التزاحم بين الزواج وسائر المهام

الشيخ حسن الصفار *
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين


1. بين الزواج والحج:


- إذا وجب عليه الحج وكان يريد الزواج، فإن كان في تأخير الزواج عليه مشقة وحرج، أو يستلزم الوقوع في الحرام، كان الزواج مقدما على الحج، في رأي أغلب فقهاء المذاهب الإسلامية، لأنه حينئذ لا يعتبر مستطيعا للحج.

أما مع انتفاء الحرج والضرر فالحج الواجب مقدم على الزواج.

- وإذا كان الحج مستحبا وليس واجبا عليه وكان مزاحما للزواج الذي تتوق إليه نفسه فإن الزواج أولى، بملاحظة الأحاديث والنصوص التي تشدد على كراهية العزوبة وذمها، وتحث على الزواج وتبيّن فضله.


2. بين الزواج والخمس:


- تكاليف الزواج تعتبر من مؤنة الإنسان المستثناة من الخمس فلا يجب عليه الخمس في المبلغ الذي يصرفه في زواجه أو زواج أولاده والمتعلقين به.

- إذا وجب عليه الخمس رأس السنة وتعلق بذمته مبلغ معين للخمس، ولكنه كان يريد الزواج في الفترة القادمة، وهو في حاجة إلى الزواج، ودفعه لمبلغ الخمس يؤخر زواجه، فإن كان في التأخير مشقة عليه وحرج، يمكنه استئذان المرجع الديني أو وكيله، في تأجيل دفع الخمس أو إسقاط جزء منه.



3. بين الزواج والدَّين:


إذا كان الإنسان مدينا بمال لآخرين، وهو يريد الزواج، فإن كان الدين الذي عليه مؤجلا لم يحن وقت وفائه، جاز له الزواج، أما إذا كان الدَّين حالاًّ وقد حان وقت وفائه، فإذا كان تأخير الزواج لا يسبب له حرجا أو ضررا أو عسرا شديدا أو وقوعا في الحرام، فأداء الدَّين مقدم على الزواج. وإن كان يسبب له شيئا من ذلك قدم الزواج على الدين.



4. بين الزواج وحقوق الوالدين:


- إذا كان يريد الزواج لكن والديه أو أحدهما نهاه عن ذلك، أو كان زواجه يؤثر على شيء من خدمته لهما، فإن كان محتاجا للزواج جاز له ذلك، لأن طاعة الوالدين إذا كانت ضررية أو تسبب اختلالا غير محتمل في انتظام حياة الإنسان لا تجب. قال السيد الشيرازي: (ثم إنهما - الوالدين ـ إذا تأذيا لعدم إطاعة الولد لهما فالظاهر أنه إذا كان أمرهما يوجب هدم حياة الولد العادية لم تجب الطاعة، وإلا وجبت لانصراف النصوص عن مثل ذلك).


5. بين الزواج والزهد:


- إذا كان الزهد في متع الدنيا ولذاتها لصالح الاتجاه للآخرة وخدمة المبادئ والقيم أمرا مرغوبا وراجحا في الإسلام، فهل يجري ذلك في موضوع الزواج، بحيث يكون ترك الزواج مظهرا من مظاهر الزهد والإعراض عن اللذات؟ وبعبارة أخرى هل يستحب الزهد في النكاح؟

ذهب إلى ذلك بعض العلماء. قال الإمام الشافعي: إن الزواج في هذه الحالة ـ حالة الاعتدال ـ مباح، يجوز فعله وتركه، وإن التفرغ للعبادة أو الاشتغال بالعلم أفضل من الزواج، لأن الله تعالى مدح يحيى بقولـه: ﴿وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ [1] . والحصور: الذي لا يأتي النساء مع القدرة على اتيانهن، فلو كان الزواج أفضل لما مدح بتركه. [2] .

لكن (ليس هناك ما يدل على أن "الحصر" المذكور في الآية يقصد به العزوف عن الزواج، فالحديث المنقول بهذا الخصوص ليس موثوقا به من حيث أسانيده. فلا يستبعد أن يكون المعنى هو العزوف عن الشهوات والأهواء وحب الدنيا.

ثانيا من المحتمل أن يكون يحيى ـ مثل عيسى ـ قد عاش في ظروف خاصة اضطرته إلى الترحال من أجل تبليغ الرسالة، فاضطر إلى حياة العزوبة. وهذا لا يمكن أن يكون قانونا عاما للناس. فإذا مدحه الله لهذه الصفة فذلك لأنه تحت ضغط ظروفه عزف عن الزواج، ولكنه استطاع في الوقت نفسه أن يحصن نفسه من الزلل وأن يحافظ على طهارته من التلوث. لإن قانون الزواج قانون فطري، فلا يمكن في أي دين ان يشرع قانون ضده. وعليه فالعزوبة ليست صفة محمودة، لا في الإسلام ولا في الأديان الأخرى[3] .

وقال الشهيد السيد محمد الصدر: كان بعض أساتذتنا يقول: إن الزهد في الشريعة مطلوب في كثير من الأشياء كالطعام واللباس، ولكن لم يرد مثل ذلك في النكاح[4] .


6. بين الزواج والتفرغ للعبادة:


- طرح بعض العلماء ومنهم الشيخ محمد حسن النجفي صاحب الجواهر هذا التساؤل: هل الزواج أفضل أم التخلي للعبادة؟

وأجاب صاحب الجواهر: بأن في المسألة قولين أقواهما أفضلية الزواج (لما في ترك النكاح والاشتغال بالعبادة والرياضة من الرهبانية المنفيّة في هذه الشريعة … وفي الموثق عن ابراهيم بن عبد الحميد، عن مسكين النخعي، "وكان تعبد وترك النساء والطيب والطعام، فكتب إلى أبي عبدالله يسأله، فكتب إليه:« أما قولك في النساء فقد علمت ما كان لرسول الله من النساء»".. فإن المنقول عن النبي والأئمة عليهم السلام بالتواتر إيثار النكاح على التخلي للعبادة، ودليل التأسي يقتضي رجحانه بالنسبة إلينا.. فصدوره عنهم يدل على إيثاره على ما يضاده وهو التخلي، ومقتضى التأسي فيه كونه أفضل منه.. وربما يدل على المطلوب أيضا قوله :«ما بني بناء في الإسلام أحب إلى الله تعالى من التزويج» وقوله :«ما من شيء أحب إلى الله عز وجل من بيت يعمر في الإسلام بالنكاح» فإنه بعمومه يشمل التخلي أيضا[5] .

ثم إن الزواج بحد ذاته عمل عبادي، حيث يرى أكثر الفقهاء استحبابه في حد ذاته، وإذا قصد الإنسان بزواجه الامتثال والتقرب إلى الله، فهو يؤدي في زواجه عملا عباديا يستحق عليه الأجر والثواب، بل وحتى لو لم يقصد القربى في زواجه فإنه مستحق للثواب، كما نص على ذلك العديد من الفقهاء كالسيد السبزواري ونص كلامه: (اختصاص الثواب بخصوص مورد قصد القربة كما هو المشهور لا دليل لهم من عقل أو نقل على هذا الاختصاص، بل مقتضى جملة من الاطلاقات أن الثواب مترتب على مطلق فعل المحبوب لله تعالى، ما لم يقصد الرياء، فنقول أن الزواج مطلوب ومحبوب لله تعالى وإتيان كل محبوب ومطلوب له يؤجر عليه فهذا يؤجر عليه)[6] .

وقال السيد الشيرازي: الظاهر أن ترتب الثواب على النكاح لا يحتاج إلى قصد القربة، لاطلاق الأدلة. ثم إنه كيف يجمع بين كون الشيء مستحبا وبين كونه لا يثاب عليه؟ إذ ليس المستحب إلا ما فيه الثواب[7] .

وقال الدكتور الزحيلي مجيبا على سؤال: (هل الزواج عبادة؟) ويدل لكونه عبادة أمر النبي والعبادة تتلقى من الشرع، فالزواج من قبيل العبادة، لما يشتمل عليه من المصالح الكثيرة التي منها تحصين النفس وإيجاد النسل، وقد قال عنه : «وفي في بضع أحدكم صدقة»[8] .

مضافا إلى ذلك تشير بعض الأحاديث إلى أن للزواج أثرا في مقدار وفضل سائر العبادات. كما ورد عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: «ركعتان يصليهما المتزوج أفضل من سبعين ركعة يصليها أعزب»[9] .

وعنه أيضا قال: (جاء رجل إلى أبي ـ الإمام محمد الباقر ـ فقال له:« هل لك من زوجه؟ »قال: لا. فقال أبي : «ما أحب أن لي الدنيا وما فيها واني بت ليلة وليست لي زوجة»، ثم قال: «ركعتان يصليهما رجل متزوج أفضل من رجل أعزب يقوم ليله ويصوم نهاره»[10] .

[1]  سورة آل عمران الآية 39.
[2]  الزحيلي: الدكتور وهبة/ الفقه الإسلامي وأدلته ج7 ص33.
[3]  الشيرازي: الشيخ ناصر مكارم/ الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل ج2 ص357.
[4]  الصدر: السيد محمد/ ما وراء الفقه ج6 ص95.
[5]  النجفي: الشيخ محمد حسن/ جواهر الكلام ج10 ص352-354.
[6]  السبزواري: السيد عبدالأعلى/ مهذب الأحكام ج24 ص8.
[7]  الشيرازي: السيد محمد/ الفقه ج62 ص38.
[8]  الزحيلي: الدكتور وهبة/ الفقه الإسلامي وأدلته ج7 ص35.
[9]  الكليني: محمد بن يعقوب/ فروع الكافي ج5 ص328.
[10]  الحر العاملي: محمد بن الحسن/ تفصيل وسائل الشيعة ج2 ص19 حديث رقم 24916.