الشيخ الصفار يدعو لمعالجة البيئة العربية كونها منتجة للصراعات والنزاعات

مكتب الشيخ حسن الصفار القطيف: تركي مكي علي

بارك سماحة الشيخ حسن الصفار للشعب اللبناني الاتفاق الذي توصل إليه الزعماء السياسيون في الدوحة، متمنياً ان يكون ذلك الاتفاق إيذاناً بمرحلة جديدة من الوفاق بين أطراف الساحة اللبنانية، يمكنها من البناء والاعمار ومواجهة أي عدوان صهيوني.

ودعا الشيخ الصفار إلى دراسة وضع البيئة العربية كونها منتجة للصراعات والنزاعات، مشيراً إلى أن هناك ثلاثة أسباب رئيسة، وراء فقدان السلم والاستقرار الداخلي، وهي غياب النظام السياسي العادل، وتجذر العصبيات القومية والمذهبية والقبلية، ودور القوى الخارجية وعلى رأسها أمريكا وإسرائيل في تغذية وتشجيع النزاعات والخلافات داخل العالم العربي والإسلامي.

وفي سياق آخر وجّه الشيخ الصفّار خطابه للمجتمع بأن يُعلن حالة الطوارئ لتجاوز العادات والتقاليد التي باتت تُكبّل حركته وتُعرقل مسيرته، وخصوصاً تلك التي ترتبط بمراسيم الزواج ومن أهمها عادة الإسراف والتبذير، والمبالغة في حفلات النساء، مطالباً النساء العاملات بدورٍ ريادي في سبيل تخطي هذه العادات السبية، ومؤكداً على ضرورة أن يتحمل كل فردٍ في المجتمع مسؤوليته تجاه هذا الواقع، وأن يكون شجاعاً في التمرد على هذه الأغلال والقيود.

افتتاح:

الحمد لله الأول فلا شيء قبله، والاخر فلا شيء بعده، والظاهر فلا شيء فوقه، والباطن فلا شيء دونه. نحمده على ما كان، ونستعينه من أمرنا على ما يكون، ونسأله المعافاة في الأديان، كما نسأله المعافات في الأبدان.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ونجيبه وصفوته، لا يُوازى فضله، ولا يُجبر فقده، أضاءت به البلاد بعد الضلالة المظلمة، والجهالة الغالبة. صلى الله عليه وآله الميامين، الأئمة الطاهرين، الهادين المهديين.

الخطبة الأولى

أكد الشيخ الصفار في بداية خطبة الجمعة 18 جمادى الأول 1429هـ (23 مايو 2008م) أن النزاعات والصراعات على مختلف الصعد تُخلّف وراءها تباعات وخسائر جسيمة، وإذا كانت أمام الإنسان فرصة للتخلص من نزاع قد تورّط فيه فعليه أن يغتنم هذه الفرصة، ولا يُفوّتها على نفسه، ذلك لأن تجنب العداء مع أي جهةٍ كانت أمرٌ عقلائي، وكما يقول الحكماء: (عدوٌّ واحد كثير، وألف صديق قليل). مضيفاً: إن النزاعات والصراعات ليست محصورة في إطارٍ دون آخر، وإنما هي في مختلف الصعد سواءً الشخصي أو العائلي أو الاجتماعي أو السياسي، في إطار الفرد أو المجتمع. وشدد على ضرورة أن لا يغتّر الإنسان بقوّته فقد يتأتي الضرر من جهةٍ لا يُتوقّع منها ذلك، مشبّها هذه الحالة بموقف الإنسان من البعوضة حيث تستطيع أن تؤذيه على صغر حجمها.

 وأشار إلى أن القرآن الحكيم أقرّ قاعدةً عامة في موضوع النزاع والخصومة، يقول تعالى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (النساء، 128)، فالصلح على إطلاقه خيرٌ من النزاع والصراع، إلا أن طبيعة النفس الشحيحة والتي تحرص على مصالحها مهما كانت قليلة، هي التي تولّد لدى الإنسان اندفاعاً باتجاه عدم التسامح، واجتناب النزاع. والله تعالى يؤكد في كثير من الآيات حُسن الصلح، وقبح النزاع، ويدعوا لمجاهدة النفس لتكون منقادة للصلح والخير، بدل أن تتجه نحو النزاع والخصومة، يقول تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (الأنفال، 61). وأمير المؤمنين حينما سمع أصحابه يسبون أهل الشام ايام حربهم بصفين، قال لهم: ((إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين ولعّانين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم، كا أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: اللهم أحقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به)). وفي عهده لمالك الأشتر، يقول : ((ولا تدفعنّ صلحاً دعاك إليه عدوّك ولله فيه رضى، فإن في الصلح دعة لجنودك، وراحةً من همومك، وأمناً لبلادك)).

وأبدى الشيخ الصفار فرحته بإتفاق الدوحة الذي جمع الزعماء السياسيين اللبنانيين، معرباً عن استحقاق الشعب اللبناني لهذا الحدث الكبير فقد ناضل هذا الشعب، وأبدى بسالة وشجاعة على يد المقاومة الإسلامية الباسلة في مواجهة العدوان الصهيوني الغاصب، وكان لأحداث تموز 2006م أكبر الأثر في تغيير معادلة الصراع مع إسرائيل.

وسلّط الضوء على واقع البيئة العربية التي تُعتبر من أبرز البيئات إنتاجاً للصراع والنزاع، مؤكداً أن الطريق الأمثل لمواجهة حالات النزاع والصراع المتأججة في واقع الأمة العربية لا يتأتي من خلال عقد المؤتمرات والحوارات عند بروز أي نزاع، وإنما يتحقق من خلال معالجة البيئة العربية من أساسها لتكون بيئة منتجة لمقومّات السلم والوفاق، وليس العكس وهو ما تعيشه الأمة العربية اليوم من إنتاج متفاقم لحالات الصراع والنزاع في مختلف المناطق العربية، كالصومال والسودان والعراق ولبنان واليمن.

وأفرد ثلاثة أسباب اعتبرها أهم الأسباب وراء كون البيئة العربية منتجة للصراعات والنزاعات:

أولاً- غياب النظام السياسي العادل، الذي ينبثق من قبول شعبي، وتتساوى فيه الحقوق والفرص، ويكون فيه تداول سلمي للسلطة. مشيراً أن هذا الأمر طبيعي في مختلف دول العالم المتقدمة، فلماذا تقبع الأمة العربية في واقعٍ مظلم يسوده الاستبداد والقهر، مؤكداً أن المظلومين إذا تحملوا الواقع الظالم لفترة من الزمن فإن ذلك لن يدوم طويلاً، وستكون لهم ردة فعلٍ عنيفة مع أقل فرصة تتاح لهم، من هنا فإن وجود نظام سياسي عادل يحمي البلاد العربية من تأجج الصراعات بين حين آخر. مطالباً النخبة السياسية في العالم العربي باتخاذ القرار الجاد تجاه هذا الواقع السياسي.

ثانياً- العصبيات القائمة: عرقية، قبلية، ومذهبية، وهي تكشف عن خلل في واقع النخبة الدينية والفكرية. والأسوء من وجود هذه العصبيات تزايد حالات الإثارة والتعبئة المضادة بين مختلف الفئات في المجتمع العربي.

وأضاف: وجود تحليل سياسي لأي فرد على حدثٍ ما في الساحة السياسية، أمرٌ طبيعي، ومن حق أي أحد أن يكون له رأيه الخاص وتعاطفه مع أي جهة يُريد، إلا أن الأمر غير الطبيعي هو أن تُفرض الآراء السياسية، أو أن تكون مثاراً لإثارة النعرات الطائفية في الساحة. وأبدى استغرابه من سقوط بعض العلماء والمثقفين في وحل النزاعات الطائفية، رغم أن الساحة العربية مليئة بالموضوعات الأكثر أهمية إلا أن البعض ينجرّون إلى مثل هذه الصدامات بمبرر أو بدون مبرر.

مشيراً أن الواقع السياسي الذي تعيشه الأمة العربية له أثره أيضاً على الواقع الفكري والثقافي فغياب الهوية المشتركة والحاضنة للجميع من شأنه أن يدفع الناس للاحتماء بهوياتهم الفرعية الخاصة.

وأثار تساؤلاً يطرح نفسه: إذا كان للسياسيين مبرراتهم في خوض النزاعات لتحقيق جانب من المصالح السياسية، فما بال العلماء والمثقفين الذين ينجرون لهذه الصراعات والنزاعات التي ستأتي على ما بقي من مكانةٍ للأمة بين الأمم؟ مؤكداً أن لا مبرر لهم، وعليهم أن يستيقظوا من سباتهم قبل فوات الأوان.

ثالثاً- دور الخارج، المتمثل في القوى الغربية وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، وحليفتها المدللة إسرائيل، إذ لا تقرّ لهم عين ما لم يُثيروا الفتن والصراعات تطبيقاً لنظرية الفوضى الخلاقة. فتراهم يُعرقلون كل مبادرات الصلح والسلام في الأوساط العربية، وما شهدته الساحة اللبنانية من أحداثٍ خير شاهدٍ على محاولاتهم التي ترفض حصول الصلح، وقد طرحت واشنطن علامات استفهام حول إعطاء جماعة 14 آذار الثلث المعطّل للمعارضة وطلبت إيضاحات، كل ذلك تأكيداً على رغبتهم في تمزيق الصف العربي.

وأكد أن الخارج لا يتأتى له ذلك إلا عندما تكون الساحة العربية خصبة، ومستقبلة لمؤامراته، لذا فإن الحل هو في إصلاح الواقع العربي، وليس في إلقاء اللائمة على الخارج فقط.

واختتم الشيخ الصفار خطبته بتوجيه نداءٍ عاجل لجميع السياسيين والعلماء والمثقفين في العالم العربي لمعالجة هذا الواقع المرير الذي يقبعون فيه، من أجل أن تصل الأمة العربية إلى مرحلة الاستقرار والنضج العام في مختلف الأبعاد السياسية والاجتماعية.

الخطبة الثانية

أكد الشيخ الصفار في خطبته الثانية أن المجتمعات تُعاني من وجود بعض الأغلال والقيود التي تُكبّل حركتها، وتُعرقل مسيرتها، وتتفاوت المجتمعات في مدى تعاطيها مع هذه الأغلال والقيود.

مضيفاً: إن مجتمعنا يُعاني من بعض الأغلال التي باتت تُشكّل عبئاً كبيراً على المجتمع، وأصبح يئن منها، إلا أن المشكلة هي في الاستجابة لهذه الأغلال، ووجود الصعوبة البالغة في الوقوف أمامها. مؤكداً أن الشعور بالعرف الاجتماعي الضاغط هو الذي يدفع باتجاه الاستجابة لهذه الأغلال والقيود.

وأشار إلى أن رسالة النبي جاءت من أجل رفع الأغلال التي يُكبّل المجتمع بها نفسه، ثم يئنُّ منها، يقول تعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ (الأعراف، 157). ويقول الإمام علي محذراً من خطورة الاستجابة للعادات: ((غالبوا أنفسكم على ترك العادات، وجاهدوا أهواءكم تملكوها)).

وسلّط الشيخ الصفار الضوء على بعض عادات مراسيم الأفراح والأعراس، والتي باتت مكبّلة للمجتمع، ومن أبرز تلك العادات:

أولاً- الإسراف والتبذير والنفقات الكبيرة على مراسيم الأفراح، بدءً من بطاقات الزواج، وانتهاءً بمراسم العرس. مؤكداً أن الأمر واضحٌ جداً والمجالس حافلةٌ بالحديث عن هذه العادات حيث التضجّر منها، وذمّها، بينما المفارقة العجيبة تكمن في استجابة الجميع لها، بدعوى ليس باليد حيلة.

وانتقد الشيخ الصفار بشدة الطريقة المتبعة للضيافة في الأعراس، بوضع الصحون الكبيرة المملوئة بالرز واللحم والتي لا يستهلك منها إلاّ جزء بسيط ويرمى الباقي، واصفاً إياها بالمتخلفة، وداعياً إلى ضرورة تجاوزها، مؤكداً أنها لا تُمارس إلا في واقعنا الخليجي.

ثانياً- المبالغة في حفلات النساء، حيث التباهي بأفخم الصالات، وأرقى الملبوسات، وأرقى أنواع الضيافة، وكل ذلك على حساب الأسرة، والجيل القادم. وفوق ذلك كله مستوى التأخير في حفلات النساء فاق المستوى المعقول، حيث التأخير إلى قرب طلوع الفجر، وبالتأكيد فإن لذلك مضاعفاتٌ كبيرة على الاستقرار الأسري، لكثير من الأسر في الواقع الاجتماعي.

مهيباً بالأخوات العاملات في المجال الديني والثقافي والاجتماعي أن تكون لهنّ مبادرة في سبيل تخطي هذه المرحلة حيث تسيطر هذه العادات على واقع الأعراس في المجتمع. ضارباً مثلاً مميزاً للملتقى النسائي بجدة، حيث نظّم حملة توعوية ضد العادات السلبية في حفلات الأعراس، داعياً الأخوات في المنطقة لاتخاذ خطوات رائدة في هذا المجال.

وفي ختام الخطبة وجه الشيخ الصفار خطابه للجميع بأن يتحمل كل فردٍ مسؤوليته تجاه هذا الواقع، وعندما يصل الأمر إليه، فعليه أن يكون شُجاعاً وجريئاً في التمرد على هذه الأغلال والقيود، لينتقل من مرحلة التنظير إل مرحلة التطبيق.

والحمد لله رب العالمين