احترام مشاعر الناس

 

 

لشخصية الإنسان صورتان.

 

الأولى: مادية تتمثل في جسمه المكوّن من لحم ودم وعظم..

 

الثانية: معنوية تتجلى في مكانته الإعتبارية عند الناس، وما تنطوي عليه نفسه من عواطف ومشاعر وأحاسيس.

وكما أن للجانب الأول من شخصية الإنسان حدوداً وحقوقاً تجب مراعاتها واحترامها، فلا يصح الاعتداء على جسمه بالقتل أو الضرب أو الجرح، ولا الاعتداء على أمواله وممتلكاته بالنهب أو السرقة أو الغصب.

 

كذلك فإن للجانب المعنوي حرمة وحصانة، فلا يجوز اسقاط الشخصية الإعتبارية للإنسان، بتشويه سمعته، ولا يجوز خدش عواطفه ومشاعره وأحاسيسه.

 

وإذا كان متعارفاً بين الناس رعاية الحرمات المادية، فلا يضرب أحدٌ أحداً أو يجرحه، ولا ينهب منه ماله أو يسرقه، إلا ضمن حالات الخصام أو الإجرام، وهي محدودة شاذة، فإن رعاية الحرمات المعنوية لا تحظى بالإهتمام المطلوب، وغالباً ما تنتهك وتتجاوز، حتى في أوساط المتدينين والملتزمين.

 

فالبعض من المتدينين يحسب ألف حساب قبل أن تمتد يده لخدش جسم إنسان آخر، أو لأخذ فلس واحد من مال الغير، ولكنه قد لا يتردد كثيراً في جرح مشاعر الآخرين، وإيذاء أحاسيسهم وعواطفهم.

 

إن جراحات الجسم يظهر أثرها فوراً وبشكل واضح من خروج دم، أو حدوث كسر، أو تغيّر لون. لكن جراح المشاعر تكون في أعماق النفس، وتختمر تفاعلاتها وتتأجج في قلب الإنسان، بعيداً عن المشاهدة والعيان. وهي بذلك أشد إيلاماً، وأقسى وقعاً، ونتائجها أسوأ وأخطر. وقد تتحول إلى عقد متراكمة، وأحقاد مضطرمة، تتفجر في المحيط الاجتماعي ناشرة الويل والدمار.

 

لذلك يقول الإمام علي : «رُبّ كلام كالحسام)، (رُبّ كلام أنفذ من سهام)، (زلة اللسان أشدّ من جرح السنان)، (طعن اللسان أمضى من طعن السنان»[1] .

 

وقال الشاعر:

 

جراحات السنان لها التئام *** ولا يلتام ما جرح اللسان

 

ولو خيّرت أي إنسان بين جرح جسمه أو جرح كرامته، لما أختار الثانية على الأولى إن كان مستقيماً سوّياً. ومشاعر الإنسان رقيقة شفافة تحتاج إلى دقة في المراعاة والإحترام.

 

من هنا ورد في الحديث عن رسول الله  أنه قال في تعريف المسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»[2] .

 

فالمسلم الحقيقي هو من لا يعتدي على شيء من حقوق الآخرين المعنوية أو المادية، ونجد أن الحديث الشريف قدّم الحرمة المعنوية على المادية، حيث قال: «من لسانه» أولاً، واللسان هو أداة التجريح المعنوي.

 

(والمراد بالمسلمين هنا كل الناس، وإنما خص المسلمين بالذكر لأن الحديث صدر في بيئة إسلامية، ويدل على إرادة العموم قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [3]  هذا إلى جانب الأحاديث الكثيرة الآمرة بكف الأذى عن الناس إطلاقاً).

 

 

التخاطب مع الناس:

 

التخاطب هو وسيلة التواصل بين الناس، وتبادل الآراء والافكار، والتعبير عن المشاعر والأحاسيس، فبكلامك يعرف الآخرون ما يدور في عقلك، وما تنطوي عليه نفسك تجاههم.

والخطاب هو المرآة التي تكشف نظرتك للناس، وموقفك نحوهم، وهو أداة التعامل مع المشاعر والعواطف. فاحترامك للناس ينعكس على تخاطبك معهم، وكلامك إياهم. لأن الكلمة الطيبة تشرح النفوس، وتسر القلوب، يقول الإمام علي : «ما من شيء أجلب لقلب الإنسان من لسان»[4] .

 

وعلى العكس من ذلك: الكلمة السيئة فإنها تجرح المشاعر، وتمزق العواطف.

 

لذلك تؤكد التعاليم الدينية على ضرورة الحرص على انتقاء أفضل الكلمات، وأجمل التعبيرات، وأحسن الألفاظ، عند التخاطب مع الناس. ففي القرآن الكريم آيات عديدة تحدد المواصفات التي يجب أن يتسم بها الخطاب مع الناس.

1- القول السديد: فالإنسان الذي يخشى ربه، عليه أن يحسب حساباً لكلامه مع الناس، فالكلام السيء المسيء مخالف لتقوى الله، والمتقي لله يتكلم مع الناس برزانة واحترام. يقول تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا﴾ [11] .﴿فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا﴾ [12]  والقول السديد هو الصواب المحكم الذي لا خلل فيه ونلحظ في الآيتين الكريمتين الإرتباط بين تقوى الله والقول السديد.

 

2- القول الحسن والأحسن: أساساً ينبغي للإنسان أن لا يتلفظ للآخرين وعنهم بكلام سيء، بل يلتزم بابداء القول الجميل مع كل الناس يقول تعالى: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [7] . بل عليه أن يسعى لاختيار أحسن القول والكلام، وأن ينتقي أجمل العبارات أسلوباً ومحتوى ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [8] .

 

وحتى مع المناوئين والمخالفين في الدين، يجب الحرص على أدب التخاطب والتحادث معهم، ليكون على أفضل وجه، ومن لا يجد في نفسه القدرة على المناقشة للآخرين بأحسن أسلوب، فليترك هذه المهمة لغيره. يقول تعالى: ﴿ وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [9] .

 

هكذا يحدد القرآن الكريم سمات الخطاب والحديث مع الناس، بأن يكون خطاباً معروفاً سديداً ميسوراً حسناً.

 

 

الكلام الجارح:

 

في حالات الغضب والإنفعال، وفي مواقع القدرة والقوة، على الإنسان أن يكون أكثر سيطرة على لسانه، وتحكماً في حديثه وكلامه، ولا تتأتى هذه الملكة والصفة للإنسان إلا إذا درّب نفسه وعودها على أمرين أساسيين:

 

الأول: التفكير قبل الكلام، فلا يتكلم اعتباطاً وارتجالاً، ولا تستدرجه الإثارات والإنفعالات، بل يتأمل ويتدبر فيما يريد قوله. روي عن رسول الله  أنه قال: «إن لسان المؤمن وراء قلبه فإذا أراد أن يتكلم بشيء تدبره بقلبه ثم أمضاه بلسانه، وإن لسان المنافق أمام قلبه، فإذا همّ بشيء أمضاه بلسانه ولم يتدبره بقلبه»[10] .

 

وفي أكثر من آية في القرآن الكريم يصف الله تعالى عباده الصالحين بأنهم لا يستجيبون لإثارات الكفار والجاهلين، حينما يشتمونهم ويسبونهم، بل يتسامى المؤمنون عن الإنحدار والإسفاف إلى مستوى الجهل والكلام السيء. يقول تعالى: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِين﴾ [11]  واللغو هو الساقط من القول والمقصود به هنا: الشتم والأذى من الكفار. وفي آية أخرى: ﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامً ﴾[12]  ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا ﴾ [13] .

 

الثاني: أن يجعل الإنسان نفسه مقياساً، فيضعها مكان الطرف الآخر، فلا يقول للآخرين كلمة حتى يستفتي مشاعره وعواطفه نحوها، هل يرتضيها هو لنفسه؟ وهل يقبل أن تقال له أم لا؟.

 

يقول الإمام محمد الباقر : «قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم»[14] .

 

وسمع الإمام علي  قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام أيام حربهم بصفين، فقال لهم: «إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين».

 

ونقل ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة أنه: خرج حُجر بن عدي وعمرو بن الحمق يظهران البراءة من أهل الشام، فأرسل علي  إليهما: أن كُفّا عما يبلغني عنكما، فأتياه فقالا: يا أمير المؤمنين ألسنا محقّين؟

 

قال:« بلى».

قالا: أوليسوا مبطلين؟

قال: «بلى».

قالا: فلم منعتنا من شتمهم؟

قال:« كرهت لكم أن تكونوا لعّانين شتّامين تشتمون وتتبرأون، ولكنكم لو وصفتم مساوئ أعمالهم فقلتم: من سيرتهم كذا وكذا، ومن أعمالهم كذا وكذا، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان لعنكم إياهم، وبراءتكم منهم: اللهم أحقن دماءهم ودماءنا، واصلح ذات بينهم وبيننا، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان منهم من لهج به، لكان أحبَّ إليّ، وخيراً لكم.»

فقالا: يا أمير المؤمنين، نقبل عظتك، ونتأدب بأدبك[15] .

 

لاحظوا أن المسألة ليست أن هذا الطرف يستحق السب واللعن أم لا يستحق، وإنما يجب النظر في الإنعكاسات والآثار التي يخلفها ذلك على مشاعر الآخرين وعواطفهم، وإلاّ فإن أحداً لا يشك في سوء مصير أبي جهل، وكونه من أهل النار، لكن رسول الله  بعد أن دخل مكة فاتحاً هرب منها عكرمة بن أبي جهل إلى اليمن، خوفاً من أن يقتله رسول الله  ، وكانت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأة لها عقل وكانت قد اتبعت رسول الله  ، فجاءت إلى رسول الله  فقالت: إن ابن عمي عكرمة قد هرب منك إلى اليمن، وخاف أن تقتله فآمنه، قال :« قد آمنته بأمان الله فمن لقيه فلا يتعرّض له»، فخرجت زوجته في طلبه، فأدركته في ساحل من سواحل تهامة، وقد ركب البحر، فجعلت تلوح إليه وتقول: يا ابن عم جئتك من عند أوصل الناس وأبرّ الناس وخير الناس، لا تهلك نفسك وقد استأمنت لك فآمنك، فقال: أنت فعلت ذلك؟ قالت: نعم أنا كلمته فآمنك.

فرجع معها فلما دنا من مكة قال رسول الله  لأصحابه: «يأتيكم عكرمة مهاجراً فلا تسبّوا أباه فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ»[16] .

 

وفي النصوص والتعاليم الدينية نهي وتحذير عن كل ألوان الكلام الجارح من سب أو شتم أو تعيير أو سخرية وتحقير أو غيبة وبهتان..

 

 

حسن الاستقبال والتعامل:

 

الإنسان كتلة من العواطف والمشاعر والأحاسيس، تعصف به التقلبات، وتعرض عليه الإنفعالات، كما تضغطه مشاكل الحياة، وعلاقته مع أبناء جنسه هي ملاذه وملجؤه، فإذا توفر له المحيط الاجتماعي الصالح، الذي يتعامل معه بالاحترام والتقدير، ويساعده على امتصاص واستيعاب تأثيرات ضغوط الحياة والتوترات النفسية، ويرفع معنوياته في مقابل المشاكل والأزمات، عندها يجد الكثير من الراحة والسعادة.

 

أما إذا عاش في وسط اجتماعي يفتقد أجواء المحبة والودّ، ويعاني من الجفاء والجفاف العاطفي والأخلاقي، فإن ذلك سيضاعف عليه العناء، ويملأ حياته ونفسه بالألم والشقاء.

 

إنك حينما ترى إنساناً عليك أن تنفذ إلى ما وراء جسمه ومظهره، وتضع في بالك حالته النفسية، وكيانه العاطفي،وتتعاطى مع أحاسيسه ومشاعره، بما يستلزم ذلك من رقة ومحبة واحترام.

 

والقرآن الكريم حينما يتحدث عن العلاقات الاجتماعية داخل مجتمع المؤمنين يصفهم بأنهم: ﴿ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [17]  أي يرحم بعضهم بعضاً.

 

وتقدم التعاليم الإسلامية توجيهات مفصلة شاملة لجميع جوانب التعاطي والتعامل بين أبناء المجتمع على أساس من الاحترام والمحبة والاهتمام. بدءاً من السلام وإلقاء التحية، أو إجابتها بأفضل منها، إلى المقابلة بالبشاشة والاستبشار، إلى الإفساح له في المجلس، والإصغاء لحديثه، ومواساته والتعاطف معه في همومه، ومساعدته وقضاء حاجته.. إلى العشرات من النقاط والتوصيات التي تصنع أفضل علاقة، وتوفّر أجمل رعاية للمشاعر والأحاسيس.

* الاربعاء 23 ذو القعدة 1422هـ، 6 فبراير 2002م، العدد 10463
[1] الآمدي التميمي: عبد الواحد/ غرر الحكم ودرر الكلم.
[2] الهندي: علي المتقي/ كنز العمال ج1 ص149.
[3] سورة الإسراء الآية70.
[4] الآمدي التميمي: عبد الواحد/ غرر الحكم.
[5] سورة الأحزاب الآية70.
[6] سورة النساء الآية9.
[7] سورة البقرة الآية83.
[8] سورة الإسراء الآية53.
[9] سورة العنكبوت الآية46.
[10] الغزالي: أبو حامد محمد بن محمد/ إحياء علوم الدين ج3 ص110/ دار المعرفة- بيروت.
[11] سورة القصص الآية55.
[12] سورة الفرقان الآية72.
[13] سورة الفرقان الآية63.
[14] المجلسي: محد باقر/ بحار الأنوار ج68 ص310.
[15] ابن أبي الحديد: عبد الحميد/ شرح نهج البلاغة ج3 ص181 دار إحياء التراث العربي-بيروت/ الطبعة الثانية 1965م.
[16] المجلسي: محمد باقر/ بحار الأنوار ج21 ص144.
[17] سورة الفتح الآية29.