التطوع ظـاهرة إنسانية

التطوع لغة: تفعل من الطاعة وهو ما تبرع به من ذات نفسه مما لا يلزمه فرضه، وفي الاصطلاح الشرعي: يطلق على الأعمال والعبادات التي يحبذها الشرع دون أن يعتبرها فرضا واجبا على المكلف، وهي النوافل والمستحبات، يقول تعالى:«فمن تطوع خيرا فهو خير له» أي من زاد على المقدار الواجب.

أما على الصعيد الاجتماعي فيقصد من التطوع: ذلك الجهد أو الوقت أو المال الذي يبذله الإنسان في خدمة مجتمعه دون أن يفرض عليه، ودون انتظار عائد مادي في المقابل.

والتطوع الآن ظاهرة إيجابية منتشرة في أغلب المجتمعات الإنسانية، وقد أصبحت مادة لتخصص علمي، يدرس دوافعها وآثارها ومعوقاتها وسبل تطويرها،ويرصد تجاربها وأساليبها.

فإلى جانب المؤسسات الرسمية الحكومية، هناك منظمات ومؤسسات أهلية تطوعية تقوم بالعديد من الأنشطة والمهام في سبيل خدمة القضايا الإنسانية والاجتماعية، وفي إحصائية عن عقد الثمانينات، بلغ عدد المنظمات والهيئات غير الحكومية حوالي 50 ألف منظمة وهيئة في البلدان النامية فقط، تعمل في الميادين التنموية المختلفة، ويقدر عدد الأفراد المستفيدين من خدماتها بحوالي «100 مليون نسمة».

وتعج المجتمعات الغربية بالكثير من المؤسسات والهيئات التي تعمل في مجالات الخدمة الاجتماعية والإنسانية داخل بلدانها وعلى مستوى العالم، ففي امريكا وحدها هناك «000ر32» مؤسسة خيرية بلغت ممتلكاتها عام 1989م اكثر من «138» مليار دولار، كما شارك في العمل التطوعي حوالي «93» مليون أمريكي يشكلون نسبة 30% من مجمل الأمريكيين، ينفقون سنويا «20» بليون ساعة في العمل التطوعي لصالح الأطفال والفقراء والتعليم وقضايا أخرى، كما يقدر معدل التبرع المالي لكل أمريكي بـ«500» دولار سنويا.

وقبل سنتين تبرع الأمريكي «تيد تورنر» بثلث ثروته الى المنظمات الإنسانية في الأمم المتحدة ويساوي مبلغ مليار دولار وقال «تورنر» في بيان التبرع ان زوجته شاركته في القرار وفرحت به، ويعني بذلك أنها لم تعترض ولم تقل له:مالنا وللأمم المتحدة وليبق المليار دولار لأولادنا!
وكانت عائلة «روكفلر» قد تبرعت قبل نصف قرن بالأرض التي أنشىء عليها مبنى المنظمة الدولية «الأمم المتحدة».

وواضح ان لسيادة الروح التطوعية الجماعية اثرا كبيرا في تقدم المجتمع الأمريكي، فعندما زار «الكسيس توكفيل» الكاتب الفرنسي الولايات المتحدة في منتصف القرن التاسع عشر لاحظ ان الأمريكيين يشاركون في كثير من الجمعيات التي ينظمونها لخدمة أغراض مجتمعاتهم: زراعية ومالية ودينية واجتماعية وجمعيات من كل نوع وفي كل اتجاه. وعلق «توكفيل» على هذا معتبرا ان هذه الجمعيات تمثل خاصتين في المجتمع الأمريكي ستؤديان الى تقدمه بسرعة متفوقا بذلك على اوروبا،التي كانت تسيطر على العالم في ذلك الوقت، هاتان الخاصتان هما فن التنظيم الاجتماعي، والرغبة في العمل الجماعي الطوعي وغير الطوعي.

وجاء في تقرير حديث لجمعية فرنسا للشؤون الاجتماعية أن 10 ملايين ونصف المليون فرنسي يتطوعون في نهاية الأسبوع للمشاركة في تقديم خدمات اجتماعية مختلفة تخص الحياة اليومية، من مجالات التربية والصحة والبيئة والثقافة والترفيه وغيرها.
وتتراوح أعمار 51% من المتطوعين ما بين الخامسة والثلاثين والتاسعة والخمسين، ويمثل الطلبة نسبة 21% وتتراوح أعمار المتطوعين منهم ما بين 18 و 25 عاما.

وتنطلق الأعمال التطوعية في تلك المجتمعات من الدوافع الخيرة الموجودة في أعماق كل انسان، ومن تقدم مستوى الوعي الاجتماعي، وبعضها لاغراض مصلحية، ومكاسب مادية.

حال مؤسساتنا الخيرية:


يفترض أن تشهد مجتمعاتنا الإسلامية إقبالا على العمل التطوعي الاجتماعي اكثر من المجتمعات الغربية، لما في تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف من حث كبير على نصرة المظلومين، ومساعدة الفقراء، وخدمة المحتاجين، حتى اعتبر القرآن الكريم ذلك مقياسا لصدق التدين، وأن من لا يهتم بمناطق الضعف في المجتمع، كاذب في تدينه، وإن تظاهر بطقوس الدين وشعائره، يقول تعالى ﴿أرأيت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدع اليتيم.ولا يحض على طعام المسكين.

إضافة إلى الحاجات الكبيرة في مجتمعاتنا والتي تتطلب الكثير من الجهود والطاقات لتلبيتها ومعالجتها، فهناك حالات الفقر والعوز، ومشاكل العلاقات والخلافات الاجتماعية، وقضايا التعليم والتوجيه الديني والسلوكي،وأمور البيئة، وأوضاع المحتاجين الى الرعاية من مسنين ومعوقين وأيتام، إلى سائر مناطق الحاجة والفراغ.. إن كل ذلك يستلزم تعبئة الجهود والطاقات، وشحذ العزائم والهمم، لسد النواقص وتنمية المجتمع وتطويره.

وقد تأسست بحمد الله في مجتمعنا مؤسسات خيرية اجتماعية كالنوادي الرياضية، والجمعيات الخيرية، ولجان كافل اليتيم، وصناديق الزواج الخيري، ومهرجان الزواج الجماعي، وهيئات ولجان للنشاط الديني والثقافي، وترعى الدولة هذه المؤسسات والانشطة الخيرية وتقدم لها الدعم اللازم عبر وزارة العمل والشؤون الاجتماعية وعبر الرعاية العامة لشؤون الشباب ومختلف أجهزة الدولة، ومع التقدير والامتنان للجهود الطيبة التي يبذلها القائمون على العمل في هذه المؤسسات التطوعية، إلا أننا نلحظ أن درجة الإقبال على العمل التطوعي ضمن هذه المؤسسات لايزال محدودا وغير متناسب مع التوجه الديني لمجتمعنا والحاجات الملحة القائمة بالفعل.

وتتضح هذه الحقيقة في قلة انضمام عناصر جديدة لإدارات هذه المؤسسات، وضعف رفد لجانها ومجالات عملها بالطاقات والكوادر التي تطور مسيرة العمل، وتواصل تقدمه.

إن بعض الجمعيات الخيرية تواجه مأزقا وحرجا عندما يحين موعد انتخاب أعضاء لإدارة جديدة، حيث لا يتقدم أحد لترشيح نفسه، أولا يكون عدد المتقدمين كافيا للمواقع الشاغرة في الإدارة!!

إنه أمر موسف جدا حيث يعج مجتمعنا بالطاقات والكفاءات، والعناصر المؤمنة والواعية، فلماذا الإحجام عن التصدي للمسؤوليات الاجتماعية؟ ولماذا نتقاعس عن دعم هذه المؤسسات الخيرية التي تشكل تجسيدا لمبادىء التعاون والتكافل والتراحم الاجتماعي؟

أعذار ومبررات:


يعتذر البعض من الناس بانشغالاتهم والتزاماتهم الدراسية أو العملية والعائلية عن المشاركة في العمل الاجتماعي، لكن هذا العذر غالبا ما يكون وسيلة وتبريرا للتهرب عن المسؤولية، وإلا فإن العاملين فعلا في المؤسسات الخيرية، ليسوا خالين من الالتزامات، ولا عاطلين عن العمل.
إن الإنسان إذا امتلك التطلع لثواب الله ورضوانه، وأدرك مسئوليته الدينية والاجتماعية، فإنه بحاجة إلى شيء من تنظيم وقته، وهندسة اهتماماته وأولوياته، فالكثيرون يضيعون أوقاتهم وجهودهم في أمور وقضايا ثانوية هامشية بينما يعتذرون بعدم الفرصة للقيام بواجباتهم الاجتماعية.

إن تنظيم الوقت، والحرص على الانضباط الدقيق يعطي للإنسان مجالا كبيرا للإنجاز واستثمار حياته، والذين يقومون بالأعمال الكثيرة، ويحققون النتائج الهائلة في حركتهم ونشاطهم، لا يفعلون المعجزات، وإنما يحسنون الإدارة والتنظيم لأوقاتهم.

كما أن الاستعداد للتضحية وبذل الجهد في سبيل خدمة المجتمع أمر مطلوب يفرضه وعي الإنسان والتزامه الديني، وانتماؤه الاجتماعي.

وقد يعتذر البعض بما قد يسبب لهم العمل الاجتماعي من إشكاليات واعتراضات من قبل هذه الجهة أو تلك، لكن المؤمن الواعي يعرف أن الأجر والثواب يستلزم تحمل الأذى والمشاق، والمصلحون طوال التاريخ كانوا عرضة للاتهام والتجريح، لكن ذلك يصدر من الجهلة أو المغرضين، ولا يفت في عضد العاملين المصلحين.

اننا ندعو العناصر الواعية والمخلصة من ابناء المجتمع للالتفاف حول هذه المؤسسات الخيرية الاجتماعية، وان ينخرطوا فيها، ويتحملوا اعباء ادارتها وتطويرها، واذا كانت للبعض اشكالات على برامج هذه المؤسسات، فليمارسوا التصحيح والتغيير من داخلها، انها توفر الفرصة المناسبة للتعاون على البر والتقوى، وللتدريب على اكتساب روح العمل الجمعي، وتكاتف القدرات والكفاءات، كما تساعد في معالجة الكثير من المشاكل والمصاعب التي تعيشها الفئات الضعيفة في المجتمع.

الاربعاء 25 رجب 1423هـ، 2 كتوبر 2002م، العدد 10701