ليلة العرس والزفاف

الشيخ حسن الصفار *
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين


ليلة العُرْس هي البداية الفعلية لتأسيس الحياة الزوجية، فإجراء عقد الزواج يعتبر إرساءً لمشروعية العلاقة بين الطرفين، وأنهما أصبحا زوجين بحكم الشرع، لكن مع وقف التنفيذ وتأجيله عرفاً، وبالزِّفاف يدخل إتفاق الزوجية حيز التنفيذ والتجسيد العملي، حيث يبدأ الزوجان حياتهما الواحدة المشتركة، بالعيش في سكن واحد، والتعاون في برنامج حياتي مشترك.

وليلة العُرْس تشكل منعطفاً هاماً ونقطة تحوّل في حياة الزوجين، ففيها يغادران مرحلة العزوبة وحالة الفردية، والتبعية لعائلتيهما، ليكوّنا حياة زوجية يرتبط فيها مصير كل منهما بالآخر، وليصبحا كياناً اجتماعياً مستقلاً، ونواة لأسرة جديدة نامية.

والزِّفاف يعني الإعلان عن قيام هذا الصرح الاجتماعي الجديد.

والزِّفاف لغةً: إهداء الزوجة إلى زوجها.

من الزفيف وهو سرعة المشي مع تقارب خطو وسكون. وفي القرآن الكريم: ﴿فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ[1]  أي يسرعون، وأصله من زفيف النعامة وهو ابتداء عدوها. وما جاء في الحديث تزويج فاطمة I: أنه صنع طعاماً وقال لبلال: أدخل على الناس زُفَّة زُفَّة، أي فوجاً بعد فوج، وطائفة بعد طائفة، سميت بذلك لزفيفها في مشيها، أي إسراعها.[2] 

وقد تعارفت المجتمعات البشرية على الاحتفاء بهذه المناسبة، بحيث يُزَّف العروس إلى عروسه (والعَرُوس: نعت يستوي فيه الرجل و المرأة يقال للرجل عروس كما يقال للمرأة)[3]  ضمن أجواء فرح وابتهاج، تختلف مظاهرها من مجتمع إلى آخر. وفي تعاليم الإسلام تشجيع للإحتفاء بمناسبة الزواج.

ولما تعنيه هذه المناسبة في حياة الزوجين، ونظراً لما يرافقها من مظاهر وبرامج احتفائية في مجتمع العروسين، فإن لها وقعاً خاصاً في نفسيهما، وصدى يبقى خالداً في ذاكرتهما، وكذلك من حولهما. فهي ليلة العمر، التي ينتظرها بلهفة وشوق كل شاب وفتاة.

إختيار ليلة العُرْس:


إرتكز في أذهان الناس في مجتمعنا أن هناك ليال ينبغي تجنب الزواج فيها، وعادة ما يتصل من يريد الزواج، أو أهله بأحد علماء الدين ليسأل عن الليلة المناسبة للزواج؟.

وقد بحثنا ضمن موضوع ((مستحبات ومكروهات العقد))، أن هناك أوقات ورد أنه يكره إجراء عقد الزواج فيها، والثابت منها، حين يكون القمر في برج العقرب، ويحدث ذلك لمدة يومين وربع، أي ليلتين أو ثلاث ليال، تختلف من شهر لآخر. اعتماداً على رواية عن الإمام جعفر الصادق : «من تزوج إمرأة والقمر في بر ج العقرب لم ير الحسنى»)[4]  وهو ما إقتصر عليه أكثر فقهائنا السابقين، حيث لم يذكروا كراهة أوقات أخرى، كالشيخ الصدوق، والمفيد والطوسي والمحقق الحلي والشهيدين وصاحب الجواهر وغيرهم.

لكن بعض الفقهاء المتاخرين أضافوا كراهة إجراء العقد حين يكون القمر في (المحاق) آخر الشهر، حيث ينمحق ضوء الهلال، ليلة 28،29،30، حيث وردت رواية مرسلة أنه «يكره التزويج في محاق الشهر»[5]  ورواية أخرى عن الإمام الهادي .

ثم أضاف فقهاء آخرون كراهة إجراء العقد في كوامل الشهر، وهي سبعة أيام في كل شهر (25,24,21,16,13,5,3) لورود روايات تعتبرها أياماً نحسة. لكن لا توجد رواية تشير إلى كراهة الزواج فيها.

في مقابل ذلك هناك روايات تدعو الإنسان إلى التوكل على الله، والتسلّح بالدعاء، وآيات القرآن، ودفع الصدقة، وعدم التطيّر والتشاؤم، وعدم الاهتمام بما يثار حول نحوسة بعض الأيام.

على أن ما ذكره الفقهاء هو حول إجراء عقد الزواج، أما الزِّفاف والدخول على الزوجة، فلم يذكروا كراهته في تلك الأوقات، كما يتضح من تعدادهم لمستحبات الدخول على الزوجة، إلا أن يتحدّ وقت العقد مع وقت العُرْس.

وبهذا لا داعي للتقيّد بحذر الاجتناب من بعض الليالي لاختيار ليلة العُرْس والزِّفاف، خاصة مع ما يجده الناس من حرج في إتمام ترتيبات الزِّفاف، من حجز مكان مناسب، وإنجاز الاستعدادات المختلفة.

وليمة العُرْس:


يستحب الإطعام عند التزويج فقد روي عن الإمام علي الرضا : أن النجاشي لما خطب رسول الله آمنة بنت أبي سفيان فزوجه، دعا بطعام ثم قال : «إن من سنن المرسلين الإطعام عند التزويج»[6] .

وروى أحمد من حديث بريدة قال: (لما خطب علي فاطمة قال رسول الله : «إنه لابد للعروس من وليمة»[7]  وقال لعبد الرحمن بن عوف حين تزوج: «أولم ولو بشاة»[8]  وأخرج الطبراني من حديث أسماء بنت عميس قالت: «لقد أولم علي بفاطمة فما كانت وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته، رهن درعه عند يهودي بشطر شعير»[9] .

فالوليمة عند الزواج سنة مستحبة عند جمهور العلماء، وهو مشهور مذهبي المالكية والحنابلة، ورأي بعض الشافعية، وفي قول لمالك والمنصوص في الأم للشافعي ورأي الظاهرية: أن الوليمة واجبة، لقوله لعبد الرحمن بن عوف: «أولم ولو بشاة» وظاهر الأمر الوجوب.[10] 

وإجابة الدعوة إلى الوليمة مستحبة في مذهب الشيعة، أما جمهور علماء السنة فيرون: أن الإجابة إلى الوليمة واجبة وجوباً عينياً عند المالكية والشافعية على المذهب، والحنابلة، حيث لا عذر من نحو برد وحر وشغل، لحديث: «ومن دُعي إلى وليمة ولم يجب فقد عصى أبا القاسم» وحديث: «إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليأتها». والإجابة واجبة حتى على الصائم، لكن لا يلزمه الأكل.[11] 

وما ينبغي التنبيه إليه: هو ما يحصل في أكثر ولائم العُرْس من مظاهر إسراف وتبذير، للتفاخر بذلك، ولأن أسلوب تقديم طعام الولائم وتناوله في مجتمعاتنا، لا يزال بالطريقة القديمة، حيث تقدم صحون الطعام كبيرة مملؤة لعدد قليل من الأشخاص، فيأكلون منها مقداراً بسيطاً ثم يُرمى الباقي. وسمعت من عدة مصادر مطلعة في مجتمعنا أنه غالباً ما تصل نسبة الكمية الزائدة من ولائم الزواج إلى الثلث وقد تبلغ النصف، ويكون مصيرها الإلقاء في البحر أو القمامة!!

إن لم يكن هذا مصداقاً للتبذير والإسراف، فما هو التبذير والإسراف إذاً؟

يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [12]  ويقول تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ[13] .

مراسيم الزِّفاف:


يعبّر أهالي العروسين وأصدقاؤهما عن البهجة والسرور ليلة العُرْس، عبر مراسيم احتفائية يتعارف عليها كل مجتمع من المجتمعات، كما يجتهد العروسان في إظهار جمالهما وأناقتهما أمام المحتفين، وخاصة بالنسبة للمرأة العروس. يقول أحد الباحثين الاجتماعيين: يوم الزِّفاف هو اليوم الوحيد الذي تضمن فيه العروس أن تتركز جميع الأنظار عليها فقط، لذلك تحرص كل الحرص على أن تكون في هذا اليوم أجمل من أي وقت آخر في حياتها، سبب واحد فقط يجعل كل إمرأة تشعر أن يوم زفافها هو أجمل وأسعد يوم في حياتها،ويجعلها تعيش حياتها كلها على ذكرى هذا اليوم، وكأنها لم تر السعادة الحقيقية قبله أو بعده، هذا السبب ليس لأنها حققت في هذا اليوم الحلم الجميل الذي كانت تحلم به طوال السنوات السابقة، أو لأنها أصبحت سيدة بيت مستقلة، بل لأنها كانت أجمل من أي يوم آخر في حياتها قبل الزواج وبعده، ولأنها كانت ـ وربما لأول مرة ـ أجمل واحدة بين جميع الموجودات، وأكثر واحدة تركزت عليها الأنظار، فالسعادة كلها في نظر المرأة لا تتعدى هذه الإحساسات.[14] 

وإذا كان من الطبيعي وجود مراسيم إحتفاء بليلة العُرْس، وتعاليم الشرع تشجّع على ذلك، فإن ما تعاني منه بعض مجتمعاتنا اليوم هو المبالغة في أنماط هذه المراسيم والأعراف، حتى تحّولت إلى عبء يرهق كاهل العروسين وعائلتيهما، إنها لم تعد مراسيم إحتفاء رمزي تفيض فيها المشاعر والأحاسيس، وتزخر بقيم المودة والتضامن الاجتماعي، بل أصبحت ذات متطلبات شاقة مكلفة، من الناحية الاقتصادية والعملية.

فتكاليف الزواج لها ثلاث مصاريف:

الأول: المهر وملحقاته.

الثاني: تأثيث المنزل.

الثالث: نفقات مراسيم الإحتفاء ليلة العُرْس.

وغالباً ما يكون هذا المصرف الثالث أكثر استهلاكاً من المصرفين الآخرين، مع فارق أن ما يُنفق في المهر أو التأثيث المنزلي، سيبقى للزوجين، بينما لا يستفيدان مما ينفق على مراسيم الزواج إلا المظهر الإحتفائي، والسمعة التي يُتفاخر بها.

وكأمثلة ونماذج لبعض نفقات هذه المراسيم في مجتمعنا نذكر ما يلي:

هناك بطاقات الدعوة، وكلفة البطاقة الواحدة من المستوى العادي خمسة ريالات، وترتفع قيمتها في بعض أشكالها الفخمة لتصل إلى ما يزيد على العشرين ريالاً!!

وصالات الأفراح ذات المستوى العادي يصل إيجارها إلى عشرين ألف ريال أما في الفنادق الفخمة فتصل إلى ستين ألف ريال أو أكثر تبعاً لعدد المدعوين!!

وإيجار (الكوشة) وهي المنصة التي تجلس عليها العروس أثناء الحفل في المستوى العادي يصل إلى ثلاثة الآف ريال، وترتفع في مستوياتها المتقدمة إلى عشرة الآف ريال!!

ومكافئة المرأة المنشدة التي تقرأ المدائح والأناشيد في الاحتفال النسائي تبلغ في المتوسط أربعة الآف ريال، وقد تصل إلى عشرة الآف ريال!!

وتصوير العروس فوتوغرافياً في الأستوديو قبل الحفل قيمته ألف وخمسمائة ريال!! وتصوير الحفل بالفيديو كلفته حوالي ألفين وخمسمائة ريال!!

هذا عدا قيمة أو إيجار فستان العُرْس، وأسعار المرطبات، وقيمة (كيكة) العروس والتي تبلغ ألفي ريال في صالات الأفراح!!

يقول الدكتوران أبو بكر أحمد باقادر ويحي تركي الخزرج، أستاذا علم الاجتماع بجامعة الملك عبد العزيز في جدة، في دراستهما الميدانية الاستطلاعية عن تكاليف الزواج في التسعينات (مدينة جدة نموذجاً):

(تحول كل ما يتعلق بالزِّفاف، وتأسيس الحياة الزوجية من كونه نشاطاً يهم المجتمع المحلي والجوار، ومن ثم ما يستلزم ذلك من تكافل وتفاهم، ليصبح نشاطاً اقتصادياً ذا نزعة تجارية بحتة، ولّد دون مبالغة ما يمكن أن نسميه بصناعة الزِّفاف، إن حجم المتاجر وانتشارها التي تعمل في مستلزمات وكماليات حفلات الزِّفاف كبير، ولقد ولدت هذه الصناعة دوافع ومبررات الاستهلاك البذخي من ناحية، وفرضت أوجه صرف لم تكن في الحسبان في الماضي القريب.. وهذا التحول أدى إلى تأخير الشباب موضوع الزواج، حتى يتسنى لهم الصرف على ليلة العمر، وما يتبعها من تبعات، بل وتفكير بعضهم إلى الاستدانة من البنوك أو الحصول على مساعدات من مؤسسات خيرية.. )[15] .

مستحبات الزِّفاف:


ذكر الفقهاء بعض المستحبات لدخول الزوج على زوجته ليلة العُرْس منها:

الوضوء: بأن يتوضأ كل منهما.

وصلاة ركعتين قربة إلى الله تعالى، وأن يدعو كل منهما بعد الصلاة بحمد الله تعالى والصلاة على نبيه وآله، وطلب الألفة والتوفيق في حياتهما الزوجية. ومن الأدعية المأثورة هنا: «اللهم أرزقني ألفتها وودها ورضاها بي، وأرضني بها، وأحسن بيننا بأحسن اجتماع، وأنفس إئتلاف، فإنك تحب الحلال، وتكره الحرام»[16]  وهو دعاء علّمه الإمام محمد الباقر لأحد أصحابه.

وأن يضع الزوج يده على رأس زوجته مستقبل القبلة ويدعو الله تعالى طالباً بركته وتوفيقه، ويدعو بالدعاء المأثور المروي عن الإمام جعفر الصادق : «اللهم على كتابك تزوجتها، وفي أمانتك أخذتها، وبكلماتك استحللت فرجها، فإن قضيت في رحمها شيئاً فاجعله مسلماً سويّاً، ولا تجعله شرك الشيطان»[17] .

وجاء في مصادر أهل السنة عن أبي سعيد مولى أبي أسيد أن عبد الله بن مسعود وأبا ذر وحذيفة وغيرهم من أصحاب رسول الله قالوا له: إذا دخلت على أهلك، فصل ركعتين، ثم خذ رأس أهلك، فقل: «اللهم بارك لي في أهلي، وبارك لأهلي فـيّ، وأرزقهم مني، و أرزقني منهم».

وروى أبو داود عن النبي الدعاء التالي: «اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما جبلت عليه، وأعوذ بك من شرها ومن شر ما جبلت عليه»[18] .

وواضح أن هذه المستحبات تلفت نظر الزوجين وهما في اللحظات الأولى لبناء حياتهما الزوجية المشتركة، إلى البعد الديني في علاقتهما، والى الارتباط بالله تعالى والتوجه إليه، مما يؤكد في نفسيهما الثقة والاطمئنان، واستحضار القيم الخيّرة، ويجعلهما مشمولين بتوفيق الله تعالى وبركته للنجاح والسعادة.
[1]  سورة الصافات/ آية 94.

[2]  ابن منظور/ لسان العرب ج3 ص32.

[3]  المصدر السابق ج4 ص733.

[4]  الحر العاملي: محمد بن الحسن/ وسائل الشيعة/حديث رقم25173.

[5]  المصدر السابق/حديث رقم 25174.

[6]  المصدر السابق/حديث رقم 25121.

[7]  ابن حجر العسقلاني: أحمد بن علي/ فتح الباري ج9 ص287.

[8]  البخاري/محمد بن إسماعيل/صحيح البخاري/حديث قم5167.

[9]  ابن حجر العسقلاني: أحمد بن علي/ فتح الباري ج9 ص299.

[10]  الزحيلي: الدكتور وهبة/الفقه الإسلامي وأدلته ج7 ص125.

[11]  المصدر السابق ص126.

[12]  سورة الإسراء/ آية 27.

[13]  سورة الأعراف/ آية 31.

[14]  رفعت: محمد/ ألف باء الحياة الزوجية ص61. دار الفكر العربي/بيروت1996م.

[15]  المكتب التنفيذي لمجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية بدول مجلس التعاون لدول الخليج/ دعم الأسرة في مجتمع متغير ص595/البحرين/ الطبعة الأولى 1994.

[16]  الحر العاملي: محمد بن الحسن/وسائل الشيعة/حديث رقم 5176.

[17]  المصدر السابق/حديث رقم 25172.

[18]  الزحيلي: الدكتور وهبة/ الفقه الإسلامي وأدلته/ج7 ص128.