بناء الوحدة والشراكة الاجتماعية في العهد النبوي

مكتب الشيخ حسن الصفار
كيف يُمكن تحقيق الوحدة الاجتماعية في مجتمعٍ يعيش الانقسامات والتمايزات: على أساسٍ قومي، أو ديني، أو قبلي؟ سؤالٌ تناوله سماحة الشيخ حسن الصفار في الكلمة التي ألقاها يوم الجمعة الموافق 26 صفر 1425هـ (16 أبريل 2004م) قبيل وفاة رسول الله ، وأجاب عليه مستنيراً بسيرة الرسول الأعظم .

وفيما يلي نص الكلمة:

حينما تكون في المجتمع انقسامات وتمايزات، على أساسٍ عرقي، أو قومي، أو ديني، أو قبلي؛ فكيف يُمكن تجاوز هذه الانقسامات من أجل أن يكون المجتمع موحداً مندمجاً؟

وجود التطلع والشعارات لا يكفي لتحقيق الوحدة الفعلية. وربما يفكر البعض بأن غلبة طرفٍ من الأطراف وسيطرته كفيلةٌ بتحقيق الوحدة، لأن الطرف المسيطر سيطبع الوضع بطابع سيطرته وتوجهه. ولكن التاريخ أثبت أن السيطرة من أحد الأطراف لا تخلق إلا وحدةً ظاهريةً مؤقتة.

حصل أن الروس سيطروا على بلدان وجمهوريات كثيرة، وأقاموا الإتحاد السوفيتي، وفرضوا رأيهم وسيطرتهم، وكان يبدو أن الدولة موحدة، وشعب الإتحاد السوفيتي شعباً واحداً، واستطاع قادة الإتحاد السوفيتي أن يصنعوا من دولتهم قوةً عظمى في العالم تنافس الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن الوحدة لم تكن حقيقية ولم تكن ناتجة عن قناعة الأطراف المختلفة التي كانت تتكون منها تلك الدولة، لذلك تلاشى الإتحاد السوفيتي وتفكك.

وهكذا في يوغسلافيا السابقة حينما سيطر الصرب وسادوا على بقية الأطراف وكونوا دولةً ومجتمعاً مصبوغاً بصبغتهم دون أن تتحقق شراكة حقيقية بينهم وبين بقية الأطراف، وعند منعطفٍ تاريخي تهاوت الدولة اليوغسلافية وتفتت.

كل ذلك دليلً على أن الوحدة إذ لم تتوفر لها الأرضية، ولم يكن هناك قناعة ومشاركة من جميع الأطراف، فإن ما يبدو أنه وحدة في أي مجتمع قد تكون وحدةً ظاهريةً مؤقتة.

لذلك ينبغي السعي من أجل تحقيق وحدةٍ حقيقية، وهذا ما يقدمه العهد النبوي على يدي رسول الله الذي بُعث في مجتمعٍ متفككٍ يُعاني من انقساماتٍ عديدة، ولكنه بعد فترةٍ وجيزة من الزمن استطاع أن يخلق من هذا المجتمع الممزق مجتمعاً موحداً. ورغم أن هذا المجتمع مر بنكساتٍ كثيرة إلا أن هذه الوحدة استمرت قروناً عديدة إلى أن اشتدت العلل والأمراض الداخلية واشتد الضغط الخارجي فسقطت عندها دولة الخلافة وسقطت معها وحدة الأمة.

ولو قرأنا تاريخ العرب في الجاهلية ودرسنا الأوضاع التي كانوا يعيشونها لوجدنا عمق التمزق الذي كان يسود المجتمع حيث الحروب والنزاعات.

وهناك العديد من الكتب التي تبحث هذا الموضوع ككتاب (أيام العرب في الجاهلية) الذي أعده ثلاثة من الباحثين العرب. هذا الكتاب يتحدث عن الحروب التي كانت بين القبائل العربية في الجاهلية: بين القحطانيين أنفسهم، بين القحطانيين والعدنانيين، بين قيس أنفسهم، بين قيس وتميم، بين قيس وربيعة، حروبٌ طاحنة وبعضها لأسبابٍ تافهة، ولكن الحرب قد تستمر بينهم لفترةٍ طويلة.

من ناحيةٍ أخرى فإن القبائل في ذلك الوقت كانت تبحث عن الغنائم، من أي طريق كان، وكما يقول الشاعر:

وأحياناً على بكرٍ أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا

وفي المدينة حيث هجرة الرسول الأعظم كانت هناك قبيلتان: الأوس والخزرج وكان بينهما نزاعات وحروب لفترة طويلة من الزمن، وآخرها (حرب بُعاث) قبل البعثة النبوية بخمس سنوات. وهناك قبائل يهودية تقطن المدينة، أكبرها ثلاث قبائل: قينقاع، بنو قريظة، وبنو النظير، وبين هذه القبائل اليهودية نزاعات، وبينهم وبين العرب خلافات. وبعد هجرة النبي للمدينة أضيف إلى هذا التنوع عنصرٌ آخر هم المهاجرون إلى جانب الأنصار.

ضمن هذه التركيبة المعقدة من الانقسامات والتنوع الكبير في المجتمع الذي بُعث إليه الرسول الأعظم ، كيف استطاع أن يصنع من ذلك المجتمع المتمزق مجتمعاً موحداً مندمجاً؟

هناك أربعة عوامل أساسية ساعدت على إنجاح هذه التجربة، ينبغي على الأمة دراستها والاهتداء بهدي رسول الله من أجل بناء مجتمعٍ تسوده الوحدة والألفة:

أولاً- الهوية الشاملة والهدف المشترك.

حينما تكون في المجتمع انقسامات متعددة فإن لكل طرف هويته الخاصة الدينية أو المذهبية أو العرقية أو القبلية أو القومية؛ ولذلك يحتاج المجتمع إلى وجود هوية شاملة مشتركة تتجاوز كل هذه التقسيمات.

فإذا كان في بلدٍ ما عرب وأكراد، فلا يُمكن اعتبار الهوية هي القومية العربية، لأن الأكراد سيجدون أنفسهم خارج هذه الهوية.

وإذا كان في بلدٍ ما مسلمون ومسيحيون، فلا يُمكن اعتبار الهوية هي الإسلام أو المسيحية، لأن كلاً منهما ليست هوية جامعة.

فلابد أن تكون هناك هوية مشتركة تجمع الجميع، ولا يصح أبداً اعتبار قسم من الانقسامات المتعددة هو الهوية لأن بقية الأطراف لا تجد نفسها ممثلةً في هذه الهوية، وقد تخضع الأطراف مؤقتاً لهذا الأمر لكن هذه الحالة لا تدوم.

وللهوية المشتركة أنواع متعددة:

1- الهوية الدينية: فإذا كان كل المجتمع مسلمين مثلاً فإن الهوية المشتركة ستكون هي الإسلام.

2- الهوية الوطنية: باعتبار الشراكة في الوطن، فمع تعدد الانقسامات تبرز الهوية الوطنية.

3- الهوية القومية: فإذا كان كل المجتمع عرباً مثلاً، فإن الهوية العربية تبرز بغض النظر عن الانقسامات الأخرى.

وهذا ما صنعه رسول الله في ذلك المجتمع المتعدد الانقسامات فنجده في بداية الأمر عندما هاجر إلى المدينة المنورة أبرز الهوية الوطنية، لوجود قبائل يهودية في المدينة إضافةً إلى المسلمين، وهذا ما تقرره صحيفة المدينة. ولما نكث اليهود المعاهدات التي بينهم وبين المسلمين حاربهم رسول الله وتغيّرت بعدها الهوية وأصبحت الهوية الإسلامية هي الهوية الجامعة والمشتركة. والقرآن الكريم يؤكد ذلك في آياتٍ عديدة، يقول تعالى: ﴿إنما المؤمنون أخوة.

من جانب آخر، فإن رسول الله لم يلغي الانتماءات القبلية، بل أقرها كما في السيرة النبوية، ولكن في إطارها الإيجابي دون السلبي.

ثانياً- ثقافة الوحدة.

المجتمع الذي يعيش انقسامات متعددة بحاجة إلى ضخ ثقافة جديدة لمحو آثار الثقافة السابقة، فإذا كان يعيش الانقسام القومي فهو بحاجة إلى ثقافة تدعو الناس لأن يتساموا على انقساماتهم القومية. وإذا كان المجتمع يعيش قطيعة مذهبية طائفية فهو بحاجة إلى ثقافة جديدة ليتجاوز حالة القطيعة المذهبية السلبية.

لذلك قام الرسول الأعظم ببث ثقافة وحدوية، وذلك واضحٌ في الأحاديث والروايات الواردة عنه ، ومن ذلك قوله : كلكم لآدم وآدم من تراب، فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض، إلا بالتقوى، وقوله : مثل المؤمنون في توادهم وتعاطفهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له بقية الأعضاء بالسهر والحمى، وقوله : «المسلمون يدٌ واحدة على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم».

ثالثاً- المساواة وتجريم التمييز بين الناس.

كان الرسول الأعظم شديداً على أي إثارة تمييزية بين أبناء المجتمع. ومن ذلك القصة المشهورة أنه في إحدى الأيام كان في مجلسه رجلٌ غني، وأقبل رجلٌ آخر فقير، فجلس إلى جانب ذلك الغني، فتباعد الغني عن الفقير. والتفت الرسول إلى هذا الموقف، وقال مباشرةً إلى الغني: أ خفت أن يعديك بفقره، أو أن ينتقل إليه غناك. فانتبه الغني إلى خطأه واعتذر من الفقير وأبدى استعداده لمقاسمته ماله كفارةً عن هذا الخطأ ومقابل عفو الفقير عن الخطأ الذي ارتكبه بحقه.

وفي مضمون رواية عن جابر بن عبد الله الأنصاري (رضوان الله تعالى عليه) أنه قال: حدث في إحدى الغزوات سوء تفاهمٍ بين اثنين من الصحابة أحدهما من المهاجرين والآخر من الأنصار، فنادى الأنصاري: يا للأنصار، ونادى المهاجري: يا للمهاجرين. فسمع رسول الله ذلك وقال: دعوها فإنها منتنة.

ونهى رسول الله عن التفاخر بالأنساب، ورفض أن يكون هناك تمايز بين الناس في الزواج، فقال : ((المسلم كفؤ المسلمة))، فلا اعتبار للتمايز القبلي والطبقي.

فإذا أريد إلى مجتمعٍ أن يتوحد، وأن يتسامى على انقساماته، لابد من إدانة وردع أي محاولة تمييزية بين الناس؛ لأنه من الطبيعي أن يكون هناك من يستفيد من حالة التمييز.

رابعاً- الشراكة الفعلية بين مختلف الأطراف.

حينما تكون الامتيازات خاصة بعرقٍ أو قوميةٍ أو فئةٍ معينة فهنا لا يُمكن أن تكون وحدةً بين الناس، بل يتعمق الشعور بالغبن عند الأطراف التي تُتجاوز وتُقصى، ويتعمق الشعور بالتعالي لدى الأطراف التي تحظى بالامتيازات.

فلابد من تفعيل المشاركة العملية في بناء المجتمع، بأن تكون هناك مساواةٌ بين الناس في الامتيازات والمناصب والمواقع والأدوار والخدمات حسب الكفاءات.

وهذا ما فعله رسول الله رغب صعوبة هذا الأمر في ذلك المجتمع الذي كان ينظر إلى الموالي نظرةً دونية، إلا أن الرسول أعطى مناصب إلى أناسٍ كانوا مستعبدين عند قريش كبلال الحبشي الذي أصبح المؤذن الرسمي لرسول الله . وكذلك بالنسبة لزيد بن حارثة وابنه أسامة حيث جعلهما رسول الله في موقع القيادة العسكرية رغم صغر سنهما. وواجه رسول الله اعتراضات على توليته لزيد وكذلك لابنه أسامة، ولكن الرسول الأكرم أصر على ذلك، وخطب في الناس، ودعاهم للالتحاق بجيش أسامة بما فيهم كبار الصحابة وفي بعض الروايات لعن من تخلف عن جيش أسامة.

وإذا قرأنا قائمة السفراء الذين بعثهم رسول الله إلى مختلف الملوك والزعماء وهم (15) سفيراً، ويُمثلون وزارة الخارجية بمفهوم العصر، نجد أن الرسول لم يجعل سفراءه من قريش دون بقية القبائل أو من المهاجرين فقط، بل تجدهم متنوعين. وإذا قرأنا قائمة أمراء الجيوش والسرايا الذين عينهم رسول الله تجد فيهم التنوع. كل ذلك من أجل إرساء دعائم الوحدة في ذلك المجتمع، وإقرار أن الكفاءة في المقياس الحقيقي للحصول على المواقع العليا في المجتمع.

هذا الإنجاز الوحدوي الذي حققه رسول الله هو الذي أرسى أرضية الوحدة في الأمة والتي استمرت لأربعة عشر قرناً من الزمن. فإذا كان هناك مجتمعٌ يريد الوحدة الحقيقية ينبغي أن يأخذ الدروس من سيرة رسول الله .

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله الطاهرين.