التعامل الإنساني في سيرة الإمام علي (ع)

 

تميزت سيرة أمير المؤمنين علي بخصال عديدة، كان من أوضحها تعامله الإنساني المجرد مع الآخرين، والمبني على احترام الإنسان كإنسان، بغض النظر عن أي شيء آخر، والمحافظة على حقوقه وشخصيته المادية والمعنوية، في أي موقع ومكان، ومهما كان حجمه ومستواه..

وأهمية التوجه إلى هذا الجانب في سيرة أمير المؤمنين تنبع من دوره في التأثير على مجمل حياة الإنسان، الشخصية والاجتماعية، وفي كونه طريقاً إلى رضا الرب سبحانه وتعالى.

فأنا وأنت نتعامل مع بشر، سواء، كانوا موافقين لنا في الدين والاتجاه، أو مغايرين، ومن الأهمية بمكان، أن نعرف كيف نتعامل معهم التعامل الإنساني السليم، الذي يعكس صفاء الإسلام، وتكريمه للإنسان كإنسان، قبل أن يكتسب أية صفة أخرى، تضيف إليه اعتباراً آخر.

ولقد كانت سيرة أمير المؤمنين زاخرة بأمثلة عديدة، من التعامل الإنساني مع الآخر، في مختلف الأوضاع والظروف، فهي بحق ـ بعد رسول اللَّه ـ أفضل مثال وقدوة تحتذى، خصوصاً ونحن نستعيد هذه الأيام ذكرى ولادته الشريفة.

وإن حضور هذا البعد في حياته، هو الذي جعل من شخصيته، شخصية إنسانية خالدة على مستوى البشرية كلها، وليس في تاريخ المسلمين وحدهم.

وقبل أيام صدر ديوان شعر جديد في بيروت لمسيحي ماروني هو (جوزيف الهاشم)، حول الإمام علي، وتحت عنوان (علويات) أما كتاب (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية)، للأديب المسيحي (جورج جرداق)، فهو موسوعة رائعة، أخذت موقعها في مكتبة الثقافة والأدب العربي، وأيضاً ملحمة (عيد الغدير) لبولس سلامة المسيحي، وغير ذلك من الأعمال الأدبية والتاريخية والفكرية، التي تنبئ عن مكانة الإمام على المستوى الإنساني.

الماء حق للجميع

فمن شواهد التعامل الإنساني عند علي ، ما جرى في معركة صفين، حين سبق جيش معاوية، جيش الإمام في الوصول إلى منطقة القتال، واستولى على مشرعة الفرات، ومنعوا جيش الإمام من الوصول إليه، فضج أصحاب الإمام من ذلك، فقام فيهم خاطباً وقال كلمته الشهيرة: «قد استطعموكم القتال، فأقرّوا على مذلة، وتأخير مَحَلَّة، أو رووا السيوف من الدماء ترووا من الماء، فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين»[1] .

فاستنهض الإمام بذلك جيشه للوصول إلى المشرعة، وهذا ما حصل فعلاً، حيث استطاعوا أن يجلوا جيش معاوية عنها وأن تكون لهم السيطرة عليها، فلما كان ذلك تصايحوا يقولون له: «نمنعهم من الماء كما منعونا، ونقتلهم بسيف العطش، ولكنه رفض ذلك، وقال: «خذوا حاجتكم من الماء وارجعوا إلى معسكركم وخلوا بينهم وبين الماء فإني لا افعل ما فعله الجاهلون»[2] ..

وهكذا يضرب لنا مثلاً يحتذى في رفض استخدام الحصار والتضييق، ومنع ضرورات الحياة عن العدو، الذي يخوض معه معركة حاسمة، حتى وإن لجأ العدو إلى هذا الأسلوب.

إن هذه حقاً هي أخلاق الإسلام في بعدها الإنساني الكبير.

وحينما تبحث عن هذه الرؤية في الواقع العالمي الدولي، تجد أنها غائبة عن قاموس السياسة الدولية اليوم، فها أنت ترى الدول الكبيرة والمتحكمة، تمارس الحصار والمقاطعة ضد الشعوب الضعيفة، بحجة تصفية خلافاتها مع بعض الأنظمة والحكام، رغم أنهم يعلمون أن ضحية هذا الحصار هو الشعب نفسه.

فحينما تفرض أميركا والدول الغربية الحصار على الشعب العراقي، فهم يعلمون يقيناً أن الحصار لن يغير من واقع تسلط الحكومة العراقية شيئاً، ولن يؤدي ذلك إلى تغيير سياسي فيه، بل على العكس من ذلك سوف يزداد الموقف الشعبي تجاه النظام ضعفاً، لأن الناس سوف يكون همهم الوحيد الحصول على لقمة العيش والكفاف، أما النظام فإنه سيستفيد من هذه الحالة في سن قوانين تحكم قبضته، وتوسّع من صلاحياته، لأن هذه الحكومة تجد في الحصار المفروض مادة دعائية في اختلاق عدو خارجي، وفي الإبقاء على حالة طوارئ غير معلنة، وبالتالي قمع كل اعتراض.

فهل يتضرر الحاكم العراقي من الحصار؟، وهل أن الأطفال الذين يموتون بسبب نقص الدواء والغذاء هم من أبناء الرئيس أو الوزراء أو الضباط الكبار؟

إن الغرب يعلم أن الأطفال الذين يموتون نتيجة للحصار إنما هم أطفال الناس الفقراء والمعدمين، أما أطفال أولئك فلا يولدون إلا وفي أفواههم ملعقة من ذهب، كما يقال.

وقد فرض الغرب الحصار على ليبيا عدة سنوات لمشكلة له مع النظام، ورأيناه يمارس ما هو أكثر من ذلك مع السودان، حتى يصل الأمر إلى حد قصف وتدمير مصانع الدواء في بلد فقير، يعاني ـ أصلاً ـ من نقص كبير في هذا المورد، ويموت بعض مواطنيه بسبب النقص الحاد في الدواء وسوء التغذية.

فأين الإنسانية من كل هذا.. أو ليس ذلك دليلاً على غياب البعد الإنساني من فكر الحضارة الغربية ورؤيتها للحياة..؟ وعلى العكس من ذلك نجد الحضارة الإسلامية ورموزها.

حتى الخائن له حقوقه

ومن الشواهد في سيرة علي في هذا المجال هذه القصة المهمة:

رجل من أصحاب الإمام اسمه (عبيد اللَّه بن الحر الجعفي) خان الإمام والتحق بجيش معاوية في جوف الليل.. ذلك حين كانت نيران حرب صفين مشتعلة وفي قوانين الحروب يعاقب مثل هذا الخائن بالإعدام.. واستطاع أن يقدم عبيد اللَّه خدمات كبيرة لمعاوية.. أما زوجته فكانت في الكوفة وتناهى إلى سماعها خبر هلاك عبيد اللَّه في المعركة.. فاعتدت عدة الوفاة، وبعد ذلك تزوجت برجل من أهل الكوفة، في الوقت الذي كان عبيد اللَّه حيًّا في الشام.. وحين أخبر بزواج زوجته.. خرج من الشام ليلاً.. وقطع المسافات الشاسعة، ووصل إلى الكوفة، ودخلها ليلاً.. وتوجه فوراً إلى بيت زوجته، أما زوجته خرجت إليه وهي محجبة.. وبعد حوار قصير أخبرته بزواجها من رجل غيره..

رأى عبيد اللَّه أن أبواب العودة إلى زوجته مغلقة في وجهه.. ورأى أن أفضل حل أن يتشرف بلقاء مولانا أمير المؤمنين ويخبره بقصته.. وأمير المؤمنين رجل العدالة والحق.. ولا يعدل عن الحق وإن كان المحق خائناً..

التقى عبيد اللَّه بأمير المؤمنين منكساً رأسه خجولاً لكونه يعلم أنه خائن..سلّم على الإمام .. أجابه الإمام وتساءل مستنكراً: أعبيد اللَّه أنت؟ أي أنت المنافق الذي خنت إمامك ودينك والتحقت بصفوف الكفر والنفاق وذلك في ظروف الحرب.. هل أنت ذلك الرجل؟

عبيد اللَّه يعلم أن علياً رجل الحق والعدل.. فانتهز الفرصة وقال: هل إن خيانتي تمنعك من العدل يا أمير المؤمنين؟ أجابه الإمام: كيف.. ؟ وطلب منه أن يسرد قصته وطلب من الإمام أن يغيثه في أمره.. والإمام أمر بإحضار زوجته وزوجها الثاني وقال: على المرأة أن تنفصل من زوجها الثاني وتبدأ بالعدة من الآن.. وبعد انتهاء عدتها تعود إلى زوجها الأول إن لم تكن حاملاً.. ولو كانت حاملاً لا يعود إليها الزوج الأول حتى تضع ما في بطنها.. وولدها حلال طاهر وتابع لأبيه: الزوج الثاني.. وبعد ذلك تعود المرأة إلى زوجها الأول.

والجدير بالذكر أن الزوجة الغائب عنها زوجها لو راجعت المحكمة الإسلامية الشرعية وطلقها الحاكم الشرعي.. ثم عاد الزوج الأول.. لا يستطيع العودة لها.. ولا ينفسخ العقد الثاني وهو صحيح.. أما زوجة عبيد اللَّه فلم تراجع المحكمة الإسلامية.. بل بادرت نفسها إلى الاعتداد والزواج، لذلك انفسخ الزواج الثاني بعد حضور الزوج الأول طبيعياً ودون طلاق[3] .

إن العدل شرعة ثابتة لا تنتقض حتى في التعامل مع العدو، يقول تعالى: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[سورة المائدة: الآية 8].

عزوف عن العقوبات

وسيرة الإمام علي غنية بالشواهد والقصص التي تؤكد احترامه لإنسانية الإنسان، وحفاظه على كرامته وقد أتت للإمام امرأة فقالت: إن زوجي وقع على جاريتي بغير أمري (أي اعتدى عليها جنسياً).

فقال للرجل: ما تقول؟ قال: ما وقعت عليها إلا بأمرها.

قال متوجهاً للمرأة: إن كنت صادقة رجمته وإن كنت كاذبة ضربناك حداً.

وأقيمت الصلاة وقام علي ليصلي. ففكرت المرأة في نفسها فلم تر لها فرجاً في رجم زوجها ولا في ضربها الحد، فخرجت ولم تعد. ولم يسأل عنها علي .

في الوقت الذي كان الإمام يستطيع أن يأمر بإلقاء القبض عليها وإحضار زوجها ويحد أحدهما.. لكنه كان يتنفر من إجراء العقوبات، مع المحافظة على الحقوق والنظام.. ولم يكن يحمل في قرارة نفسه عقدة تعذيب الناس.. وكان يعفو قدر استطاعته[4] .

إحسان إلى المعتدي

أما أروع صور الحالة الإنسانية في حياة علي فقد تجلت في الساعات الأخيرة من حياته الشريفة، مع الرجل الذي ضربه بالسيف وهو في محراب صلاته.

فقد هرب عبد الرحمن بن ملجم من المسجد يريد الفرار، غير أن الصيحات التي تعالت في سماء الكوفة أخرجت الكثيرين من بيوتهم بحثاً عن قاتل أمير المؤمنين، فانسدت طرقات الكوفة وسككها في وجه ابن ملجم، حتى قبض عليه بعض أصحاب علي فجاؤوا به إليه، وهو بعد متأثراً بضربة السيف المسموم والدماء تنزف من مفرق رأسه، وأصحابه يتصايحون، ها هو عدو اللَّه قد أتيناك به يا أمير المؤمنين فنظر إليه الإمام نظرة مشفق عليه، لا نظرة انتقام وتشفي وقال له: «يابن ملجم أبئس الإمام كنت لك» وإذا ابن ملجم يبكي ويقول: لا.. ولكن هل أنت تنقذ من في النار».

واستمر تعامله الإنساني الرائع معه حتى آخر لحظة من حياته، فحينما وصف الأطباء اللبن دواءً وغذاء للإمام فبادر الناس حتى الفقراء والمعدمون في الكوفة بجلب ما يتمكنون من اللبن إلى بيت الإمام، حمل الإمام الحسن واحداً من أقداح اللبن إلى الإمام علي، فلما شرب منه قليلاً ناول ولده بقية القدح وقال: خذوه لأسيركم أطعموه مما تأكلون واسقوه مما تشربون اللَّه اللَّه في أسيركم).

وليس غريباً –نتيجة لذلك ـ ما يعتقده بعض من أن الإمام لو عاش لعفا عن ابن ملجم.

وهذا ما يتناسب مع عفو الإمام دائماً..

أو عفو عن ذنب

إن هذا المستوى الإنساني الرفيع الذي احتوته شخصية علي، هو الذي ارتفع بعلي إلى درجات من السمو والخلود قلَّ أن تجد لها نظيراً إلا شخصية أستاذه ومعلمه رسول اللَّه .

فقد روي أنه كان جالساً في أصحابه، فمرت بهم امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم، فقال : «إن أبصار هذه الفحول طوامح، وإن ذلك سبب هبابها ـ أي هلاكها ـ فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه، فليلامس أهله، فإنما هي امرأة كامرأته».

فقال رجل من الخوارج: قاتله اللَّه كافراً ما أفقهه. فوثب القوم ليقتلوه.

فقال : «رويداً ـ أي على مهلكم ـ إنما هو سبٌّ بسبّ أو عفو عن ذنب»[5] .

وفي ذكرى ميلاد علي يمكننا أن نتعلم الكثير وأن نتقمص الكثير من ملامح العظمة والخلود في شخصيته، غير أن استيعاب البعد الإنساني في حياته يبقى هو البعد الأكثر إلحاحاً وأهمية، في وقت يحرز الإنسان فيه تقدماً مذهلاً في الكثير من نواحي حياته، وقد يغفل أن سعادته بتقدمه لن تكتمل إن خلت من حضور هذا البعد.

* كلمة الجمعة بتاريخ 12 رجب 1420هـ
[1]  الموسوي: الشريف الرضي، نهج البلاغة ـ خطبة 51.
[2]  القزويني: السيد محمد كاظم، علي من المهد إلى اللحد ص334 مطبعة الآداب، النجف الأشرف 1967م.
[3]  الشيرازي: السيد محمد، الحكومة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين، ص69 ـ مؤسسة الفكر الإسلامي للثقافة والإعلام ـ الطبعة الأولى.
[4]  الشيرازي: السيد محمد، الحكومة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين، ص23 ـ مؤسسة الفكر الإسلامي للثقافة والإعلام ـ الطبعة الأولى.
[5]  الموسوي: الشريف الرضي، نهج البلاغة، قصار الحكم، رقم 420.