التدليس وفسخ الزواج

الشيخ حسن الصفار *
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين

التعامل بين الناس يجب أن يكون قائماً على الصراحة والوضوح، لتستقيم العلاقات بينهم، وتسود أجواء الثقة والاطمئنان، من هنا أكدت تعاليم الشريعة على الوضوح في أي معاملة بين طرفين، بأن يعرف كل طرف ما يأخذ وما يعطي، فلا يكون هناك جهل ولا غرر، وفي هذا السياق حرّمت الشريعة كل ألوان الخداع والغش، وأعتبرته مؤثراً على صحة المعاملة وخادشاً لشرعيتها، ضمن تفصيل تستعرضه أبواب الفقه الإسلامي.

روي عنه: «لا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعاً فيه عيب أن لا يبينه».

وعنه: «ليس منا من غش مسلماً».

وورد عن الإمام علي : «شر الناس من يغش الناس».

ولأن العلاقة الزوجية هي أرقى وأهم أنواع العلاقات، فينبغي أن تُبنى على أساس من الصراحة والوضوح،حتى لا تتعرض لأي اضطراب واهتزاز.

من هنا حثت التعاليم الدينية على الاهتمام بمرحلة الاختيار من قبل كل من الطرفين للآخر، حتى يكون الاختيار ضمن قيم ومواصفات سليمة، وبالاستفادة من أراء الناصحين والمخلصين، وفسحت الشريعة المجال لكل من الطرفين أن يتعرف على شخص وشخصية الآخر، كما سبق ذكره في أحد الدروس السابقة.

واستثنت الشريعة هذا المورد من دائرة الغيبة المحرمة، فحينما تكون هناك استشارة من أحد ترتبط بموضوع اختيار الزوج، فلا بد وأن يعطي المستشار المعلومات الحقيقية، ولو كان فيها إظهار لمعايب المسؤول عنه، وليس في ذلك إثم ولا حرج شرعي، رغم أن ذلك داخل في إطار الغيبة موضوعاً، لأن الغيبة هي ذكر الآخر بما يكره، وإظهار معايبه. لكنها مستثناة من حكم الغيبة في هذا المورد.

ولا يحق لأحد الطرفين أن يدّلس على الطرف الآخر، بأن يخفي عنه عيباً موجوداً، أو يظهر له كمالاً مفقوداً..فإذا كان هناك نقصٌ ما في المرأة أو الرجل، وأخفاه أحدهما على الآخر، وتم العقد على أساس عدم وجود ذلك النقص والخلل، فإنه يتحقق التدّليس هنا.

وكذلك لو تظاهر أحد الطرفين بصفة كمال لا يمتلكها واقعاً كالشرف والنسب والجمال والبكارة وما أشبه، وجرى العقد على أساس توفر تلك الصفة، فإن ذلك مصداق للتدّليس أيضاً.


موارد التدليس


التدليس هو التغرير والتمويه، بإخفاء نقص موجود، أو إدعاء كمال مفقود، وغالباً ما يستخدم لفظ التدليس في تزييف صفات الإنسان، ولفظ الغش في تزييف صفات الأشياء.

وللتدليس الذي يتحقق به خيار الفسخ في عقد الزواج ثلاثة موارد:

1- إذا إشترط في عقد الزواج توفر صفة معينة لأي من الطرفين، ثم تبين أن تلك الصفة كانت مفقودة حين العقد، فللطرف الآخر أن يفسخ عقد الزواج.كما لو إشترط الزوج أن تكون الزوجة بكراً، أو سليمة من مرض معين، أو ذات صفة معينة، ثم أتضح خلاف ذلك فله حق الفسخ.وكذلك لو اشترطت المرأة في العقد أن يكون الزوج من نسب معين، أو ذا مهنة شريفة معينة، أو سليماً من مرض ما، ثم إنكشف خلافه فلها حق الفسخ.

2- أن تُذكر تلك الصفة ضمن العقد كتوصيف لأحدهما، بأن يقول زوجتك هذه المرأة الباكرة أو غير الثيب، أو هذه الخالية من المرض، أو ذات الصفة الكدائية، أو يقول بالنسبة للزوج، زوجت فلانة فلاناً الهاشمي أو العالم أو ما أشبه، ثم يتضح عدم وجود تلك الصفة المذكورة في العقد، فذلك تدليس يعطي للآخر حق الفسخ.

3- أن يتم التحادث والاتفاق بين الطرفين أو من ينوب عنهما،على أساس وجود صفة معينة، ثم يجري العقد بناءً على ذلك الاتفاق، فهنا وإن لم تذكر في العقد على نحو الاشتراط أو التوصيف، إلا أن العقد جرى بناء على ذلك، فإذا ما تبين الخلاف، يكون خيار الفسخ قائماً.

في هذه الموارد الثلاثة يتحقق التدليس الموجب لخيار الفسخ، أما إذا لم تذكر صفة ما في العقد،لا شرطاً ولا وصفاً، ولم يتم التفاوض والاتفاق عليها قبيل العقد، ولكن أحد الطرفين كان يتوقع وجود تلك الصفة، أو كان يعتقد وجودها، وهو إنما أقدم على الزواج لاعتقاده بوجود تلك الصفة، ثم تبين له عدم وجودها، فهنا ليس له حق الفسخ.

لأن مجرد توقعه أو اعتقاده دون ذكر ذلك أمام الطرف الآخر، ضمن الموارد الثلاثة المذكورة لا يترتب عليه له أي حق.

كما أن سكوت الطرف الآخر عن تبيين فقدان تلك الصفة لا يترتب عليه أثر أيضاً.

فمثلاً لو لم يشترط أن تكون البنت بكراً في العقد، ولم يذكر ذلك كصفة ضمن العقد، ولم يجر الحديث عن ذلك قبيل العقد، لأنه كان يتوقع ويعتقد أنها بكر، ثم اكتشف خلاف ذلك، فليس له خيار الفسخ، ولم يكن واجباً عليها ولا على أهلها إخباره من قبل.

نعم يحق له في مثل هذه الصورة أن يطلب مقدار التفاوت في المهر، بين مهر البكر، ومهر الثيب، فإذا كان المتعارف مثلاً في المهر للبكر عشرين ألفاً، وفي مهر الثيب خمسة عشر ألفاً، وقد دفع عشرين ألفاً فله حق استرجاع خمسة الآف.

وقد سبق الحديث في الدرسين الماضيين (37-38) عن أن هناك عيوباً تعطي لكل من الطرفين حق الفسخ، والحديث في هذا الدرس هو حول ما عدى تلك العيوب التي توجب خيار الفسخ، على كل حال ذكر انتفاؤها أثناء العقد أو لم يذكر.


المبادرة للفسخ


حينما يتبين لأي من الطرفين: الزوج أو الزوجة، إفتقاد صفة جرى ذكرها في العقد، على النحو السابق في الموارد الثلاثة، وأنها ليست متوفرة عند وقوع العقد، فهو مخيّر بين إمضاء الزواج والاستمرار فيه، أو فسخه لتخلف الشرط المتفق عليه، وهنا لا بد من المبادرة للفسخ إذا كان عازماً عليه، أما إذا سكت، أو رضي بالأمر الواقع، فقد سقط حقه في الفسخ، وليس له الفسخ بعد ذلك.

ويستثنى من ذلك إذا كان جاهلاً بأن له حق الفسخ، أو جاهلاً بلزوم الفورية والمبادرة.



رأي مذاهب السنة


يرى المذهب الحنفي أنه إذا اشترط أحد الزوجين في صاحبه صفة مرغوباً فيها، فبان على خلافه، لم يكن له الخيار في الفرقة، فإذا كان قد سمّى لها مهراً أكثر من مهر مثلها بسبب هذا الشرط، كأن يشترط بكارتها أو تحصيلها شهادة معينة، فلم يتحقق ذلك، لم يلزم الزوج بأكثر من مهر مثلها.قال الشيخ محمد بن عبد الواحد المعروف بابن الهمام، في كتابه (فتح القدير): (وفي النكاح لو شرط وصفاً مرغوباً فيه، كالعُذرة والجمال، والرشاقة، وصغر السن، فظهرت ثيباً عجوزاً شمطاء، ذات شق مائل، ولعاب سائل، وأنف هائل، وعقل زائل، لا خيار له في فسخ النكاح به)[1] .

ويرى المالكية ثبوت خيار الفسخ عند تخلف الصفة المشترطة في النكاح.وذلك هو رأي الشافعية أيضاً.

وفصّل الحنابلة بين ما إذا كانت الصفة المشترطة مخلة بالكفاءة، كما لو اشترطت المرأة على أنه حر أو من نسب شريف، ثم ظهر أنه عبد أو من نسب أدنى، منها فلها حينئذ خيار الفسخ، أما إذا كانت الصفة غير معتبرة في الكفاءة كالفقه والجمال وغيرهما، فلا خيار لها.

وكذلك لو شرط الرجل كون المرأة مسلمة فبانت كافرة فله الخيار، أما لو اشترط كونها بكراً فبانت ثيباً، فعن أحمد بن حنبل كلام يحتمل أمرين: أحدهما: لا خيار له، والثاني: له الخيار.[2] 
[1]  الزحيلي: الدكتور وهبة/ الفقه الإسلامي وأدلته ج7ص 525/ الطبعة الثالثة – دار الفكر – دمشق-1989م.

[2]  المصدر السابق ج7 ص526.