه : «أبخل الناس من بخل بالسلام»[11] . وجاء عن أبي جعفر الباقر أنه قال: «إنّ الله عز وجل يحب إفشاء السلام»[12] ، وتعاليم الإسلام تشجّع على البدء بالسلام، حيث جعلته مستحبا، ورد عن رسول الله أنه قال: «السلام تطوع والرد فريضة»[13] ، وبالسلام يُرسل الإنسان رسالة اطمئنان لمن يلتقيه وكأنه يقول له: لن تنال مني إلا خيراً.

بين الأنانية وحب الغير:

وهكذا يوفر الإسلام هذه الثقافة للإنسان بحيث يكون مهيأ للسلم والتعاون مع الآخرين في حياته، فتدفعه هذه الثقافة للتفكير في الآخرين لا أن يركز على نفسه، وفي المقابل فإن الثقافة التي تنتج العنف هي ثقافة تجعل الإنسان أنانياً متمحوراً حول ذاته ورغباته مصالحه، ولا يهمه أمر الآخرين، هذه الثقافة تهيئ أرضية العنف لدى الإنسان، لأنه لا يبالي بالآخرين ويهتم بنفسه فقط. وقد تكون مصالحه تقتضي منه أن يعتدي على الآخرين.

وهنا مسألة مهمة: ثقافة الإسلام والتربية الإسلامية تُربي الإنسان على أن لا يهتم بنفسه فقط، إذ عليه أن يهتم بالآخرين: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ[14] ، إي الإحسان إلى الآخرين. وفي الحديث عن رسول الله أنه قال: «الخلق عيال الله عز وجل فأحبهم إليه أنفعهم لعياله»[15] .

وهذه الثقافة توجه الإنسان إلى أن أهم لذة تحققها ليست تحقيق رغباتك الشخصية المادية، بل هي تلك اللذة المعنوية التي تكمن في خدمتك الآخرين.

وقد سئل أحد العلماء الصالحين: إذا لم يبقَ من عمرك إلا ساعة واحدة ففيما كنت تصرفها؟

قال: أجلس على باب داري انتظر صاحب حاجة فأقضي له حاجته. وهذه هي تعاليم الإسلام.

وفي القرآن الكريم آياتٌ كثيرةٌ توجّه الإنسان للاهتمام بحاجات الآخرين، بل يحض القرآن على الإيثار ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَو كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ[16] ، ويروي لنا من سيرة أهل البيت أروع الأمثلة في ذلك، يقول تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً[17] ، هذه الآية تحكي القصة المعروفة[18]  عن أهل البيت ، عائلة كاملة صائمون: علي وفاطمة والحسنان وخادمتهم، وعند الإفطار يقدّمون كل الطعام لمسكين ويبيتون جوعاً، وفي اليوم الثاني يأتيهم يتيم، وفي اليوم الثالث يأتيهم أسير، وفي الثلاثة أيام يقدمون طعامهم إلى آخرين إيثاراً منهم، ولذا خلّد القرآن هذه الحادثة العظيمة.

وفي التاريخ الإسلامي أحداث كثيرة تُجسّد هذه الثقافة، ففي إحدى المعارك الإسلامية، قال أحدهم: أتيت أتفقد الجرحى وكان عندي ماء، فأتيت ابن عمي وقلت له: أسقيك، فأشار برأسه أن نعم فإذا أنا برجل يقول: آه! آه!

فأشار إلي أن انطلق إليه، فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم. فسمع آخر يقول: آه! آه!

فأشار أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات. فرجعت إلى الثاني فإذا هو قد مات. فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات[19] .

وهكذا نجد عمق الإيثار لدى أصحاب رسول الله .

وهذه الثقافة تجعل الإنسان يتوقف أمام الاعتداء على الآخرين، سواءً على دمائهم أو على أرواحهم أو على أموالهم. ففي الحديث عن رسول الله أنه قال: «المسلم من سلم الناس من يده ولسانه»[20] .

من جانب آخر فإن ثقافة القرآن تعتبر الاعتداء على شخص واحد اعتداءٌ على البشرية كلها: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَو فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً[21] . وفي الحديث عن رسول الله أنه قال: «لزوال الدنيا جميعاً أهون عند الله من دم يسفك بغير حق»[22] .

فهذه الثقافة تربي على رعاية حقوق الآخرين وعدم الاعتداء عليهم قال تعالى: ﴿وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (المائدة، 87)، وورد في الحديث عن أبي عبدالله أنه قال: «من شرك في دم حرام بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينية: آيس من رحمة الله»[23] .

وفي الرواية أن النبي بعد إكمال أعمال منى وقف بالمسلمين وقال: «يا أيها الناس أي يوم هذا؟» قالوا: يوم حرام، ثم قال: «يا أيها الناس فأي شهر هذا؟» قالوا: شهر حرام، قال: «أيها الناس أي بلد هذا؟» قالوا: بلد حرام، قال: «فإن الله عز وجل حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه»[24] .

فهذه هي الثقافة التي تربي الإنسان حتى يمتنع عن العدوان على الآخرين في المقابل هناك ثقافة تركز على ذاتية الإنسان.

ثقافة العصر المادية:

ومن المؤسف أن البشرية اليوم تعيش في ظل ثقافة تنتج العنف وتربي على العنف، هذه الثقافة المادية التي تركز على محورية الذات وتحرّض شهوات الإنسان وغرائزه، وتوفر عبر الإعلام مختلف الوسائل التي تدعم هذا التوجه.

وهذه الثقافة التي تمجد القوة وتمجد الغلبة, وتغرس في الناس هذا التوجه، حتى الأطفال، من خلال أفلام الكرتون والتي في غالبها ثقافة عنف.

إضافةً إلى أن مناظر العنف والدماء والقتل ما عادت مستنكرة كما في الماضي، فيومياً وفي نشرات الأخبار يرى الإنسان الأشلاء والجثث والقتلى والدمار, هذه المناظر التي كان الإنسان في الماضي ينهار بمجرد أن يسمع عنها لا أن يراها، أصبحت اليوم أمراً مألوفاً وطبيعياً عند الصغار والكبار. هذه المظاهر تنتج العنف وتروج له في المجتمعات. ولذلك تعاني مختلف المجتمعات من العنف والجريمة ففي أمريكا في كل ثانيتين ونصف تقع جريمة، ويوجد في أمريكا أكثر من 5 آلاف عصابة إجرامية منظمة, وفي إحصائية أجريت على مجموعة كبيرة من الأمريكيين، وقد سئلوا: ما أبرز المشاكل التي تواجهونها: فكان ما نسبته 21% أجابوا: جرائم العنف. و40 % من الأمريكيين يضطرون إلى تغيير نمط حياتهم خوفاً من الجرائم والمجرمين.

ومجتمعنا باعتباره جزء من هذا العالم وتصله هذه الثقافة وأنماط السلوك المختلفة، لذلك أصبحنا نعيش مثل هذه المشكلة في مجتمعاتنا.

المحور الثاني: العنف وتهديد الأمن الاجتماعي

حينما تصبح حالات العنف طبيعية أمام الناس، وحينما تمجد أصحاب القوة بدلاً من الوقوف مع المظلوم، هنا يُهدد أمن المجتمع. في حين أن ثقافة الإسلام تأمر المجتمع بالتعاطف مع المظلوم وإدانة الظالم. والقرآن الكريم يُخلّد إدانة لظلم وقع قبل آلاف السنين، لاعتداء وقع على مجموعة مؤمنة بغير حق، يقول تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ[25] . هكذا يُبرز القرآن هذه الحادثة وبهذا التهويل.

التعاطف مع المظلومين:

ونحن إذ نذكر المآسي والمظالم والمصائب التي وقعت على أهل البيت إنما من أجل ترسيخ هذه القاعدة وهي: التعاطف مع المظلومين.

وفي المقابل هناك ثقافة تُمجّد الظالمين، ولا تستنكر لما يقومون به من ظلم، وعند موت الظالم تكفيه الشهادتان!

وفي كتب الرجال نجد ذلك واضحاً، ففي كتاب التهذيب، مثلاً، هناك روايات عن عمر بن سعد، وفي الترجمة يقال عنه: عمر بن سعد تابعي ثقة قتل الحسين[26] . وكأن جريمة قتل الإمام الحسين لا تعني شيئاً.

أمن مجتمعنا... إلى أين؟

الأمن الاجتماعي موضوعٌ مهم جداً فالإنسان يتطلع للعيش في مجتمع يأمن فيه على نفسه, وماله وعرضه, وهذا أهم معلم لسعادة الإنسان. ففي رواية عن الإمام الصادق يقول: «النعيم في الدنيا الأمن، وصحة الجسم، وتمام النعمة في الآخرة دخول الجنة»[27] .

في الماضي كان الأمن في مجتمعنا متوفراً، فالناس يأمنون على أنفسهم وبيوتهم وعيالهم وأموالهم، نعم، لم يكن مجتمعنا ملائكياً، فقد تحدث جرائم وسرقات واعتداءات، وهذه طبيعة المجتمعات. ولكن هناك فرق بين أن تكون هذه الحالات فردية محدودة وبين أن تكثر وتقترب أن تكون ظاهرة.

ويستغرب الإنسان مما يسمعه بين آونة وأخرى من حالات الاعتداء على النفوس والأعراض والأموال، حتى لا نكاد نصّدق أن ما يحصل بالفعل هو في مجتمعنا الذي كنا نفتخر به، ونتباهى به أمام الآخرين. والحوادث في هذا الإطار كثيرة ومنها الاعتداء على النساء بسرقة حقائبهن وإيذائهن، وكذلك الاعتداء على الأطفال بالاختطاف، وما شابه ذلك، وأيضاً الاعتداء على العمالة الوافدة والتي كانت إلى وقت قريب تشعر بالاطمئنان لكونها تعمل في هذه المنطقة، وبعض هذه الجرائم تنقلها وسائل الإعلام والصحف المحلية، مما يؤكد أننا نعيش في وضع خطير ومرعب، ويجب أن نعلن جميعاً حاله الطوارئ، ونعيد النظر في حياتنا وثقافتنا وبرامجنا ومناهج تعليمنا، وكذلك أداء الأجهزة الأمنية والقضائية، فهذه الظاهرة بدأت تنموا, وقد سألت أحد المسئولين في الجهات الرسمية، هل ما ينشر في الجرائد أمر مضخم؟ أجابني: بل إن ما يُنقل جزءٌ مما يحدث في المجتمع!

وتُشير التقارير الدولية أن أفضل بلد في العالم نجحت في تخفيض نسبة الجريمة هي اليابان, فما هو السبب؟

تقول الدراسات يكمن السبب في كثرة المؤسسات الشبابية في اليابان حيث يوجد (540) ألف مؤسسة تهتم بالشباب، واحدة من تلك المؤسسات اسمها «وحدة الإرشاد والتوجيه للشباب»، فيها (126) ألف متطوع من الشباب، وهناك مؤسسة المرأة للتأهيل، تخص النساء فقط، وفيها (360) ألف إمرأة متطوعة.

فوجود المؤسسات التي تعني بالشباب وتستقطبهم أمرٌ ضروري، ويُساعد على تخفيف حدّة الجرائم في المجتمع. وعلينا أن نغتنم فرصة تواجد الشباب في المجالس الحسينية لتوجيه الشباب وتشجيع المجتمع لمثل هذه المؤسسات. كما أن علينا أن لا نُسرّ كثيراً بما يحدث في عاشوراء من تفاعل، إذ أن هذا التفاعل يُحملنا مسؤولية كبيرة وهي أن لا نغفل عمّا يجري في المجتمع فالكل مسؤول، والأجهزة الأمنية مطالبة ببذل المزيد من الجهد، صحيح أنها انشغلت بمواجهة الإرهاب، ولكن المواطنين يتوقعون دوراً أكبر في حماية الأمن الاجتماعي. والجهات القضائية كذلك عليها أن تكون أكثر صرامة في إصدار الأحكام، لأن العابثين إذا شعروا بوجود تساهل فإن ذلك يدفعهم لممارسة الجرائم وعدم الاكتراث بالعقوبة.

فينبغي أن يكون الردع بالمستوي المطلوب والذي يستحقه المجرم، لا أن تكون شفقة بالمجرمين، ونسمح للوساطات، فنحن في مرحلة نحتاج فيها للصرامة. نسأل الله تعالى أن يحفظ لنا أمننا في مجتمعنا وبلادنا، اللهم آمنا في أوطاننا، لا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا.

 

المحور الثالث: التزام الإمام الحسين بالسلم في نهضته الحسينية

لماذا تحرك الإمام الحسين ؟ هل في نهضة مخالفة لمنهج السلم؟

في الواقع الإمام الحسين إنما تحرك حفاظاً على سلم الأمة، وقد رأى أن سلطة بني أمية لا تُقدّم للناس أمناً، بل إنها تعتدي عليهم، وقد قال فيهم أمير المؤمنين علي أبي طالب : «والله لا يزالون حتى لا يدعوا لله محرماً إلا استحلوه، ولا عقداً إلا حلوه. وحتى لا يبقى بيت مدر، ولا وبر، إلا دخله ظلمهم ونبا به سوء رعيهم، وحتى يقوم الباكيان يبكيان: باك يبكي لدينه، وباك يبكي لدنياه»[28] .

 

بين الخلافة والملك:

هذه الأمة التي كانت تعيش في ظل الخلافة الراشدة، والتي انتهت باستشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وفجأة يُصبح يزيد أميراً للمؤمنين!

الإمام الحسين التزم بوثيقة الصلح التي عقدها الإمام الحسن مع معاوية، رغم نكث الطرف الآخر للوثيقة، ورغم كل التلاعب الذي حصل في بيت مال المسلمين، وقد أعلن ذلك معاوية حينما خاطب المسلمين بقوله: ما قاتلتكم لكي تصوموا ولا لتصلوا ولا لتزكوا ولا لتحجوا, وأعلم أنكم تفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، ولقد مكنني الله من رقابكم وأنتم كارهون.

وأشير هنا إلى كتاب جميل لمفكر إسلامي وداعية معروف وهو الشيخ أبو الأعلى المودودي وهو من كبار علماء المسلمين في هذا العصر، حصل على جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام سنة 1997م. هذا العالم لديه كتاب مهم جداً اسمه (الخلافة والملك)[29] ، يتحدث فيه عن الخلافة التي انتهت بمقتل الإمام علي ويقارنها بالملك العضوض الذي بدأته بنو أمية. ويُشير أبو الأعلى في كتابه إلى أن الدولة إنما تأسست بسبب الأرضية التي هيأتها البطانة التي أحاطت بالخليفة عثمان.

 وقد انزعج البعض من هذا الكتاب بسبب تعرضه للصحابة، وقام الشيخ المودودي برد مفصل ألحقه في الطبعة الثانية وهي المتداولة، أشار فيه إلى أن احترام الصحابة، لا يمنع أن نأخذ الدروس من حياتهم، وأن لا نسكت على الأخطاء، فبسكوتنا تُصبح شرعاً يسير عليه الناس.

وأيضاً هناك كتاب للشيخ محمد قطب وهو عالم معروف من مصر أقام في المملكة وشارك في إعداد المناهج الدينية، عنوان كتابه: (كيف نكتب التاريخ الإسلامي)[30] ،يقول: مما لا شك فيه أن التاريخ السياسي للمسلمين هو أسوأ ما في تاريخهم كله، ومما لا شك فيه أنه قد وقعت انحرافات كبيرة في المجال السياسي عن الخط الإسلامي الأصيل، وأن هذه الانحرافات قد وقعت في وقت مبكر من تاريخ الإسلام لم يكن ينبغي أن تقع فيه.

والعجيب في أمر يزيد أنه كان يُمارس انحرافه باسم الإسلام، ويقول ابن كثير في (البداية والنهاية)[31]  عن يزيد بن معاوية: فيه خصال محمودة من الكرم والحلم والفصاحة والشعر والشجاعة وحسن الرأي في الملك، وكان فيه أيضاً إقبال على الشهوات، وترك بعض الصلوات في بعض الأوقات، وإماتتها في غالب الأوقات.

ويروي - ابن كثير – أيضا: أن يزيد كان قد اشتهر بالمعازف وشرب الخمر والغنا والصيد واتخاذ الغلمان والقيان والكلاب والنطاح بين الكباش والدباب والقرود، وما من يوم إلا يصبح فيه مخموراً، وكان يشد القرد على فرس مسرجة بحبال ويسوق به، ويلبس القرد قلانس الذهب، وكذلك الغلمان، وكان يسابق بين الخيل، وكان إذا مات القرد حزن عليه[32] .

هذا هو أمير المؤمنين!

الهدف الأسمى لنهضة الحسين:

ونحن إذ نتحدث عن هذا الأمر إنما لنبين، السبب الحقيقي وراء نهضة الإمام الحسين.

وأعظم مما سبق عندما أراد معاوية أن يجعل يزيداً ولياً للعهد، خاطبه قائلاً[33] : يا بنيّ ما أقدرك على أن تصل حاجتك من غير تهتك يذهب بمروءتك وقدرك، ثم أنشده:

انصب  نهارك  في  طلاب  iiالعلا
حتى    إذا   الليل   أتى   iiبالدجا
فباشر     الليل     بما    iiتشتهي
كم     فاسق     تحسبه     iiناسكا
غطى     عليه    الليل    iiأستاره
ولذة        الأحمق       iiمكشوفة





واصبر على هجر الحبيب القريب
واكتحلت  بالغمض  عين  الرقيب
فإنما     الليل    نهار    iiالأريب
قد   باشر   الليل   بأمر   عجيب
فبات  في  أمن  وعيش  iiخصيب
يسعى   بها   كل   عدو   iiمريب

وحتى أن زياد بن أبيه عندما شاوره معاوية في أمر يزيد أشار عليه أن يتمهل عسى أن تتُغير سلوك يزيد فيكون بالإمكان تسويقه، تقول الرواية التاريخية التي يرويها اليعقوبي في تاريخه[34]  أن ابن زياد قال لمعاوية: ما يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد، وهو يلعب بالكلاب والقرود، ويلبس المصبغ، ويدمن الشراب، ويمشي على الدفوف، وبحضرتهم الحسين بن علي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، ولكن تأمره، ويتخلق بأخلاق هؤلاء حولاً وحولين، فعسينا أن نموه على الناس.

 هذا هو يزيد ملاعب القردة، وشارب الخمر، والمعلن للفسق، وقاتل النفس المحرّمة، وفي الأخير يُصبح أميراً للمؤمنين، ولقد أجاد شاعر أهل البيت السيد جعفر الحلي حيث يصف الحالة بقوله:

لم أدر أين رجال المسلمين مضوا

العاصر  الخمر  من لؤم iiبعنصره


وكيف   صار  يزيدٌ  بينهم  iiملكا

ومن  خساسة  طبعٍ يعصر الودكا

لذلك أعلن الإمام الحسين موقفه من أول يوم في دار الوليد حين طلب منه الوليد بن مروان أن يبايع, عندها قال : «أيها الأمير إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم الله ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله»[35] .

وبالفعل أصرّ الإمام على موقفه، ولكن يزيد لم يستسغ ذلك، فأمر بفرقةٍ أن تمضي إلى مكة وأن تقتل الإمام الحسين ولو كان متعلقاً بالكعبة.

الحسين والنهضة السلمية:

وعندما علم الإمام الحسين بالأمر تحرّك لتوعية الأمة لكي تتحمّل مسؤوليتها، ثمّ إنه أعلن حركته السلمية للتغيير دون أن يستخدم سلاحاً وقال كلمته المشهورة التي تبين سبب خروجه: أني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي[36] .

وفي أكثر من مورد يعلن الإمام الحسين أن حركته سلمية وليست للحرب، ومن ذلك موقفه مع الحر بن يزيد الرياحي والذي قدم بألف فارس قد أنهكم العطش[37] ، وقفوا أمام الإمام في وقت الظهيرة، وكان الوقت شديد الحر، ورآهم الإمام وقد اشرفوا على الهلاك من شدة الظمأ، وكانت فرصة سانحة للإمام أن يقاتلهم ويستولي على عتادهم، لكنه رقّ لحالهم، وغض النظر عنهم، وهو يعلم أنهم جاؤوا لقتاله وسفك دمه، وقد أشار عليه بعض أصحابه بذلك، إلا أن نهج الإمام ليس كذلك، وذلك لأن شعاره : «إني أكره أن أبدأهم بقتال»[38] ، ثم أمر أصحابه أن يسقوهم وأن يرشفوا الخيل.

من هنا يؤكد الإمام الحسين للأمة أنه لا ينبغي استخدام العنف والسلاح حتى في التغيير السياسي لأن ذلك ليس في مصلحة المجتمع. وقد تحدث علماؤنا وفقهاؤنا عن هذا الجانب، ومن أبرزهم، المرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي (رحمة الله عليه)، وكتب في هذا المجال كتب عدة حول (اللاعنف في الإسلام)[39]  وحول (السلم والسلام)[40] ، وأكد فيها أنه لا مجال لفرض الرأي والتسلّط على الناس بالسلاح والقوة، وأن هذه الممارسات ليست من الإسلام في شيء.

ومع الأسف في عصرنا هذا شوّهت سمعة الإسلام والمسلمين بسبب تلك التصرفات الإرهابية التي لا تُريد للإسلام ولا للمسلين خيراً، وبسببها فقدت الأمة أمنها واستقرارها، ولم يبق بلدٌ من بلاد المسلمين إلا وتضرر منها.

نسأل الله تعالى أن يقي الأمة شر الفتن، إنه على كل شيءٍ قدير.

[1]  البقرة آية 208.
[2]  الوسائل ج21 ص485 ح27655.
[3]  الشيخ الطبرسي: مكارم الأخلاق ص220
[4]  مكارم الأخلاق ص220.
[5]  الوسائل ج21 ص485 ح27657.
[6]  البحار ج93 ص357.
[7]  الضحى آية 9.
[8]  الكافي ج2 ص307.
[9]  مغنية: الشيخ محمد جواد، الشيعة في الميزان ص364.
[10]  جامع احاديث الشيعة ج20 ص118 ح12.
[11]  مستدرك الوسائل ج8 ص358 ح1
[12]  جامع احاديث الشيعة ج20 ص116 ح1.
[13]  وسالئل الشيعة ج12 ص58.
[14]  النحل آية 9.
[15]  المجازات النبوية: الشريف الرضي ص241.
[16]  الحشر آية 9.
[17]  الإنسان آية 8-9.
[18]  لتفاصيل القصة يراجع تفسير مجمع البيان ج10 ص209، وبحار الأنوار ج35 ص245، بالإضافة إلى كتب أسباب النزول.
[19]  تفسير القرطبي ج18 ص28.
[20]  صفات الشيعة للشيخ الصدوق، ص31.
[21]  المائدة آية 32.
[22]  تهذيب الكمال ج9 ص237، وكنز العمال ح 39947.
[23]  المتقي الهندي: علي، كنز العمال، حديث رقم 39935.
[24]  الخصال للشيخ الصدوق ص487.
[25]  البروج آية 1-4.
[26]  لقد استنكر بعض رجال الحديث توثيق عمر بن سعد، منهم ابن معين حيث قال: كيف يكون من قتل الحسين ثقة؟، تهذيب التهذيب ج7 ص396.
[27]  معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص408.
[28]  نهج البلاغة شرح محمد عبده، خطبة رقم 98.
[29]  المودودي: ابوالأعلى، ط1، 1398هـ، دار القلم – الكويت.
[30]  قطب: محمد، كيف نكتب التاريخ الإسلامي، 1412هـ، دار الوطن – الرياض.
[31]  ابن كثير: ج8 ص239.
[32]  البداية والنهاية ج8 ص244.
[33]  ابن كثير: البداية والنهاية ج8 ص236.
[34]  اليعقوبي في تاريخه، ج2 ص220.
[35]  اللهوف في قتلى الطفوف ص17.
[36]  موسوعة كلمات الإمام الحسين ص354.
[37]  حياة الإمام الحسين ج3 ص74.
[38]  بحار الأنوار ج45 ص5.
[39]  الشيرازي: السيد محمد، اللاعنف في الإسلام، ط1، 1422هـ.
[40]  الشيرازي: السيد محمد، السلم والسلام، ط1، 1426هـ، دار العلوم – بيروت.