الإمام الحسن ومحاولات اغتيال الشخصية
يقول تعالى: ﴿كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ [سورة المائدة، الآية: 70].
الإنسان شخص وشخصية، الشخص هو الكيان المادي الجسمي، والشخصية هي الكيان المعنوي والمقام الاعتباري للإنسان، في أنظار المحيطين به، بما له من سمعة واحترام.
قد يتعرّض الإنسان لعدوان يستهدف قتله وتصفيته الجسدية، وهذا اغتيال لشخصه، وقد يتعرّض لعدوان يستهدف إسقاط مكانته المعنوية وسمعته واحترامه بين الناس، وهذا اغتيال للشخصية.
لماذا يغتالون الأنبياء؟
يحدّثنا القرآن الكريم أنّ معظم الأنبياء تعرّضوا من قبل أعدائهم لهذين النوعين من المحاولات: تصفية أشخاصهم بالقتل، وإسقاط شخصياتهم بالاتهامات الباطلة.
﴿فَرِيقًا كَذَّبُوا﴾ أي اتهموهم بما يبرر تكذيبهم، كالافتراء والسحر والجنون، وهو ما يمثل محاولات اغتيال الشخصية.
﴿وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ أي يقومون بتصفيتهم جسديًّا، واغتيال أشخاصهم.
وهدف الصنفين من المحاولات، هو محاصرة دعوة الأنبياء، وحجب تأثيرها على الناس، ومنع استجابتهم لها، إما بالقضاء على وجود النبي، أو بإسقاط شخصيته، وتشويه سمعته، فلا يتأثر الناس به.
ويتحدّث القرآن الكريم عن نبي الله نوح نموذجًا على هذا الصعيد، يقول تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ [سورة نوح، الآيات: 5-9].
جاء في بعض الأخبار أنّ الرجل منهم كان يذهب بابنه إلى نوح، فيقول لابنه: احذر هذا، لا يغوينّك، فأراني قد ذهب بي أبي إليه وأنا مثلك، فحذرني كما حذّرتك[1] .
وبقي هذا الأسلوب متبعًا في التعامل مع أوصياء الأنبياء وأئمة الهدى، والمصلحين في مسيرة المجتمعات البشرية، حيث يُستهدفون في أشخاصهم وشخصياتهم، وحتى بعد انتهاء حياة أشخاصهم، قد يستمرّ الاستهداف لشخصياتهم بتشويهها، لمنع تأثير هديهم ومنهجهم في الأجيال اللاحقة.
استهداف الإمام الحسن
والإمام الحسن بن علي، سبط رسول الله وريحانته، وأحد سيدي شباب أهل الجنة، كما ورد عن رسول الله
فيه وفي أخيه: «الحَسَنُ والحُسَينُ سيِّدَا شَبابِ أهلِ الجَنَّةِ»[2] ، كان غرضًا لمحاولات الاستهداف، لتصفية شخصه وشخصيته، فقد تعرّض لعدة محاولات اغتيال في حياته، إحداها في المدائن، حين كان يقود جيشه لمواجهة جيش معاوية، قبل الصلح، وخطب في أصحابه مشيرًا إلى احتمال قبوله الصلح، فتصايح بعضهم في جيشه صارخًا: (كَفَرَ وَاَللَّهِ اَلرَّجُلُ)!! وبادر رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهُ اَلْجَرَّاحُ بْنُ سِنَانٍ، وطعن الإمام في فخذه، وهو يقول: (اللهُ أَكْبَرُ! أَشْرَكْتَ يَا حَسَنُ كَمَا أَشْرَكَ أَبُوكَ مِنْ قَبْلُ)[3] !، وحُمِلَ الإمام جريحًا.
كما أنه سُقِيَ السّم مرارًا، كما ورد عنه
أنه قال عند إصابته الأخيرة بالسّم: «لَقَدْ سُقِيتُ السُّمَّ مِرَارًا، وَمَا سُقِيْتُهُ مِثْلَ هَذِه الْمَرَّةِ»[4] وهكذا انتهت بها حياته في السابع من صفر سنة 50 للهجرة، وعمره 48 سنة.
اغتيال شخصية الإمام
أما محاولات اغتيال شخصيته فكانت متعددة أيضًا، في حياته وبعد وفاته، ونقف هنا عند إحدى المحاولات، وهي اتهامه في سيرته الزوجية والعائلية، لتشويه سمعته وإسقاط شخصيته.
فالرجل الذي قال رسول الله في حقه «اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُ فأحِبَّهُ»[5] . وقال فيه وفي أخيه الحسين: «مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي»[6] .
وقال فيهما: «اَلْحَسَنُ وَاَلْحُسَيْنُ هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ اَلدُّنْيَا»[7] .
الرجل الذي بايعه المسلمون بعد استشهاد أبيه أمير المؤمنين علي خليفة على الأمة وقائدًا لمسيرتها، حيث بايعه أهل الكوفة وأهل البصرة والمدائن وبلاد فارس، والحجازيون واليمنيون، وجميع الأمصار الإسلامية، عدا معاوية في الشام ومن تبعه.
والرجل الذي تحدّث الصحابة والتابعون عن علمه وفضله وسخائه وحلمه، حاولت الجهات المناوئة تشويه شخصيته وسيرته، وتصويره كرجل شهواني، مهموم بالجنس، وبكثرة الزواج والطلاق، فقد نقل ابن أبي الحديد: أنّ المدائني (توفى 225هـ) قال: أحصيت زوجات الحسن بن علي فكنّ سبعين امرأة[8] .
وفي سير أعلام النبلاء: أَحصَنَ الحَسَنُ تِسْعيْنَ امْرَأَةً[9] .
ونقل ابن شهراشوب في المناقب عن محمد بن علي المكي (توفي 383 أو 386هـ) قوله: تزوج الحسن بن علي مئتين وخمسين، وقيل ثلاثمئة[10] .
ونقل النوري في مستدرك الوسائل عمّن قال: تزوج الحسن بن علي أربعمئة وثمانٍ وأربعين زوجة[11] .
ولعلّ الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور، هو من أطلق هذه الإشاعة في غمرة مواجهته لثورات الحسنيين، حيث نقل عنه المسعودي في مروج الذهب، أنه خطب بعد إلقاء القبض على الثائر عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي، الذي مات في سجنه سنة 145هـ، وقال في خطابه عن الإمام الحسن (أقبل على النساء يتزوج اليوم واحدة ويطلّق غدًا أخرى، فلم يزل كذلك حتى مات على فراشه)[12] .
وواضح أنّ هدف هذا الافتراء، هو التشكيك في جدارة الإمام الحسن للقيادة والإمامة، وأنه رجل مشغول ومهموم بالجنس والنساء.
تأكيد الفرية في روايات الشيعة
والأمر الغريب المدهش، وجود روايات في مصادرنا الشيعية المعتمدة، تؤكد هذه الفرية، فقد جاء في كتاب الكافي عن أبي عبدالله جعفر الصادق : «إِنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ
طَلَّقَ خَمْسِينَ امْرَأَةً، فَقَامَ عَلِيٌّ
بِالْكُوفَةِ فَقَالَ: يَا مَعَاشِرَ أَهْلِ الْكُوفَةِ، لَا تُنْكِحُوا الْحَسَنَ فَإِنَّهُ رَجُلٌ مِطْلَاقٌ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: بَلَى وَاللَّهِ لَنُنْكِحَنَّهُ فَإِنَّهُ ابْنُ رَسُولِ اللهِ
وَابْنُ فَاطِمَةَ
فَإِنْ أَعْجَبَتْهُ أَمْسَكَ وَإِنْ كَرِهَ طَلَّقَ»[13] .
ومثلها رواية أخرى في الكافي، عن الإمام جعفر الصادق أيضًا: «إِنَّ عَلِيًّا قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: لَا تُزَوِّجُوا الْحَسَنَ فَإِنَّهُ رَجُلٌ مِطْلَاقٌ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ فَقَالَ: بَلَى وَاللهِ لَنُزَوِّجَنَّهُ وَهُوَ ابْنُ رَسُولِ اللهِ
وَابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ»[14] .
والأكثر إثارة للغرابة والدهشة أنّ بعض علمائنا الأجلّاء، انشغلوا بالدفاع عن هذه الروايات وطرح المبررات لها.
بمثل القول: إنّ أولياء النسوة كانوا يعرضون بناتهم عليه بالتزويج بهن لنيل شرف مصاهرته، وأنه إنما تزوج بهذا العدد الكبير من النساء لنشر نفوذه داخل القبائل والعشائر، ولتقوية شوكته تجاه الأمويين، وأنّ ذلك ينسجم مع ترغيب الدين في كثرة التناكح والتناسل، وردًّا على إشكال كثرة طلاق الإمام لزوجاته، مع وجود روايات تدلّ على مبغوضية الطلاق، أجاب بعض العلماء؛ أنّ الطلاق مبغوض إذا كان بدون رضا الزوجة، ولعلّ تطليق الإمام كان برضاهن ورغبتهن[15] .
وهناك من علمائنا المحققين من ردّ هذه الروايات، وناقشها من منظار عقدي، وأخلاقي، وتاريخي، ووثائقي، ليثبت عدم صحتها.
فالروايات الحديثية والتاريخية التي تحدّثت عن كثرة زواج الإمام الحسن وطلاقه، من حيث التوثيق السندي، فاقدة للاعتبار، ومضمونها يتنافى مع ما هو ثابت ومعروف من سمو أخلاق الإمام الحسن
، وكمال شخصيته وعظيم فضله، وما ذكره التاريخ من عدد وأسماء زوجات الإمام، وعدد أولاده وأسمائهم، يؤكد كذب هذا التهويل والتهريج، وأنه مجرّد تهمة رخيصة تستهدف تشويه شخصية الإمام
.
ولسنا الآن بصدد استيعاب مناقشة الموضوع، لكننا نذكره كنموذج لمحاولات اغتيال شخصية الإمام الحسن .
اغتيال شخصيات المصلحين
وبهذه المناسبة يهمنا التأكيد على أمرين:
الأول: أهمية اليقظة والوعي بأساليب الأعداء في محاصرة دعاة الخير والإصلاح في المجتمعات وتشويه شخصياتهم، لإسقاط احترامهم، ومنع تأثيرهم الاجتماعي، وإبعاد الناس عن الالتفاف حولهم.
وكثيرًا ما عانى المصلحون في مجتمعات الأمة من محاولات الاغتيال لشخصياتهم بمختلف التهم المصطنعة والملفقة.
والمؤسف أنّ ساحتنا الدينية تعاني كثيرًا من سوء إدارة الاختلاف في الرأي، أو تضارب المصالح، الذي يتحول إلى حملات تشويه وتعبئة مضادة متبادلة، تستخدم فيه فتاوى التكفير والتبديع والتضليل، واختلاق التهم لإسقاط الشخصية.
فلا بُدّ من الحذر والوعي، حتى لا يكون الإنسان جزءً أو شريكًا في اغتيال شخصيات المصلحين، أو يستدرج إلى معارك فئوية للتعبئة ضدّ هذا الرمز أو تلك الشخصية.
ورد عن الإمام جعفر الصادق : «مَنْ أَعَانَ عَلَى مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَبَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اَللهِ»[16] .
إنّ الدين يؤكد على حرمة شخصية الإنسان، كما يؤكد على حرمة شخصه وماله، وكما يحرّم سفك الدم فإنه يحرّم انتهاك الحرمات.
ورد عن النبي : «اَلْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ اَلنَّاسُ مِنْ يَدِهِ وَلِسَانِهِ»[17] .
وعنه : «إنَّ دِماءَكُم وأمْوالَكم وأعْراضَكُم حرامٌ»[18] .
ويشبّه الله تعالى النيل من سمعة الآخرين بالأكل من لحومهم.
يقول تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ [سورة الحجرات، الآية: 12]
بل جاء في حديث عن رسول الله : «مَنْ هجَرَ أخاهُ سَنةً، فهوَ كَسَفْكِ دَمِه»[19] ، وذلك يعني أنّ مقاطعتك لأخيك المسلم، قد تعني مشاركتك في اغتيال شخصيته، وهي تشبه المشاركة في قتله.
فلنكن حذرين جدًّا من أيّ دور أو مشاركة في النيل من سمعة أحد من المؤمنين.
منهجية النقد للروايات
الأمر الثاني: تعزيز رؤية التعامل مع الأحاديث والروايات الواردة في مصادر التراث بمنهجية التمحيص والتحقيق والنقد والتقويم، فلا يكفي وجود الحديث في مصدر معتبر، ولا ورود الحديث بسند معتبر، بل لا بُدّ من عرض متنه على كتاب الله تعالى، وعلى السنة الثابتة، ومرئيات العقل السليم.
فإنّ تراثنا مخترق من قبل الوضّاعين والدّساسين، كما نصّ على ذلك أئمة أهل البيت ، فقد ورد عن الإمام جعفر الصادق
: «إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ صَادِقُونَ لاَ نَخْلُو مِنْ كَذَّابٍ يَكْذِبُ عَلَيْنَا فَيُسْقِطُ صِدْقَنَا بِكَذِبِهِ عَلَيْنَا عِنْدَ اَلنَّاسِ»[20] .