بناء الشخصية الصالحة

مكتب الشيخ حسن الصفار
منطلقاً من قول الله تعالى: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (التوبة، 19)، بدأ سماحة الشيخ حسن موسى الصفار خطابه الأسبوعي الذي ألقاه ظهر يوم الجمعة 7 جمادى الأولى 1425هـ (25 يونيو 2004م) عقب الصلاة وقال في بيان مفهوم الآية المباركة: أنها تقدّم مفاضلةً بين نوعين من الأعمال:

النوع الأول: سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، وهما من أفضل الأعمال الصالحة.

النوع الثاني: بناء الشخصية الصالحة، والتي من صفاتها الأساسية: ﴿َكمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .

وتؤكد الآية الكريمة أن بناء الشخصية الصالحة لا يُمكن أن يُقاس به أي عملٍ صالح، فيقول تعالى في نهاية هذه المفاضلة: ﴿ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.

وأشار سماحة الشيخ إلى سبب نزول هذه الآية الكريمة، والذي ذكره الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره الأمثل، فيقول: ((يروي "أبو القاسم الحكساني" عالم أهل السنة المعروف، عن بريدة، أن شيبةً والعباس كان يفتخر كلٌ منهما على صاحبه، وبينما هما يتفاخران إذ مرّ عليهما علي بن أبي طالب فقال: فيم تتفاخران؟
فقال العباس: حُبيت بما لم يُحبَ به أحدٌ وهو سقاية الحاج.
فقال شيبة: إني أعمّر المسجد الحرام، وأنا سادن الكعبة.
فقال علي : على أني مستحيٍ منكما، فلي مع صغر سني ما ليس عندكما.
فقالا: وما ذاك؟!
فقال : جاهدت بسيفي حتى آمنتما بالله ورسوله .
فخرج العباس مغضباً إلى النبي شاكياً فقال: ألا ترى ما يقول؟
فقال النبي ادعوا لي علياً، فلما جاءه علي قال : لِمَ كلّمت عمّك العباس بمثل هذا الكلام؟
فقال : إذا كنت أغضبته، فلما بيّنت من الحق، فمن شاء فليرضَ بالقول الحق ومن شاء فليغضب.
فنزل جبرئيل بالآية الكريمة)).

وأضاف إن الثقافة الحديثة وما تطرحه من مصطلحات نحو "التنمية البشرية" تؤكد أهمية بناء الشخصية الفاعلة على جميع الأعمال، فتجد أن الدول المتقدمة تهتم ببناء الإنسان قبل كل شيء، وعلى العكس من ذلك واقع العالم الثالث حيث يهتمون ببناء الأشياء: شق الطرق، بناء الجسور، بناء المطارات الفخمة، استيراد السيارات الفخمة، وما شاكل ذلك، أما بناء الإنسان فهو خارج المعادلة.

وأكد أن بناء الإنسان ينبغي أن يُنتج إنساناً يثق بنفسه ويستخدم عقله ويلتزم بالقيم والمثل الفاضلة، لأن العمل على وجود مثل هذا الإنسان لا يُقاس به أي عمل آخر.

ودعا المجتمع إلى الاهتمام والتركيز على هذا الأمر. فليس مهمة الأب توفير الاحتياجات المادية للأبناء فحسب بل المسؤولية الأهم هي تنمية شخصية الأبناء وتربيتهم على الثقة بالنفس، وتشجيعهم على كسب المعرفة، وشقّ الطريق أمامهم ليُصبحوا أكفاء في هذه الحياة.

وعلى المجتمع أن يتعاون فيما بين فئاته وأطيافه من أجل بناء كفاءات أبنائه، وكذلك فإن على الدول أن تولي هذا الجانب أهمية كبرى.

واعتبر أن العطلة الصيفية فرصة كبيرة ينبغي استثمارها لصالح بناء الكفاءات عبر مختلف السبل والوسائل، مشيراً إلى وجود بعض المبادرات من الجهات الدينية والحكومية والمؤسسات الأهلية لوضع برامج من أجل بناء كفاءات أبناء المجتمع، مؤكداً أن هذه البرامج تحتاج إلى دعمٍ أكثر وتفاعلٍ أكبر.

ودعا أصحاب رؤوس الأموال والشركات إلى التفكير الجاد في مبادرات تخدم بناء الكفاءة الاجتماعية في مختلف المجالات: العلمية والتقنية والحرفية وغيرها مشيراً إلى مبادرة شركة عبد اللطيف جميل لإنشاء صندوق للتأهيل المهني والحرفي، رأس ماله مائة مليون ريال.

ووجه خطابه إلى الجمعيات الخيرية داعياً إياها أن تبذل جهداً في بناء كفاءات أبناء الأسر الفقيرة التي تقوم برعايتها حتى تتمكن تلك الأسر من الاعتماد على كفاءة أبنائها وتستغني عن دعم المؤسسات الأهلية، معتبراً أن هذا العمل أهم بكثير من توفير الاحتياجات اللازمة للأسر لفتراتٍ طويلة من الزمن.

وأشار أن بناء الكفاءة ليس فقط في الجانب المعرفي والمهني، وإنما للتربية الأخلاقية والقيمية موقعيتها الهامة في هذا الجانب، خصوصاً وأن الأبناء يعيشون في هذا العالم المضطرب مع أمواج الثقافات وأنماط السلوك التي تغزو مجتمعاتنا عبر الفضائيات ووسائل الاتصالات المختلفة. محملاً الجهات الدينية مسؤولية ابتكار الوسائل الحديثة لاستقطاب الناشئة والتأثير فيهم، حيث أن الأسلوب الوعظي المجرد وأسلوب الأمر والنهي لم يعد قادراً بمفرده على التأثير على أبناء هذا اليوم.

وأنهى سماحة الشيخ خطابه بالتأكيد على أن العمل على بناء الشخصية الصالحة لا يُقاس به أي عمل آخر، مشيراً إلى أن من أعظم إنجازات رسول الله هو بناء شخصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حيث بذل رسول الله عناية خاصة في بناء هذه الشخصية إضافةً إلى العناية الإلهية، وهذا ما تؤكده الأحاديث والروايات التاريخية، وبهذه العناية الخاصة بعلي أصبح الشخصية الثانية بعد رسول الله .

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله الطاهرين.