من نور القرآن

الشيخ حسن الصفار *
تدبُّر الأمر: تأمُّله والنظر في إدباره وما يؤول إليه في عاقبته ومنتهاه ، ثم استعمل في كل تأمل ؛ فمعنى تدبر القرآن: تأمل معانيه وتبصر ما فيه والتدبر: التفهم في دبر الأمر، أي مايخفى منه وهو مشتق من دبر الشيء أي خلقه.

والأقفال ، جمع قفل ،وهي في الأصل من مادة القفل أي الرجوع، أو من القفيل، أي الاشياء اليابسة ولما كان المتعارف أنهم إذا أغلقوا الباب وقفلوها بقفل، فكل من يأتي يقفل راجعاً، ولما كان مايقفل به موجود صلب لا ينفذ فيه شيء، وهو مايوصد به الباب ليمنع الآخرين عن دخوله واجتيازه ، وهذه استعارة لقلب الإنسان الذي انصرف عن حقيقة المعرفة حتى ختم الله على قلبه وجعله مقفلاً لايستقبل معنى القرآن وعظمته

و قفيل ، مايبس من الزرع فما عاد ينتفع بأشعة الشمس ولا بالهواء ، وعلى هذا تكون الاستعارة على معنى أن القلب إذا أهمل كتاب ربه فلم يتدبر معانيه وأعراض آياته فكأنه الشجرة اليابسة التي افتقدت نضارتها وقوتها فما عادت تنتفع بما حولها من تربة وماء وضياء.

وهذه الآية ( 24 ) من سورة محمد قد جاءت في سياق الحديث عن المنافقين الذين يستمعون آيات القرآن ويتلونها لكنهم لا يتفاعلون مع مراميها ومقاصدها.

وشبيه بهذا السياق جاءت الآية الثانية في سورة النساء ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (النساء:82)

أما الآيات التي أشارت إلى ضرورة تدبر القرآن الكريم ولزوم الأخذ به فقد احتلت حيزاً واسعاً من القرآن يعرفها من تلا وتدبر ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (صّ:29)

ونحن نقرأ القرآن ونرى كافة المسلمين يقرؤون القرآن ولكن من المؤسف جداً أن هذه القراءة تبقى قراءة سطحية قشرية ظاهرية ، لاننفذ من خلالها إلى معاني القرآن و مضامينه ، ومن هنا تجد أن حياة المسلمين في غالبهم تصطدم اصطداماً واضحاً وظاهراً مع آيات القرآن التي يقرؤونها ، يقرؤون القرآن ولكن ليس هناك تفاعل مع القرآن ، لأن أول مرحلة من مراحل التفاعل مع القرآن فهم ما تريده الآية ، فهم معنى الآية ، أن يتدبر في الآية ليعرف النتيجة التي تريد الآية أن توصله إليها ، لأن التدبر من دبر الشيء ومن خلفيته ، ولكن عامة الناس لايكلفون أنفسهم جهداً من أجل أن يفهموا معاني الآيات ، فيقرأ القرآن في الفواتح ، في الصلاة ، في المناسبات .. ولكن لايكاد يكون هناك تأثير لهذه القراءة على واقع هؤلاء القارئين ، ومن أهم الأسباب أنهم يقرؤون ولايفهمون ، أشبه شيء بإنسان يقرأ كلمات من لغة أخرى تعبداً كما يقرأه غير العرب للتعبد وإن كان لايعرف معناه ..

وهناك ثقافة كرست هذه الحالة ، وهي القول بأن الإنسان العادي لايستطيع أن يفهم معاني القرآن ، والعلماء والمفسرون هم فقط من يعلم معاني القرآن ، وهذه الثقافة هي التي باعدت بين الناس وبين التدبر في القرآن الكريم ، وهي ثقافة خاطئة ، القرآن الكريم يدعو الناس – كل الناس إلى تدبره والتأمل فيه ، فالله سبحانه يقول ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (صّ:29) فإنما أنزل القرآن لا لتقرأ آياته فقط ولكي يتبرك بآياته فقط ، وإنما ليدبروا آياته ليفهموا معاني هذه الآيات وخلفيات هذه الكلمات

وقد يقول البعض إن آيات القرآن غامضة لانستطيع نحن أن نفهما ، هناك شيء من الصحة النسبية في هذه المقولة بسبب المشكلة اللغوية التي أبعدت بيننا وبين لغتنا لغة القرآن الكريم وظهرت لدينا اللهجات المحلية تبدلت على إثرها معاني بعض الكلمات، ولكن هذا قد يصدق على بعض الكلمات وبعض الآيات، ولايصدق على الأكثر منها ،و القرآن الكريم يرد هذا المعنى بكل قوة وهو يقول ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (القمر:17 – 22 – 32 – 40 ) فالقرآن ليس غامضاً وليس معقداً وليس صعباً ،وهذه الآية الكريمة في سورة القمر تكررت أربع مرات ، وفي آية أخرى يقول سبحانه ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (آل عمران:138) فهو لكل الناس وليس لنخبة من الناس وهم العلماء ، ومن ذلك قول الإمام زين العابدين : « آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزينة ينبغي لك أن تنظر ما فيها»

نعم آيات الأحكام قد يحتاج الإنسان إلى مقدرة معينة وخبرة حتى يتمكن من استنباط الحكم الشرعي منها ، ولكن حتى بعض آيات الأحكام يمكن أن يفهمها الإنسان العادي لأنها واضحة ، وفي رواية جميلة أن عبد الأعلى مولى آل سام قال قلت لأبي عبد الله الصادق : عثرت فانقطع ظفري ، فجعلت على إصبعي مرارة – دواء ، جبيرة - فكيف أصنع بالوضوء ؟ فقال : « يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل ، قال الله عز وجل ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (الحج: من الآية78) امسح عليه »

فالإمام يعلمه كيف يستنبط الحكم الشرعي هنا – وليس هذا الحكم فقط ، بل ( هذا وأشباهه ) – فبإمكان كل مسلم أن يأخذ بهذه القاعدة العامة ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وأي حكم ديني يكون في تطبيقه حرج على الإنسان فإن الله تعالى لا يأمره أن يطبقه بتلك الصورة الحرجية ، وإنما ينتقل تكليفه إلى الصورة التي لا تسبب له حرجاًَ ، وقد نقل صاحب الميزان رضوان الله تعالى عليه عن مجمع البيان قوله ( وفي هذا – إشارة إلى آية التدبر – دلالة على بطلان قول من قال لايجوز تفسير شيء من ظاهر القرآن، إلا بخبر وسمع ) ( الميزان 18 / 261 )

إن القرآن الكريم يؤكد أنه نزل للتطبيق لا للتنظير ، نزل لإسعاد البشرية واستنقاذها من براثن الشيطان الرجيم ، وأغلال التراب.. ، من التكبر في الأرض من استنزاف قوى الضعفاء بل من الضعف والدعة ، من الجهل والتخلف والهوى ..

والآية الشريفة ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا إذ تأمرنا بالتدبر في كتاب الله لم تحدد فئة المتدبرين ، معلنة بذلك أن القرآن شرعة لجميع البشر ، والواجب عليهم - جميعهم - أن يتدبروا فيه ويستخرجوا كنوزه ، ويستظلوا بظله

ولو رجعنا إلى واقعنا العملي اليوم لوجدنا حظنا من تدبر القرآن ضئيلاً جداً بقدر ضآلة حظنا من الحضارة وهذا من سنن الله سبحانه ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (لأعراف:96)

ولو قارنا أوضاعنا بأوضاع الأمم الأخرى لوجدنا أنفسنا في جوانب كثيرة مسلمين بلا إسلام ،بينما يتمتع غيرنا بتطبيق كثير من السنن التي أكدها الإسلام و يعيش غيرنا حالة الإسلام ولامسلمين ، ذلك لأننا نجد روح التدبر والتأمل في كل شأن من شؤون الحياة ، يتأملون في الذرة كما
يتأملون في المجرة ، ويكتشفون السنن الكونية التي أمرنا القرآن بالتدبر فيها ، ويطبقون السلوك القرآني الذي نادى به القرآن من التنظيم والاحترام وتحمل المسؤوليات ..

– وهذا ليس مدحاً فيهم على إطلاقه وإنما نحن نحتاج لأن ننظر إلى العالم بنظرة واقعية لنأخذ الجيد ونترك الخبيث كما يأمرنا القرآن الحكيم.

إننا بحاجة إلى الاقتراب من آيات القرآن الكريم وأن تكون لدينا ثقة بأنفسنا أننا قادرون على تفهم آيات القرآن وأن نطبقها على أرض واقعنا ، والله يحثنا على ذلك ويعيننا عليه ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (القمر:17)

ويمكننا أن نشير في نقاط موجزة إلى ما يمكننا أن نصل إليه عبر التدبر والتفكر في مضامين القرآن الكريم :

1- التدبر في القرآن يعني الاستفادة من آياته والتأثر بها ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (المائدة:83)

2- التدبر في القرآن يعني فهم قيمه وأفكاره ومبادئه ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (المائدة: 15 - 16)

3- التدبر في القرآن يعني معالجة المشاكل الإنسانية بطريقة قرآنية ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً (الإسراء:82)

التدبر في القرآن يعني العمل بما فيه ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (صّ:29) .

﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا