بين الحقوق والواجبات

باعتبار الإنسان عضوا في مجتمعه، وجزءا من محيطه، فعلاقته مع ما حوله علاقة تفاعل بين طرفين، وذلك يعني وجود التزام متبادل له وعليه، وقد أصبح متداولا أن يطلق على الالتزامات التي عليه مصطلح الواجبات، أي ما يجب عليه تجاه الآخرين، كما يطلق على التزامات الآخرين المفترضة نحوه عنوان الحقوق، أي ما يستحقه منهم. وفي الأصل فإن الحق والواجب يرجعان إلى معنى واحد هو الثبوت، جاء في لسان العرب: حق الأمر يحق ويحق حقا وحقوقا: صار حقا وثبت، قال الأزهري: معناه وجب يجب وجوبا. وفي التنزيل: قال الذين حق عليهم القول: أي ثبت. وقوله تعالى: ﴿ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين أي وجبت وثبتت.

وعن معنى الواجب والوجوب أيضا في لسان العرب: يقال: وجب الشيء يجب وجوبا إذا ثبت، ولزم.

فالحق له في اللغة معان كثيرة، والمظنون رجوعها الى مفهوم واحد، وجعل ما عداه من معانيه من باب اشتباه المفهوم بالمصداق، وذلك المفهوم هو الثبوت تقريبا، فالحق بمعنى المبدأ هو الثبوت، والحق بالمعنى الوصفي هو الثابت، وبهذا الاعتبار يطلق الحق عليه تعالى لثبوته بأفضل أنحاء الثبوت الذي لا يخالطه عدم أو عدمي، والكلام الصادق حق لثبوت مضمونه في الواقع ﴿ويحق الله الحق أي يثبته ﴿وكان حقا علينا نصر المؤمنين أي ثابتا ﴿لقد حق القول على أكثرهم أي ثبت ﴿وكذلك حقت كلمة ربك أي ثبتت و﴿الحاقة أي النازلة الثابتة و﴿حقيق عليّ أن لا أقول إلا الحق أي ثابت عليّ.

وبناء عليه فإن الحق والواجب يؤديان معنى واحد، وفي مجال بحثنا فإن الحقوق هي الأشياء الثابتة على الإنسان للآخرين، أو على الآخرين للإنسان، والواجبات هي الثابتة على الإنسان للآخرين، أو على الآخرين له، فالحقوق واجبات، والواجبات حقوق، والفرق إنما هو في النسبة للإنسان أو عليه.

الحقوق متوازية


انتظام حياة الانسان في مجتمعه يقتضي أن يتمتع بالحقوق التي له، وأن يؤدي الواجبات التي عليه، واذا ما حصل خلل في هذه المعادلة، فسيؤدي الى الاضطراب في حياة الفرد والمجتمع.

ففي الحياة العائلية ـ مثلا ـ هناك حقوق متبادلة بين الزوجين يقول تعالى: ﴿ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف فإذا ما التزم كل منهما بأداء حقوق الآخر، عاشا في سعادة ووئام، أما اذا تخلف أحد الطرفين عن القيام بشيء من واجباته تجاه الآخر، فسينتج عن ذلك اضطراب العلاقة، وفقدان الانسجام، مما يلقي بظله على مجمل حياة الأسرة، وانجاز مهماتها الاجتماعية. وعلى الصعيد السياسي: هناك حقوق متبادلة بين الراعي والرعية، بين الحاكم والمحكوم، ورعاية تلك الحقوق من قبل الطرفين، يوفر الأمن والاستقرار، ويفسح المجال لتقدم الوطن والأمة، بينما يؤدي جور الحاكم على حقوق الشعب، أو تجاوز المواطن حق السلطة، إلى الفتنة والفوضى والفساد. وهكذا الأمر في كل مجال من مجالات الحياة الاجتماعية، والعلاقات الإنسانية، فليست هناك علاقة بين طرفين يختص أحدهما بالحقوق، ويحرم منها الآخر، وحتى بالنسبة لله تعالى وهو الخالق المتفضل على عباده، فقد وعد المؤدي لحقه تعالى في العبادة والخضوع بالجزاء والثواب.

الواجبات أولا


وإذا كان على الإنسان من الواجبات تجاه الآخرين، بمقدار ما له من الحقوق، فنقطة البداية لبناء علاقة صحيحة ناجحة مع الآخر، يجب أن تنطلق منه بالمبادرة لأداء الحقوق المتوجبة عليه، مما يلزم الآخر ويشجعه على التعامل بالمثل، وحينئذ تنتظم العلاقة وتستقيم.

ومعنى ذلك أن يفكر الإنسان في الواجبات التي عليه، قبل أن يفكر في الحقوق التي له، وأن ينجز ما عليه، قبل أن يطالب بما له. لكن مشكلة الأكثرين أنهم يتجاهلون ويتناسون ما عليهم من واجبات، ثم يتجهون ويطالبون بما لهم من حقوق.

وهذا ما يشير اليه الإمام علي بقوله: «فالحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف» فكل أحد يجيد التحدث عن الحق، ووصفه وتبيينه اذا كان الى جانبه، فهو أوسع الأشياء في مقام الوصف والتبيين، أما في مقام الالتزام بأداء الحق للآخرين وإنصافهم، فالجميع يضيقون به ذرعا.

إن على الإنسان أن يبدأ من نفسه فيلزمها بأداء حقوق الآخرين قبل أن يطالب الآخرين بحقوقه.

1ـ فهو مسؤول أمام الله تعالى عن الواجبات التي عليه، فحقوق الناس جزء لا يتجزأ من حقوق الله. ولكي يخرج الإنسان من عهدة المسؤولية أمام الله تعالى عليه أن يؤدي للناس حقوقهم.

2ـ وإذا ما بادر الإنسان لأداء حق الآخر، كان في ذلك تثبيت لحقه، لأن الحقوق «يوجب بعضها بعضا، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض» على حد قول الإمام علي . كما يشكل ذلك دافعا وإلزاما قانونيا وأدبيا للطرف الآخر تجاه الإنسان.

3ـ وأداء الإنسان للحق الذي عليه هو بمقدوره وحسب إرادته، بينما أداء الآخرين لحقوقه عليهم، هو بيدهم، وإذا كان لا يمتلك قرار الآخرين وارادتهم فإنه يمتلك قراره وإرادته فليكن البدء منه.

محورية الذات


قسم كبير من الناس يوغلون في التمحور حول ذواتهم، فيرون الحق من الزاوية التي يكونون فيها فقط، ويتحدثون دائما عن المفروض والواجبات على الغير، دون أن يلتفتوا إلى ما عليهم من حقوق وواجبات، وكأن الحق يدور معهم حيثما داروا.

فمثلا: إذا كان دائنا يشدد على واجب المدين في المبادرة إلى أداء الدين، وحرمة المماطلة والتسويف، أما اذا كان مدينا فإنه يركز على إنظار المدين ﴿وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ويذم الإلحاح والتضييق على المدينين!!

وإذا جاء متأخرا وقد سبقته الجماعة إلى الطعام مثلا: تحدث عن العجلة المذمومة وعاتب على عدم انتظاره، أما إذا جاء مبكرا وتأخر غيره، فإنه يتبرم من عدم احترام الوقت، ويدعو الى التقيد به على حساب المتأخرين!!

وحينما يخرج بسيارته من طريق فرعي إلى طريق رئيسي تتواصل فيه حركة السير، ينتقد السائقين في ذلك الطريق على سرعتهم وعدم اعطائهم فرصة لمن يريد الخروج من الطريق الفرعي، أما إذا كان يقود سيارته في الطريق الرئيسي، ورأى من يريد الخروج من طريق فرعي، فسيواجهه ببوق سيارته المزعج، مبديا انزعاجه لعدم صبر الطرف الآخر وتمهله!!

وهكذا نلحظ العديد من المواقف والممارسات التي تعبّر عن محورية الذات وتفصيل الحقوق والواجبات على قياسها.

وكم رأينا ثوارا كانوا يعارضون السلطات لديكتاتوريتها وقمعها، ويرفعون شعارات المطالبة بالحرية والعدالة، فلما أصبحوا هم في موقع السلطة والحكم جعلوا الأولوية لحفظ النظام وحماية الأمن والاستقرار، على حساب العدالة والحرية، فاختلاف موقعيتهم وتبدل الزاوية التي ينظرون منها، أثر على رؤيتهم للقيم والمعايير.

نحو وعي حقوقي


ولكن لماذا يتجاهل أكثر الناس الحقوق التي عليهم، أو يتساهلون في القيام بها؟

1ـ هناك عامل الجهل وضعف الوعي الحقوقي، حيث لا يعرف الكثيرون ما يتوجب عليهم تجاه الآخرين، فالعلاقات والارتباطات في مجتمعاتنا تسير بشكل عفوي، وضمن أعراف وتقاليد، ترتكز على قوة الطرف وموقعيته.

ففي الحياة الزوجية وحيث يكون الزوج في موقع القدرة، تصبح حقوق الزوجة مغيبة مهملة، وفي مجال العمل، فإنه وتبعا لسلطة رب العمل تُتجاهل حقوق العامل، وهكذا بين الأب وأولاده، وبين المعلم وتلامذته، وبين الموظف ومديره..

إن الحاجة ماسة لثقافة حقوقية، توضح للإنسان ما له وما عليه، وتوجهه الى الالتزام بما عليه أولا.

ولا يعني ذلك أن يتساهل الإنسان في الحقوق التي له، ولا يطالب بها، ويسكت عن مصادري حقوقه. بل المقصود ألا تكون المطالبة بالحقوق بديلا عن القيام بالواجبات، ولا أن يوزع الإنسان المفروضات والمسؤوليات على الآخرين متناسيا نفسه، بل يبدأ بنفسه أولا، ثم يطالب غيره.

2ـ وعامل آخر يرتبط بالتربية النفسية، والبناء الأخلاقي لشخصية الإنسان، حيث يحتاج الى التذكير بالقيم والمبادىء، وإنها يجب أن تكون المقياس والمحور لمواقفه وتصرفاته، وليس مصالحه الذاتية.

من جهة ثانية فإن اعتراف الإنسان بالحقوق التي عليه يعني تحمله لمسؤولية أدائها، بينما المطالبة بالحقوق التي له، هو تحميل للآخرين، ويشكل لونا من ألوان التهرب من المسؤوليات.

3ـ وفي أحيان كثيرة يتساهل الإنسان في حقوق القريبين منه، على أساس دالته عليهم، وموقعيته بينهم، وكأن ذلك يعفيه من التزاماته تجاههم. وهذا خطأ كبير، فمراعاة حقوق الأقربين أولى، لأنهم الأكثر احتكاكا وارتباطا بالإنسان، وإذا ما تعود على تجاوز حقوقهم، فسيعيشون معه معاناة دائمة.

وكذلك الحال في العلاقة مع الأصدقاء، فإن تجاوز حقوقهم اعتمادا على تغاضيهم عن ذلك، يسبب تدمير الصداقة وإنهاء الأخوة.

الأربعاء 19 جمادى الأخرة 1423هـ، 28 اغسطس 2002م، العدد 10666