بين يدي الصحيفة السجادية

التخاطب مع أصحاب القوة والسلطة في المجتمع ليس أمراً ميسوراً لكل أحد، حيث تحيط بهم فئة محدودة من ذويهم وأعوانهم وأهل القدرة والجاه لديهم، بينما يتعذر على الأشخاص العاديين الاقتراب منهم والتخاطب معهم.

لكن أبواب الاقتراب والتخاطب مع خالق الكون، والمهيمن على كل قدرة وقوة فيه، مشرعة مفتوحة أمام جميع الخلق، كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم.

حيث لا حواجز تحول بين الإنسان وربه،ولا حجب تمنعه عن التقدم إليه.

بل إن الله سبحانه وتعالى يدعو عباده للاقتراب منه، والتخاطب معه، ويرغّبهم في ذلك، ويشجعهم عليه.

يقول تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ[1]  ويقول تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[2]  وورد عن رسول الله أنه قال: (إذا قال العبد: يارب يارب. قال الله: لبيك عبدي سل تُعطَ)[3] .

وجاء عن الإمام علي (وأعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك في الدعاء، وتكفل لك بالإجابة، وأمرك أن تسأله ليعطيك، وتسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه)[4] .

وقد يتساءل المرء عن فلسفة الدعاء ومدى أهميته، فالله تعالى يعلم ما يدور في نفس العبد، ويعرف خلجات أحاسيسه ومشاعره، ويدرك أحواله وحاجاته، فلماذا الدعاء إذاً ؟ وهل هناك ضرورة لتقديم الطلبات والحاجات شفاهة باللسان أمام الله تعالى؟

نعم. إن الله تعالى يريد أن يُعبد، يقول تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[5]  والدعاء من أهم مظاهر العبودية لله تعالى، حيث ينطوي على الإيمان بقدرته وهيمنته، ويجسد التطلع إلى رحمته ولطفه، ويعبر عن الإقرار بالحاجة والافتقار إليه، لذلك ورد في الحديث: (الدعاء مخ العبادة)[6] .

كما أن الدعاء يوثق الصلة بالله تعالى في نفس الإنسان، ويرفع معنوياته أمام المشكلات والضغوط، ويلهمه الأمل والقدرة على مواجهة التحديات، حين يشعر بالقرب من خالق الحياة، ومدبر الأمور، وحين يطمئن قلبه بذكر الله وسعة رحمته.

ولكن كيف يخاطب العبد ربه؟

وبأي لغة يتحدث؟

وما هو أسلوب التعبير عن المشاعر تجاه الله؟

وماهي طريقة تقديم الحاجات والطلبات بين يدي الخالق جلّ وعلا؟

لاشك أن ما يخرج من قلب الإنسان بعفوية وصدق حين ينفتح على ربه، ويتجه بكله إليه، هو أفضل أسلوب وطريقة في التخاطب مع الله تعالى.

وهنا تتفاوت درجات الصدق وصفاء القلب عند بني البشر، ويتفاوت مستوى التوجه الحقيقي إلى الله تعالى من شخص لآخر، فكلما كان الإنسان أكثر معرفة بعظمة خالقه، واشدّ انقطاعاً إليه، كان أفق انفتاحه على الله تعالى أكبر وأوسع، فينعكس ذلك على نوع وكيفية دعائه ومناجاته لله سبحانه.

لذلك تجد أولياء الله العظام من الأنبياء والأئمة والأصفياء، الذين حازوا أعلى درجات الصدق والإخلاص، تمتاز الأدعية المأثورة عنهم بخصائص فريدة، وعلامات مائزة، تكاد تهديك إلى مصدرها واصلها، وأنها انطلقت من قلب مشع بنور الله تعالى، متصل بهداه.

وتمثل أدعية الصحيفة السجادية المأثورة عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن على بن أبي طالب نموذجاً مشرقاً على هذا الصعيد.

فهي صحائف ثمينة، تناقلتها أيدي العلماء عبر التاريخ، وتوارثتها أجيال المؤمنين جيل بعد جيل، لتصل إلينا بإسناد معتبر، وقد قام أحد الباحثين المعاصرين، هو العلامة السيد محمد باقر بن السيد مرتضى الموحد الابطحي الأصفهاني، بدراسة مفصلة لأسانيد هذه الصحيفة المباركة، وإجازات روايتها، ضمن طبقات الرواة المتسلسلة والمتصلة من الإمام علي بن الحسين إلى عصرنا الحاضر،ورتبها بعد ذلك على شكل شجرة،  تتضح فيها أسماء الرواة وعددهم في كل طبقة من الطبقات[7] .

إن الأدعية التي تضمنتها هذه الصحيفة المباركة تمثل مدرسة تربوية عظيمة،تعرّف الإنسان على جوانب عظمة الخالق جلّ وعلا، وتوثق صلته به، وتزرع في قلبه الأمل في رحمته، والرجاء لعفوه، والخوف والرهبة من معصيته وغضبه، كما تنمي في نفس الإنسان التطلّع والطموح لمكارم الأخلاق ومعالي الصفات، وتجذب بعض أدعية هذه الصحيفة المباركة نظر الإنسان وتشد مشاعره نحو نماذج الخير وشخصيات الطهر والكمال في التاريخ البشري، عبر الصلاة عليهم والدعاء لهم، كأنبياء الله العظام، وأصحابهم وأتباعهم الكرام، والأولياء الصالحين، لتذكّر الإنسان بدورهم وفضلهم على المجتمعات البشرية، ولتربط الإنسان بسيرتهم وهديهم.

وفيها أدعية تلفت انتباه الإنسان إلى الأوقات الفاضلة المباركة، ليهتم باستثمارها ونيل نفحات الرحمة والبركة الإلهية فيها، كشهر رمضان المبارك، وأيام الأعياد، وكذلك مختلف مقاطع الزمن ومناطقه، كأدعية الصباح والمساء، وسائر الأوقات.

وبعض الأدعية تعنى بتذكير الإنسان بحقوق الآخرين عليه، وواجب حسن المعاشرة لهم، كالدعاء للوالدين والأولاد والجيران والمدافعين عن حدود الوطن (أهل الثغور).

وهكذا فان أدعية هذه الصحيفة المباركة ليست مجرد ابتهال ومناجاة، بل هي في ذات الوقت كنز علم ومعرفة، ومدرسة تربية وإصلاح.

وليس مستغرباً أن تكون لهذه الأدعية هذه القيمة العظيمة، والعطاء الكبير، فهي صادرة عن إمام عظيم، وعارف كبير، هو الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، الذي جسّد في حياته الانقطاع إلى الله، والإقبال على عبادته وطاعته، حتى عرفه الناس بـ (السجّاد) لكثرة وطول سجوده لله تعالى، وكنّوه (زين العابدين) لكمال شخصيته في مختلف الأبعاد.

ويسعدني أن أقدم لأبناء وطني وأبناء الأمة هذه الطبعة الجديدة من (الصحيفة السجادية) مع المقدمة الرائعة التي كتبها الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رحمه الله) فهي على اختصارها تقدم رؤية رائعة عن مضامين هذه الصحيفة، وعن سيرة الإمام علي بن الحسين .

وإكمالاً للفائدة ألحقنا بها نص رسالة الحقوق للإمام زين العابدين علي ابن الحسين ، وهي من أوائل النصوص الإسلامية الشاملة حول حقوق الإنسان وواجباته تجاه الله وأبناء مجتمعه.

أرجو أن يسهم نشر هذه الصحيفة في تعزيز القيم الدينية ومكارم الأخلاق، وفي توثيق صلة أبناء الأمة بنبيهم الكريم وأهل بيته الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

والحمد لله رب العالمين.

حسن الصفار               
6 ذو القعدة 1427هـ          
27 نوفمبر2006م           

غلاف الصحيفة السجادية

[1]  سورة البقرة: الآية 186.
[2]  سورة غافر: الآية60.
[3]  كنز العمال - حديث رقم3132.
[4]  نهج البلاغة- كتاب رقم 31.
[5]  سورة الذاريات: الآية 56.
[6]  سنن الترمذي ج4ح3371 ط دار الكتب العلمية.
[7]  الصحيفة السجادية الجامعة / بإشراف السيد محمد باقر الموحد الابطحي الأصفهاني / مؤسسة الإمام المهدي قم 1411هـ.