الأوقاف ودورها الحضاري في الأمة

نشرت صحيفة الأيام البحرينية مقالاً لسماحة الشيخ حسن الصفار عنوانه: الأوقاف ودورها الحضاري في الأمة ، في عددها الصادر يوم الخميس 3 رمضان 1426هـ (6 أكتوبر 2005م).

وهذا نص المقال:


‬يمثل الوقف الخيري‮ ‬إحدى أهم الظواهر الإنسانية النبيلة،‮ ‬التي‮ ‬تدل على عمق النوازع الخيّرة في‮ ‬نفس الإنسان،‮ ‬واهتمامه بمصالح الأجيال المقبلة،‮ ‬وحرصه على تكريس التوجهات التي‮ ‬يعتقد صلاحها‮.‬

‮ ‬والوقف لغة هو‮: ‬الحبس‮. ‬واصطلاحاً‮ : ‬هو حبس العين وتسبيل منفعتها‮. ‬أي‮ ‬منع العين من أن‮ ‬يتملكها أحد من الناس،‮ ‬وإباحة الانتفاع بها ضمن الجهة التي‮ ‬حددها الواقف‮.‬


والوقف ليس اختراعاً‮ ‬إسلامياً،‮ ‬بل كانت الأمم القديمة تمارس بعض أشكاله،‮ ‬حيث كان ملوك البابليين‮ ‬يهبون بعض موظفيهم حق الانتفاع ببعض أراضيهم،‮ ‬دون أن‮ ‬يملكوها أو‮ ‬يتصرفوا فيها ببيع أو هبة أو نحوهما‮. ‬وكان القانون‮ ‬يسمح بانتقال حق الانتفاع بهذه الأراضي‮ ‬إلى ورثة الموظفين ـ بعد موتهم ـ بحسب الشروط الموضوعة في‮ ‬الاستحقاق الترتيبي‮.‬

وفي‮ ‬زمن الفراعنة دلت الآثار المكتشفة حديثاً‮ ‬في‮ ‬مصر،‮ ‬على رصد بعض الناس العقارات الشاسعة على المعابد والمقابر والتماثيل،‮ ‬ليصرف ريعها في‮ ‬إصلاحها،‮ ‬وتيسير إقامة الشعائر فيها،‮ ‬وكذلك الإنفاق على كهنتها وخدامها‮.‬


‮ ‬وعمل بعض الناس في‮ ‬زمن الفراعنة أيضاً‮ ‬بما‮ ‬يسمى حديثاً‮ ‬بالوقف الذري،‮ ‬فكانوا‮ ‬يخصون أولادهم وذرياتهم بريع ومنافع الأعيان المحبوسة،‮ ‬من‮ ‬غير أن‮ ‬يحق لهم تملك هذه الأعيان أو تمليكها للآخرين‮.‬

وفي‮ ‬زمن الرومان طور الناس نظام الإحباس بعد ظهور النصرانية،‮ ‬فجعلوها في‮ ‬مؤسسات تابعة للكنيسة،‮ ‬تقوم على رعاية الفقراء والعجزة‮.‬

وقد شجع الإسلام هذه الظاهرة الإنسانية الخيّرة،‮ ‬وتبناها في‮ ‬توجيهاته وتشريعاته،‮ ‬وأسس لها في‮ ‬مجتمع الجزيرة العربية الذي‮ ‬لا دلالة في‮ ‬تاريخه على شيوع مثل هذه الممارسة قبل الإسلام‮. ‬ونقل عن الإمام الشافعي‮ ‬قوله‮: «‬لم‮ ‬يحبس أهل الجاهلية فيما علمت،‮ ‬وإنما حبس أهل الإسلام»‮.‬

وقد التبس الأمر على بعض العلماء فادعى أن‮: ‬«الوقف من خصائص الإسلام،‮ ‬قال النووي‮: ‬وهو مما اختص به المسلمون،‮ ‬قال الشافعي‮: ‬لم‮ ‬يحبس أهل الجاهلية داراً‮ ‬ولا أرضاً‮ ‬فيها‮». ‬والصحيح أنه لم‮ ‬يكن الوقف معروفاً‮ ‬عند العرب قبل الإسلام،‮ ‬لكنه كان معروفاً‮ ‬في‮ ‬تاريخ الأمم الأخرى‮.‬

سُنّة الوقف في‮ ‬الإسلام


إن قيم الإسلام ومفاهيمه التي‮ ‬تربي‮ ‬الإنسان على توظيف إمكانياته وقدراته من أجل الخير،‮ ‬ولخدمة المصالح الإنسانية،‮ ‬وتوجهه إلى العطاء والإنفاق في‮ ‬سبيل الله،‮ ‬هي‮ ‬التي‮ ‬شكلت أرضية الاندفاع والاهتمام في‮ ‬مجتمع المسلمين بوقف الكثير من ممتلكاتهم في‮ ‬سبيل الله،‮ ‬ولخدمة الأغراض النبيلة‮.‬

وإذا كان للعطاء والصدقة فضل عظيم عند الله تعالى،‮ ‬فإن استمرار الصدقة والعطاء مدى الزمن وبعد وفاة الإنسان ورحيله عن الحياة،‮ ‬عن طريق الوقف‮ ‬يعني‮ ‬إحراز الأجر الدائم،‮ ‬والثواب‮ ‬غير المنقطع من الله سبحانه،‮ ‬وذلك‮ ‬يشكل أهم فرصة ومكسب‮ ‬يبحث عنه الإنسان المسلم‮.‬

جاء عن رسول الله‮ (ص‮) ‬أنه قال‮: ««‬إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث‮: ‬صدقة جارية،‮ ‬أو علم‮ ‬ينتفع به،‮ ‬أو ولد صالح‮ ‬يدعو له»‮.‬»

وعن الإمام جعفر الصادق‮ (‬ع‮): «‬«ليس‮ ‬يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال‮: ‬صدقة أجراها في‮ ‬حياته فهي‮ ‬تجري‮ ‬بعد موته،‮ ‬وسنة هدى سنها فهي‮ ‬يعمل بها بعد موته،‮ ‬أو ولد صالح‮ ‬يدعو له»‮.‬»

قال العلماء‮: ‬إن المراد بالصدقة الجارية الوقف‮.‬

‮ ‬وقد بادر رسول الله‮ (‬ص‮) ‬للعمل بسنة الوقف حيث ورد عن أبي‮ ‬عبدالله جعفر الصادق‮ (‬ع‮) ‬أنه قال‮: ««‬تصدق رسول الله‮ (ص‮) ‬بأموال جعلها وقفاً‮ ‬وكان‮ ‬ينفق منها على أضيافه»‮.‬»

كما فعل ذلك أمير المؤمنين علي‮ (‬عليه السلام‮)‬،‮ ‬فعن أبي‮ ‬عبدالله الصادق‮ (‬ع‮)‬،‮ ‬أنه ذكر أمير المؤمنين علياً‮ (ع‮) ‬فقال‮: «‬«كان عبداً‮ ‬لله قد أوجب الله له الجنة،‮ ‬عمد إلى ماله فجعله صدقة مبتولة‮ (‬أي‮ ‬منقطعة من ماله‮) ‬تجري‮ ‬بعده للفقراء،‮ ‬وقال‮: ‬اللهم إني‮ ‬جعلت هذا لتصرف النار عن وجهي،‮ ‬ولتصرف وجهي‮ ‬عن النار»‮.‬»

‮ ‬وروي‮ ‬عن جابر بن عبدالله الأنصاري‮ (‬رضي‮ ‬الله عنه‮) ‬أنه قال‮: ‬لم‮ ‬يكن من الصحابة ذو مقدرة إلا وقف وقفاً‮.‬

وفي‮ ‬صحيح مسلم عن ابن عمر قال‮: ‬أصاب عمر أرضاً‮ ‬بخيبر،‮ ‬فأتى النبي‮ (‬ص‮) ‬يستأمره فيها،‮ ‬فقال‮: ‬يا رسول الله إني‮ ‬أصبت أرضاً‮ ‬بخيبر،‮ ‬لم أُصب مالاً‮ ‬قط هو أنفس عندي‮ ‬منه،‮ ‬فما تأمرني‮ ‬به؟ قال‮ (‬ص‮): «‬إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها‮»‬،‮ ‬قال‮: ‬فتصدق بها عمر أنه لا‮ ‬يباع أصلها،‮ ‬ولا‮ ‬يبتاع،‮ ‬ولا‮ ‬يورث،‮ ‬ولا‮ ‬يوهب‮.‬

وهكذا شقت سنة الوقف طريقها في‮ ‬حياة المسلمين،‮ ‬واتسعت آفاقها،‮ ‬وتنوعت أغراضها في‮ ‬إطار خدمة الدين والمصالح الاجتماعية العامة‮.‬

فهناك أوقاف للعبادة كالمساجد،‮ ‬وما‮ ‬يوقف على عمارتها،‮ ‬وعلى تعليم قراءة القرآن وتلاوة أجزائه،‮ ‬وأوقاف لمصالح الأولاد والذرية والأرحام،‮ ‬وأوقاف لرعاية الفقراء والضعفاء،‮ ‬وأوقاف لنشر العلم والمعرفة‮.‬

الاهتمامات الحضارية


وحين‮ ‬يتأمل الباحث أغراض الوقف في‮ ‬تاريخ المسلمين،‮ ‬يدرك حضارية وإنسانية الاهتمامات التي‮ ‬كان‮ ‬يحملها هؤلاء الواقفون لممتلكاتهم على تلك الأغراض النبيلة‮.‬

إن وجود عدد ضخم من المدارس العلمية الموقوفة،‮ ‬ومن الأعيان الموقوفة على قضايا العلم كرواتب العلماء والمعلمين والطلاب وكتب العلم وكتابته،‮ ‬فقد وقف الشريف المرتضى‮ (٦٣٤ - ٥٥٣‬هـ‮) ‬قرية زراعية كاملة لتوفير الورق لكتابة العلماء والمتعلمين‮. ‬ومدارس العلم كانت في‮ ‬الغالب أوقافاً‮ ‬أهلية وليست منشآت حكومية،‮ ‬ففي‮ ‬مدينة صقلية وحدها أكثر من ثلاثمائة مدرسة،‮ ‬تضم عشرات الآلاف من الطلاب،‮ ‬وكان التعليم فيها مجانياً،‮ ‬وتضم أقساماً‮ ‬داخلية لسكن الطلاب الغرباء،‮ ‬يتوفر فيها لهم الطعام والشراب وسائر الاحتياجات المعيشية،‮ ‬ومثل ذلك كان في‮ ‬سائر البلاد الإسلامية كتونس والقيروان والقاهرة ومكة والمدينة ودمشق وبغداد ونيسابور وبلخ وغيرها من المدن في‮ ‬آسيا الوسطى وتركيا والهند وإيران‮. ‬إن في‮ ‬ذلك دلالة على عمق الاهتمام العلمي‮ ‬في‮ ‬المجتمع الإسلامي‮.‬

كما تدل الأوقاف على الشؤون الصحية كالمستشفيات وحاجات المرضى،‮ ‬وعلى رعاية الفقراء والعجزة،‮ ‬وعلى استقبال المسافرين وإيوائهم كالخانات والفنادق،‮ ‬وعلى سقي‮ ‬الماء،‮ ‬على أصالة المشاعر الإنسانية في‮ ‬نفوس المسلمين بفضل توجيهات الإسلام وتربيته‮.‬

‮ ‬ويدل تنوع أغراض الأوقاف على تكاملية السعي،‮ ‬والتوجّه لسدّ‮ ‬كل الثغرات والنواقص،‮ ‬وقضاء مختلف الاحتياجات حتى البسيطة منها في‮ ‬أوساط المجتمع الإسلامي‮. ‬فمثلاً‮: ‬كانت هناك أوقاف لتوفير مراوح من خوص للمرضى من أجل استعمالهم لها في‮ ‬وقت الحر،‮ ‬وكان‮ ‬يُوقف للمريض لنفقاته في‮ ‬وقت نقاهته حتى لا‮ ‬يضطر للعمل الشاق فور علاجه،‮ ‬وكان في‮ ‬مدينة طرابلس بلبنان وقف خصص ريعه لتوظيف اثنين‮ ‬يمران بالمستشفيات‮ ‬يومياً،‮ ‬فيتحدثان بجانب المريض حديثاً‮ ‬خافتاً،‮ ‬لإشاعة الأمل في‮ ‬نفسه،‮ ‬ورفع معنوياته،‮ ‬مما‮ ‬يساعد على شفائه‮.‬

ومن طرائف أنواع الوقف الخيري‮ ‬ما‮ ‬يعرف بوقف الزبادي‮ ‬ـ جمع زُبدية وهي‮ ‬آنية من خزف أو فخّار ـ وربما وقعت من‮ ‬يد أحد الخدم فانكسرت مما قد‮ ‬يخلق له مشكلة أو‮ ‬يعرضه للعقوبة من أسياده،‮ ‬فبادر بعض أهل الخير لإنشاء وقف‮ ‬يوّفر بديلاً‮ ‬عن الآنية المكسورة لإنقاذ موقف الخدم من الإحراج والعقوبة‮.‬

وهناك وقف ضخم في‮ ‬مدينة مشهد حيث مقام الإمام علي‮ ‬بن موسى الرضا‮ (‬عليه السلام‮) ‬لإطعام القطط الضالة‮.‬
وفي‮ ‬بلادنا القطيف أعرف وقفاً‮ ‬لإزالة‮ (‬العناصيص‮) ‬أي‮ ‬الأحجار الناتئة في‮ ‬الطرقات‮. ‬ووقفاً‮ ‬لوضع علامات للسائرين في‮ ‬طريق البحر بين القطيف وجزيرة تاروت،‮ ‬حين لم‮ ‬يكن جسر،‮ ‬وكان‮ ‬يسمى‮ (‬المقطع‮).‬

وبهذا كان للأوقاف دور كبير في‮ ‬التكافل والتنمية الاجتماعية،‮ ‬ولكثرة الأوقاف في‮ ‬بلاد المسلمين فقد خصصت الحكومات الإسلامية وزارة باسم وزارة الأوقاف في‮ ‬غالب الدول الإسلامية‮.‬

الخميس 3 رمضان 1426هـ (6 أكتوبر 2005م).