الإصغاء لصوت الضمير

 

لأن الإنسان في هذه الحياة معرض للوقوع في الخطأ، والانحراف عن جادة الحق والصواب، فهو بحاجة إلى ما يقيه هذا الخطر، وينقذه منه إذا وقع فيه.

ومن لطف الله تعالى بالإنسان أن أودع في أعماق نفسه قوةً ووازعًا للقيام بهذه المهمة وهو ما نطلق عليه الضمير.

وقد عرفوا الضمير بأنه (استعداد نفسي لإدراك الخبيث والطيب من الأعمال والأقوال والأفكار، والتفريق بينها، واستحسان الحسن واستقباح القبيح منها).

دور الضمير ومهماته

للضمير دور أساس في توجيه حركة الإنسان نحو الخير، وإبعاده عن مزالق الشر، وذلك لأنه يقوم بالمهام التالية:

أولًا: الكشف والتمييز، فبه يعرف الإنسان مسلك الخير ومسلك الشر، ويميّز بينهما. وإلى هذه المهمة يشير قوله تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ، أي هديناه إلى معرفة الطريقين. وقوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ‎﴿٧﴾‏ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، أي جعل في داخل النفس القدرة على معرفة فعل الفجور وفعل التقوى.

ثانيًا: التحفيز والتحذير، فالضمير يحفّز الإنسان نحو الخير، ويحذّره من عواقب الشرّ.

ثالثًا: اللوم والتوبيخ: حين يتخذ الإنسان القرار الخطأ، مخالفاً ضميره، فإن الضمير لا يُسلم صاحبه، ولا يتخلى عنه، بل يظل ساعيًا لإنقاذه، يهزه في أعماق نفسه بصوت النقد والتذكير، ويقرعه بسوط الملامة والتوبيخ، لإيصاله إلى حالة الشعور بالندم، والتفكير في التراجع عن الخطأ.

يقول عالم الاجتماع الفرنسي (دور كايم): أنه كلما أعملنا الفكر لنعرف ما علينا أن نفعل كلمنا صوت من داخلنا وقال: هذا واجبك. وإذا ما أخللنا بهذا الواجب، قام الصوت نفسه فكلمنا واحتج على ما فعلنا. إن هذا الصوت العميق فينا هو ضميرنا.

وإلى هذه المهمة يشير قوله تعالى: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ.

المرجعية الأخلاقية الأوثق

والضمير هو المرجعية الأخلاقية الأوثق لسلوك الانسان، لأنه لا يكذب ولا يخدع ولا يتغير أبداً، وإلى ذلك يشير الحديث النبوي عنه : (استَفْتِ قلبَك، البِرُّ ما اطمأنَّت إليه النفسُ، واطمأنَّ إليه القلبُ، والإثمُ ما حاك في القلبِ، وتردَّد في الصدرِ وإن أفتاك الناسُ وأفتَوْك) .

ويقول الأديب الفرنسي بلزاك: (الضمير هو القاضي الذي لا يخطئ حتى نخنقه نهائيًا) .

ويمتاز هنا الضمير عن العقل، بأن العقل يمكن استخدامه في إنجاز أعمال الشر والتخطيط للجرائم والانحرافات. بينما يتسامى الضمير عن ذلك.

يقول عالم النفس السويسري كارل يونع: (عندما نتكبر نخدع أنفسنا باستمرار، ولكن تحت سطح الضمير العادي، ثمة صوت خافت يقول لنا غير ذلك).

ويقول الشاعر محمد مهدي الجواهري:

وأحسن ما فيك أن الضمير        يصيح من القلب أني هنا

كما يمتاز الضمير عن القلب وهو مركز العواطف والأحاسيس في نفس الإنسان، الذي يمكن ميله للشر، أما الضمير فلا يمكن تطويعه لأي توجهات شريرة.

والضمير هو الجهة التي يفترض أن تكون أكثر ضبطًا لتوجّهات الإنسان، لصراحته وصرامته وشدة وقع لومه ونقده. فإذا عجز الضمير عن ضبط الإنسان، فلن تفلح أي جهة أخرى في ترشيد مسار من فقد ضميره، ورد عن الإمام محمد الباقر: (مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللَّهُ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَاعِظاً فَإِنَّ مَوَاعِظَ اَلنَّاسِ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُ شَيْئاً).

الضمير سعادة الإنسان وشقاؤه

وحين يفشل الضمير في مهمته، ويتمادى الإنسان في مخالفته وخنقه، فيخبو ضوؤه، ويبحّ صوته، هنالك يكون مصير الإنسان إلى الشقاء والهلاك المحتوم.

إن سعادة الإنسان وتحقق إنسانيته يرتبط بدرجة اصغائه لصوت ضميره، واستجابته لنصيحته ونقده وهدايته.

إن أنانية الإنسان وانفعالاته ورغباته تمثل ضغطًا على نفسه وسلوكه، ليندفع باتجاه الشر والانحراف، والضمير يشكّل دور الكابح، وجرس الإنذار، لمنعه من الانزلاق إلى الخطأ. والإنسان المحظوظ هو من يستجيب لنداء الضمير.

يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ.

تعزيز دور الضمير

هناك من يتعزز دور الضمير في حياته، وتأثيره على سلوكه وقراراته، ويعبر عنه بأنه ذو ضمير حي، وهناك من يخبو وهج ضميره ويخفت صوته، فيصبح وكأنه فاقد للضمير، أو ميت الضمير، وقد يعبر عنه بأن ضميره في إجازة.

وذلك يتوقف على مستوى تعاطي الإنسان مع هذه الشعلة الإلهية الوقادة في نفسه، فكلما استضاء بها أكثر امتد نورها إلى كل مساحات حياته، وكلما حجبها وعتّم عليها، تضاءل نورها، وتقلّص تأثيرها عليه.

ومما يساعد على تعزيز دور الضمير في حياة الإنسان الأمور التالية:

1/ اعتماد نهج المحاسبة للذات، وإتاحة الفرصة للضمير ليأخذ دوره.

ورد عن علي : (مَنْ تَعَاهَدَ نَفْسَهُ بِالْمُحَاسَبَةِ أَمِنَ فِيهَا اَلْمُدَاهَنَةَ)

وعنه : (مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ رَبِحَ، وَمَنْ غَفَلَ عَنْهَا خَسِر)

2/ ترسيخ القيم المعنوية، فهي الفضاء الذي ينتعش فيه الضمير، بينما ينكمش في ظل سيادة الروح المادية والمصلحية، كما هي معاناة الإنسان المعاصر في أجواء الحضارة المادية.

3/ استحضار الرقابة الإلهية، واستذكار الموت والآخرة.

ورد عن علي : (أَكْثِرُوا ذِكْرَ اَلْمَوْتِ عِنْدَ مَا تُنَازِعُكُمْ إِلَيْهِ أَنْفُسُكُمْ مِنَ اَلشَّهَوَاتِ، وَكَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظاً)

من هنا أسس كانط فلسفته في الأخلاق والضمير على ثلاثة أسس كبرى، هي:

وجود الخالق، وخلود الروح، والحرية. واعتبر أنه لا يمكن للإنسان أن يؤسس للواجب الأخلاقي من دونها .

4/ معايشة أصحاب الضمائر الحيّة، والابتعاد عن موتى الضمير.

حين يرتاح الضمير

ارتياح الضمير ينعكس راحة على الروح والجسم، بينما يؤدي التنكر للضمير إلى التعرض لعذابه القاسي في وقت ما، وقد يتأخر ولكن لا يفلت الإنسان منه ولو في الساعة الأخيرة من حياته، فعلى فراش الموت يبلغ الضمير درجته القصوى في الإفصاح عن نفسه.

وكما قيل: الضمير جنة الإنسان وسجنه.

إن صاحب الضمير الحي يرحل عن الدنيا مرتاحًا مطمئنًا، يقول تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ‎﴿٢٧﴾‏ ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ‎﴿٢٨﴾‏ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ‎﴿٢٩﴾‏ وَادْخُلِي جَنَّتِي.

بينما يعاني المتنكر لضمائر أشد الأزمات النفسية أو آخر حياتهم، وفي سكرات الموت.