أمريكا سياسة البطش والانتقام

مكتب الشيخ حسن الصفار
اتسمت كلمة سماحة الشيخ حسن الصفار التي ألقاها يوم الجمعة الموافق 19 صفر 1425هـ (9 أبريل 20004م) بطابع التحليل والإدانة للسياسة الأمريكية التي تمارس البطش والانتقام بأبشع الصور في العراق وغيرها من دول العالم.

وفيما يلي نص الكلمة:

القوة تبعث صاحبها إلى البطش، وإلى أن يُمارس قوته على من لا يمتلكون القدرة الرادعة، إلا إذا كان صاحب القوة يمتلك رادعاً من دينٍ أو وعيٍ حضاري.

وهذا يجري على مختلف مستويات القوة، لذلك نجد أن التعاليم الدينية تحذر الإنسان من أن يُمارس قوته دون على من هم أضعف منه بدافع الانتقام، ولذلك فإن الإمام علي يصف ما ستؤول إليه الأمور جراء الحكم الأموي فيقول : «فعند ذلك لا يبقى بيت مدرٍ ولا وبر إلا وأدخله الظلمة ترحة، وأولجوا فيه نقمة، فيومئذٍ لا يبقى لهم في السماء عاذر، ولا في الأرض ناصر»، كل ذلك بسبب سوء استخدام الأمويين للقوة التي كانوا يمتلكونها.

وقد يرى الإنسان القوي ما يُزعجه، ولكن ينبغي له تجاه ذلك وقبل التفكير في الانتقام عدة أمور:

أولاً- أن يتأكد من هذا الشيء المزعج له، ويرى هل هو حقيقة مزعج أم أنه يتوهم ذلك. لأن القوي قد يتوهم أن كلّ شيءٍ مزعج بالنسبة له وذلك بسبب تضخم مشاعر القوة والعظمة في نفسه. بينما الإنسان السوي يتحمل ولا ينفعل تجاه أي مشكلة دون دراستها.

ثانياً- يتأكد من مصدر هذا الشيء المزعج، حتى لا يُوقع غضبه وسخطه على الأبرياء.

ثالثاً- أن يعرف أسباب هذا الشيء المزعج. فينبغي معالجة الأسباب بدلاً من الانتقام.

رابعاً- أن يكون الرد بالحجم المناسب لا أن يُشكل طغياناً وبغياً.

نماذج قد تمارس قوتها من دافع الانتقام


قد يُمارس بعض الآباء تصرفاتٍ ينطلق فيها من روح الانتقام تجاه أفراد أسرته، إذ تتضخم عنده مشاعر العظمة فلا يتحمل أقل إزعاج يصدر من أفراد أسرته. وهذه الحالة خلاف تعاليم الإسلام التي أكّد عليها ومارسها رسول الله في حياته العائلية. وجاءت الروايات تدعوا إلى تحمل أخطاء العائلة وأن ذلك حقٌ من حقوقهم، ففي الحديث: ((من حق الزوجة على زوجها أن يغفر خطيئتها)). إذ أن من طبيعة الحياة المشتركة أن تختلف الأمزجة وقد يصدر خطأ من طرفٍ تجاه الآخر، والمطلوب تجاه هذه الحالة هو ضبط النفس وتحمل الخطأ لا أن يكون الانتقام هو الرادع الأساسي تجاه أي مشكلة.

إضافةً للتحمل ينبغي أن يكون هناك تأكدٌ من مصدر الإزعاج، لا أن يُلقي الأب باللائمة على الجميع، فيُعاقب من لم يفعل شيئاً.

ثم ينبغي معرفة السبب فقد يكون وراء هذا الإزعاج سببٌ مقنع. وإذا اتفق أن هذا الأمر المزعج يحتاج إلى عقوبة فاعله ينبغي أن تكون العقوبة ضمن حدودٍ معينة، فلا يحق للأب ممارسة القوة دون تعقل.

وهذا الأمر ينطبق على المعلّم وعلى المسؤول في أي دائرة من الدوائر الحكومية أو الخاصة.

والحاكم عليه أن يعرف أنه يحكم بشراً، يمتلكون آراءً مختلفة وأهواءً ورغباتٍ وشهوات، فينبغي أن يكون صدر الحاكم واسعاً يتسع للأخطاء التي قد تحصل، وكما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله أنه قال: ((آلة الرئاسة سعة الصدر)). ولذلك نجد القرآن يؤكد هذه الصفة لرسول الله وأنها من منن الله تعالى عليه، يقول تعالى: ﴿ألم نشرح لك صدرك.

وقد تجد بعض الحكام لا يتحمل أي تصرف يصدر من رعيته، ويتصور أن ذلك مزعجاً ويُخالف عظمته وهيبته.

وإذا لم يتحمل الحاكم هذه التصرفات عليه أن يتأكد من المصدر، وكذلك الأسباب التي دعت لهذه التصرفات فقد يكون هناك أسباب مقنعة. كأن يكون هناك ظلمٌ بحقهم جعلهم يقومون بهذه التصرفات، والله تعالى جعل من حق المظلوم الجهر بالسوء، يقول تعالى: ﴿لا يُحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم. أما إذا كان التعامل نابع من روح الانتقام ومن دون دراسة الأسباب ومن دون حدود وضوابط معقولة فإن النتائج ستكون سيئة.

أمريكا وسياسة البطش والانتقام


كيف تتعامل أمريكا وهي القوة العظمى في العالم مع بقية دول العالم؟

أولاً- لا تتحمل إزعاجاً، وأبسط شيء تتصور أنه يزعجها، وتتخذ إجراءات عدائية فورية تجاهه.

ثانياً- لا تتأكد من المصدر المزعج لها. وكم عملت من الأعمال المشينة تجاه الأبرياء والمدنيين. كإسقاطها لطائرة مدنية أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وقصفها لمصنع الشفاء في السودان، وأخيراً ما قامت به في العراق من تدميرٍ وتخريبٍ بحجة البحث عن أسلحة الدمار الشامل إذ بان زيف هذا الإدعاء أمام العالم أجمع.

ثالثاً- لا تدرس الأسباب. وأبرز نموذج لذلك أحداث 11 سبتمبر وما قامت به أمريكا بعدها. صحيحٌ أن تلك الأحداث عملٌ إجرامي، ولكن ما دواعي وأسباب هذا العمل. نحن ضد العنف، وضد استهداف الأبرياء، ولكن كان يُفترض على أمريكا أن تتعقل وتدرس الأسباب التي جعلت هؤلاء الناس –بناءً على صحة ما يُنسب إليهم- يتصرفون بهذه الطريقة. واضحٌ أن هناك ظلماً كبيراً يقع عليهم، يتمثل في الممارسات العدوانية لإسرائيل وبدعمٍ وتمويل وتشجيعٍ وحمايةٍ من أمريكا، وآخرها ما قامت به وبصورة بشعة من قصفٍ لشيخٍ مقعدٍ على كرسي المرض لتوه قد خرج من المسجد هو الشيخ أحمد ياسين –رحمه الله- وهل هناك فظاعة أكبر من هذا؟ ومع ذلك نجد أمريكا تمارس حق الفيتو لكي تمنع إدانة مجلس الأمن لهذا العمل. إضافةً إلى المجازر اليومية والفظائع التي تحصل في فلسطين، أفلا يتوقع الأمريكيون أن يكون لهذا كله ردة فعل مماثلة؟

كان يجب على أمريكا –وخصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر أن تراجع سياستها في الشرق الأوسط وتجاه المسلمين. ونحن لا ندافع عما حصل، ولا نقبل ما حصل، وندين أي عمل إرهابي تجاه الأبرياء والمدنيين، ولكن القوة يجب أن تعود إلى العقل وتبحث الأسباب.

وماذا كانت نتيجة غطرسة أمريكا وعنجهيتها، وإدعائها لمكافحة الإرهاب في العالم؟ النتيجة أن الإرهاب قد انتشر في أنحاء العالم، وأصبح العالم أكثر خوفاً ورعباً وفزعاً من ذي قبل.

وما يحصل في العراق، لا يليق أبداً بقوةٍ تعتبر نفسها رائدة الحضارة، وترفع شعار الديمقراطية، وتقول أنها ما جاءت إلا لإعطاء الحرية لشعب العراق. فهل ما يحصل في العراق يتناسب مع هذه المقولات والادعاءات والشعارات؟

أمريكا تمارس قوتها بروح الانتقام، إذ وبعد أحداث 11 سبتمبر فعلوا ما فعلوا في أفغانستان، وضاعفوا دعمهم للصهاينة المحتلين في فلسطين، وقاموا بما قاموا به الآن في العراق.

أحداث الفلوجة

وفي الفلوجة نموذجٌ بارزٌ لعنجهية أمريكا حيث أن جماعة من العراقيين نصبوا كميناً لأربعة من الأمريكيين وقتلوهم، وقاموا بالتمثيل بتلك الجثث، وهذا أمرٌ يرفضه الإسلام، الإمام علي بعد مقتله نهى عن التمثيل بقاتله قائلاً: وإياكم والمثلة، فإن رسول الله قد نهى عنها حتى مع الكلب العقور)). ولكن هؤلاء لم يمتثلوا لهذه التعاليم الإسلامية.

ولكن ما موقف القوة العظمى التي تحتل العراق وتتحمل المسؤولية تجاه ما يحصل في العراق؟ نجدها تمارس عملاً انتقامياً حيث حاصرت المدينة كلها وقصفتها بالطائرات، واستخدمت القنابل المحرمة دولياً وفق بعض التقارير الإعلامية، وقصفت مسجداً وقتلت أربعين وأكثر من المصلين. وبلغ عدد القتلى أكثر من ثلاثمائة، وعدد الجرحى بالمئات من الأطفال والنساء والشيوخ.

ممارسات أمريكا تجاه تيار الصدر

وكذلك ما مارسته أمريكا تجاه تيار الصدر أيضاً عمل انتقامي، حيث أغلقت مجلة الحوزة العلمية التي يُصدرها هذا التيار، مع أن هذه القوة جاءت إلى العراق وهي تدعي أنها تريد تحرير ونشر الحرية في العراق، لكنها تضيق ذرعاً بمجلة تصدر هناك. وكذلك أصدرت أمراً بإلقاء القبض على من يتزعم هذا التيار.

وأمريكا نفسها تعلم حراجة الموقف، ولكنها تريد تصعيد الأمور، وتريد أن تجر المواقف الأخرى إلى العنف، وإلا ما معنى هذا التصرف الأهوج، الأحمق؟

وقد يكون هناك نقاشٌ حول تصرف هذه الجهة أو تلك، وحول مواقف هذه الشخصية أو تلك الشخصية، ونحن لسنا بصدد التزكية لشخصيةٍ معينة أو لتيارٍ معين، ولكننا ننحاز إلى الشعب العراقي بمجمله.

هذا التصرف الأمريكي تصرفٌ أرعن، واستخدامٌ للقوة في غير محله.

وأيضاً ما قامت به القوات الأمريكية تجاه متظاهرين مسالمين في مدينة الصدر في بغداد، حيث واجهوهم بالقوة، وسحقت الدبابة شخصين من المتظاهرين، فأين الحرية وأين حقوق الإنسان والشعارات التي تنادي بها أمريكا؟

هذه السياسة التي يستخدمها الأمريكيون في العراق سياسة من لا يريد ترتيب الوضع في العراق. فلو كان الأمريكيون صادقين –وأنى لهم أن يكونوا صادقين- في أنهم يريدون بناء الديمقراطية في العراق لكانت هناك طرقٌ أفضل من هذه الطرق التي يسلكونها، ولما حصلت هذه الأعمال والتداعيات التي تحصل. ولكنهم يريدون مبررات لإدامة تواجدهم في العراق، يريدون إذلال روح الشعب العراقي، يريدون إثبات هيمنتهم على توجهات الشعب العراقي السياسية والثقافية والاجتماعية، ولذلك يقومون بهذه الأعمال. ومن ذلك تصريح بريمر بأنهم لا يقبلون أن يكون الحكم وفق الإسلام في العراق. وكيف يقول هذا الكلام وهو يرفع شعار حرية شعب العراق؟ ومعنى الحرية: أن تتاح للناس فرصة لإدارة أنفسهم وفق آرائهم. فكيف يفرض عليهم رأيه وطرقه؟ فهذا دليلٌ على أن أعمالهم فوق الشعارات التي يطرحونها، وإنهم يسيرون لنشر هيمنتهم على العالم، ودعم إسرائيل حيث أن التقارير تؤكد أن للموساد وللصهاينة دوراً كبيراً داخل العراق. وقد أثبت الأمريكيون حماقتهم خاصة في ممارساتهم الأخيرة في العراق.

وما يُمكن المراهنة عليه بعد الدعاء إلى الله تعالى هو وعي ونضج الشعب العراقي، إذ أثبت الشعب العراقي ذلك للعالم كله، حيث لم يكن متوقعاً أن يتحلى بهذا المستوى من الوعي والنضج مع كل ذلك التاريخ وتلك الحقبة التي قضاها تحت عنجهية وغطرسة صدام، ولكن الشعب العراقي تحلى بوعي ونضج في علاقاته بين بعضه بعضاً وفي إدارته لأموره وشؤونه، في إصراره على استقلاله ونيل حريته، ولنا أملٌ كبير بعون الله تعالى وتوفيقه للمؤمنين وللناس الطيبين في العراق لأن يواصلوا هذا المسار.

والتفاف الشعب العراقي حول القيادة الدينية هو أمر بحد ذاته يستحق الإكبار والإجلال. والجميع يعرف أن المرجعية الدينية الموجودة في العراق المتمثلة في مرجعية السيد السيستاني (حفظه الله) ليس لها حزبٌ يدعوا لها أو يدافع عنها، ولم تمارس دوراً سياسياً يدفع الناس باتجاهها، ولكن الشعب بدافعٍ ديني التف حول هذه القيادة الدينية وألقى أزمة أموره بين يديها. وهذه دلالة واضحة على عمق التدين عند أبناء الشعب العراقي.

إضافةً إلى التآلف الموجود بين الناس في العراق، حيث توقع الكثيرون أنه بمجرد أن يسقط النظام سيتقسم العراق، وستكون هناك حروبٌ أهلية، ولكن الله تعالى قد خيب كل هذه الظنون.

وقد حصلت فتنٌ ضخمة في العراق، لو أن أي واحدة منها حصلت في أي بلدٍ آخر لأوجدت حروباً أهلية طاحنة، ومن ذلك ما حصل في كربلاء والكاظمية والنجف الأشرف عند استشهاد السيد الحكيم –رحمه الله، وكذلك اغتيال مجموعة من أئمة أهل السنة في بغداد ، وكلها فتن ومؤامرات تريد أن يتقاتل العراقيون فيما بينهم، ولكن الشعب العراقي إلى الآن يتحلى بضبط النفس.

نسأل الله تعالى أن يستمر الشعب العراقي في هذا الطريق الواعي والناضج، وأن يلتف حول قياداته الدينية، وأشعر بتفاؤل كبير رغم الآلام والمصاعب، ولكن هذه المرحلة بمثابة مخاض صعب، وولادة عسيرة شاقة، والنتيجة ستكون إن شاء الله طيبة للشعب العراقي وللمنطقة كلها.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله الطاهرين