فضيلة الاعتذار (1 - 2)


صدور الخطأ من الإنسان أمر طبيعي ومتوقع، فما دام ليس معصوما فهو معرض للغفلة وسيطرة الشهوة وغلبة الانفعال، وتلك هي أرضية الخطأ ومنشأ حدوثه. 
لكن الأمر المهم هو كيفية تعامل الإنسان مع خطئه. فهل يتعهد نفسه بالمراقبة والمحاسبة، ويراجع مواقفه وتصرفاته، ليكتشف أخطاءه وعثراته؟ أم يبقى مسترسلا سادرا تتكرر أخطاؤه وتتراكم دون اهتمام منه وانتباه؟

من ناحية أخرى هل يمتلك شجاعة التراجع والاعتذار عن الخطأ؟ أم يصر عليه؟ أو يتهرّب من تحمل المسؤولية تجاهه؟

ثم إن خطأ الإنسان قد يكون تجاه نفسه، أو تجاه ربه، أو تجاه الآخرين من أبناء جنسه. وحديثنا الآن مخصص لبحث هذا القسم الأخير.


اتهام الذات قبل الآخرين:

حينما يحصل خلل في العلاقة بين الإنسان وآخرين، فإنه غالبا ما يتنصل من المسؤولية، ويحمّل الطرف الآخر وزر ما حدث، فهو يـبرء نفسه ويصدر حكما سريعا على الآخر بإدانته وتحميله مسؤولية الخلل.

وهذا ينشأ من حب الذات، والدفاع عنها، والتعود على تبرير التصرفات والممارسات.

أما التفكير بموضوعية، والتعاطي بنضج ووعي، فهو يوجه الإنسان إلى اتهام ذاته أولا، ومحاسبتها على هذا الأساس حتى يثبت العكس.

وإذا أخذ الإنسان هذه الفرضية بعين الاعتبار، وحاسب نفسه وناقش تصرفاته وتعامله، فقد يكتشف بالفعل أنه كان مخطئا بحق الآخر، أو أنه شريك في الخطأ، ويتحمل نسبة معينة منه.

ويربينا القرآن على هذه المنهجيـة السليمـة في قـوله تعـالى: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾  .

واكتشاف الخطأ هو الخطوة الأولى في طريق المعالجة والإصلاح، أما الخطوة الثانية والأهم، فهي إعلان تحمّل المسؤولية أمام الطرف الآخر، والاعتذار إليه من وقوع الخطأ تجاهه.

وهو موقف بطولي لا يصدر اختيارا إلا عن ثقة وشجاعة وعدالة وإنصاف.

فالإنسان الذي يحترم نفسه لا يرى الخطأ جزءا من شخصيته حتى يصعب عليه الاعتذار عنه، بل يراه غبارا ووسخا يرتاح بإزالته والتخلص منه.

وتحمّل مسؤولية الخطأ مظهر رفيع لالتزام العدل وممارسة الإنصاف، حيث يكون الإنسان في جانب الآخر مقابل ذاته. وكما يقول الإمام علي : «غاية الإنصاف أن ينصف المرء من نفسه» .

 

لماذا الاعتذار؟

الاعتذار يعني الإقرار بالخطأ، وطلب العفو والصفح من الطرف الآخر.

قال الجرجاني: الاعتذار: محو أثر الذنب.

وقال الكَفَويّ: الاعتذار إظهار ندم على ذنب تُقرّ بأن لك في إتيانه عذرا.

وقال المناوِيّ: الاعتذار: تحرّي الإنسان ما يمحو أثر ذنبه  .


والاعتذار سلوك حضاري يدل على احترام الإنسان لنفسه، وتقديره لغيره. وينطوي على فوائد وعوائد كثيرة من أهمها:

1- الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه يشكل رادعا للإنسان عن تكراره، لأن الاقدام على هذه الخطوة يكتنفها ضغط وعناء نفسي، فليس سهلا على الإنسان أن يقف موقف الإقرار والاعتذار من الآخرين، فهو نوع من العقوبة الاختيارية يفرضها الإنسان على نفسه، مما يخلق لديه حساسية وحذرا من الوقوع في حالة مشابهة، ويجعله يعيد النظر في الأسباب والعوامل التي أوقعته في الخطأ، وذلك سبيل لإصلاح النفس ومعالجة سلبيات السلوك.

بعكس ما إذا مرّ الإنسان على خطئه مرور الكرام، ولم يشعر بأي مضاعفات أو نتائج مؤذية، فقد يستهين بالأخطاء حينئذ، ويستسهل ارتكابها.

 

2- وهو محاولة لإصلاح الخلل الذي أحدثه الخطأ، وتدارك مضاعفاته على الآخرين، كما يشكل نوعا من إعادة الاعتبار لمن وقعت عليه الإساءة، وأداء لحقه. يقول الإمام علي :«حسن الاعتراف يهدم الاقتراف» .

 

3- والاعتذار ينـزع فتيل الغضب من نفس الطرف الآخر، ويطفئ نار العداوة، ويحتوي الأزمة والتشنج. إن أكثر النزاعات والخصومات المترتبة على تصرفات خاطئة يمكن حلها وتجاوزها عن طريق كلمة اعتذار رقيقة، تشيع في نفس الطرف الآخر الرضا، وتشعره بإعادة الاعتبار.

 

4- ولا يسود هذا الخلق الحضاري الرفيع إلا عبر المبادرة لممارسته من قبل الواعين الناضجين، إن التزام أي فرد به وخاصة إذا كان في موقعية مرموقة، يشجع الآخرين من حوله على التخلق به، فإذا رأى الأبناء شجاعة أبيهم في الاعتذار إليهم عن زلل صدر منه تجاههم، فإنهم سيقتدون به في تعاملهم مع الآخرين، وإذا لاحظ العاملون في أي مؤسسة ان كبار الموظفين يتحملون مسئوليتهم تجاه الأخطاء ويعتذرون عنها، فإنهم سيسيرون على نفس النهج، وهكذا بالنسبة لسائر الموقعيات والمناصب القيادية في المجتمع.

إن كل من يتمنى ويرغب أن يتعامل معه الآخرون بهذا الأسلوب المريح، عليه أن يبادر هو بانتهاجه مع الآخرين، ليترسخ كمبدأ في العلاقات الاجتماعية، وكقيمة أخلاقية سامية.

 

5- الفوز برضوان الله والأمن من عقابه يوم القيامة، وذلك بالتخلص من حقوق الناس وظلاماتهم، حيث تؤكد النصوص الدينية: أن الله تعالى لا يتساهل في حقوق الناس على بعضهم البعض، وتشير عدة أحاديث مروية عن الرسول  إلى أن أصحاب المظالم والحقوق يأخذون من حسنات الإنسان يوم القيامة، حتى إذا انتهت كل حسناته توضع عليه من سيئاتهم مقابل حقوقهم عليه .

إن بإمكان الإنسان أن يتخلص من كثير من الظلامات عبر لحظة اعتراف، وكلمة اعتذار، فيوفر على نفسه العناء والعذاب الشديد يوم القيامة.

 

خلفيات الامتناع :

لماذا يصعب على الكثيرين من الناس تدارك أخطائهم بتقديم الاعتذار إلى المتضررين؟ ولماذا التردد والامتناع عن انتهاج هذا المسلك الحضاري؟

يبدو أن هناك خلفيات نفسية وثقافية واجتماعية يمكن اعتبارها عوائق وموانع من انتشار هذا الخلق الكريم.

أولا : التفكير والتصور الخاطئ بأن الاعتذار عن الخطأ تشكل حالة ضعف وهزيمة لشخصية الإنسان، وفي الحقيقة قد يكون ذلك صحيحا لأول وهلة، وفي الظاهر، لكن واقع الأمر، إنه يكشف عن ثقة بالنفس، وشجاعة في الموقف، وهو ينتشل الإنسان من موقع الضعف الذي انحدر إليه بخطئه، إلى موقع القوة الذي يرتقيه باعتذاره، وبالتالي فإنه كسب وانتصار للإنسان على المدى البعيد.

 

الأربعاء 29 ذو الحجة 1422هـ، 13 مارس 2002م، العدد 10498