الشيخ الصفار لمجلة الحوار: بذور التعددية المذهبية قد غرست مبكراً في أرضية الأمة

مجلة الحوار اعداد: هالة الجيرودي

نشرت مجلة (الحوار) التي تصدر عن مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، كلمة لسماحة الشيخ حسن الصفار ضمن تحقيق صحفي بعنوان: آفاق الحوار والتعايش في ظلال الوحدة الوطنية، في عددها السابع الصادر في شوال 1433هـ/ سبتمبر 2012م.

وقد شارك في التحقيق الذي أعدته الأستاذة هالة الجيرودي، عدد من المثقفين وهم: محمد المحفوظ، شتيوي الغيثي، عبدالله الشريف، محمد باقر النمر، عالية آل فريد،

التعايش منهج وتطبيق

الاختلاف حق مشروع ضمن دائرة ما يجب الاتفاق عليه، إلى أي مدى يعد الحوار ضمانة لكسر حدة اخلاف بين المذاهب؟ يناقش هذا المحور الشيخ حسن بن موسى الصفار في قوله:

يعيش أبناء البشرية في هذه الحياة الدنيا، على تنوعهم وتمايزهم، ضمن حياة مشتركة، متداخلة المصالح والمنافع، ولا يمكن لأي نوع من أنواع البشر أن يختاروا لأنفسهم زاوية من زوايا الدنيا، فيقبعون فيها بعيداً عن الآخرين، دون أي تأثر أو تأثير.

 ثم إن هناك تنوعاً داخل كل نوع، فلو اختار السود أو البيض مثلاً، جهة من الكرة الأرضية، فانهم ليسوا جميعاً متطابقين في كل شئ، بل يعيشون دوائر التنوع المختلفة داخلهم، قومياً أو قبلياً أو دينياً أو سياسياً.. وكذلك الحال لو انحاز المسلمون أو المسيحيون مثلاً، إلى ركن من الأرض، فإنهم يشتملون على تعددية في الأعراق، والقوميات والمذاهب والتوجهات.. وذلك يعني أن تستمر حالة الفرز والانعزال حتى تصل إلى أضيق الدوائر، مما يتنافى مع طبيعة الحياة والبشر.مجلة الحوار

ومع التطور العلمي والتكنولوجي الهائل في حياة الإنسان، فإن المسافات قد ألغيت، والحدود قد تساقطت، بين أبناء البشر، وأصبحت الدنيا قرية واحدة، مما يفرض على الناس أن يتعايشوا مع بعضهم، مهما تنوعت انتماءاتهم، وتعددت هوياتهم، من اجل مصالحهم المشتركة.

وخيرات الكون، وإمكانات الحياة، وضعها الله سبحانه تحت تصرف الجميع، فهي لجميع الناس، لا يحق لأحد أن يستأثر بها على أحد، والانتماء والتوجه لا يبرر الاستئثار ولا يسوّغ الحرمان.

لذلك يؤكد القرآن الحكيم، أن عطاء الله ونعمه في هذه الحياة، مبذولة لجميع البشر، يمدّ بها المؤمنين والكافرين على حد سواء، فعطاؤه سبحانه ليس محظوراً على أحد، يقول تعالى: ﴿كُلاً نُمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا سورة الإسراء / آية 20.

ويقول تعالى: ﴿والأرض وضعها للأنام سورة الرحمن / آية 10.

فالأرض وخيراتها للأنام جميعاً، على اختلاف أعراقهم وأديانهم وتوجهاتهم.

ويشجع القرآن الحكيم المسلمين على حسن التعامل مع المخالفين لهم في الدين، وإن يتواصلوا معهم، على أساس الإحسان والاحترام، وحفظ الحقوق، ماداموا مسالمين لم يبدءوا المسلمين بعدوان يقول تعالى: ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين سورة الممتحنة / آية 8.

وما الأحلاف والمعاهدات السلمية، التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع قبائل اليهود، وتجمعات النصارى، وفئات المشركين من العرب، إلا نموذج لما يريده الإسلام من قيام علاقات إنسانية إيجابية، بين المختلفين من اجل تعايش مشترك.

ويسجل التاريخ للمسلمين حرصهم على الالتزام بتلك المعاهدات، وتقيدهم بحسن التعامل والوفاء بالعهود، طبقاً لتعاليم الإسلام الموجـبة لذلك يقـول تعالى: ﴿وأوفوا بالعهـد إن العـهد كان مسؤولا سورة الإسراء / آية 34، ﴿والموفون بعهدهم إذا عاهدوا سورة البقرة / آية 177.

وكما خلق الله جميع الناس، واسبغ نعمه وفضله عليهم جميعاً، فإن هديه ورسالته موجهة إلى الجميع أيضاً، فالإسلام ليس ديناً، رقياً ولا قـومياً ولا قـبلياً، بل كما خاطب الله نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيرا سورة سبأ / آية 28، ﴿يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً سورة الأعراف / آية 158.

  فبذور التعددية المذهبية قد غرست مبكراً في أرضية الأمة، والإختلاف الفكري بدأ باكراً في حياة المسلمين.

بيد أن التنوع الفقهي والفكري، لم يكن ملازماً للخلاف والفرقة، بل كان في مراحله الأولى، وفي فترات مشرقة من حياة الأمة، ميداناً لتلاقح الأفكار، وإثراء الفكر، والفقه الإسلامي، وكان التعاطي والتعامل فيما بين الصحابة عند اختلافهم في المسائل، وفيما بين أئمة المذاهب، يتم بموضوعية وسعة صدر. فإما أن يخضع للرأي الآخر، ويتنازل عن رأيه حينما تتضح له الحجة والصواب، وإما أن يتمسك برأيه، مع تقديره لمخالفه، واحترامه لرأيه.

تلك كانت بعض الومضات المشرقة في تاريخنا الإسلامي، حين يلتزم المجتمع بقيم الإسلام، ويطبق تعاليمه وآدابه، فتسود حالة الإنسجام والتعاون والتعايش بين التوجهات والانتماءات المختلفة عرقياً أو دينياً أو مذهبياً.

  لكن المؤسف أن هناك وجهاً آخر لتاريخ الأمة، يثير الألم والحسرة لما يعكس من حالات تعصب وعداء، أزهقت فيها نفوس، وهتكت حرمات، وأضيعت حقوق، بسبب رفض حالة التنوع، ومحاولة فرض هيمنة معينة، كانت ترافقها في كثير من الأحيان أفكار وطروحات تبريرية خاطئة.

فلا يمكن الادعاء بأن تاريخنا وتراثنا، كان متطابقاً بالكامل مع رؤية الإسلام، ومنهج التعايش الإنساني، فإلى جانب تلك اللقطات المشرقة، المنسجمة مع روح الاسلام ومنهجه، كانت هناك -ومع الأسف- ممارسات عدوانية مؤلمة، تناقض سماحة الاسلام وعدله.

  وكانت تحصل تلك الحالات، كلما ابتعد المجتمع عن منهج الله، بتسلط جهة ظالمة، أو بروز قوى جاهلة أو مغرضة، تنشر البغضاء والفتن بين الناس.

  ومهمتنا الآن هي استجلاء قيم الإسلام الحقيقية، والاستفادة من الجانب التطبيقي الإيجابي، في تراثنا وتاريخنا حتى نتمكن من إصلاح واقعنا، ومواجهة التحديات الخطيرة التي تواجه مجتمعاتنا.

إن ما يشهده العالم الثالث من حروب وأزمات، وما تعانيه الشعوب النامية من تخلف ومشاكل، يرجع في الغالب، إلى أجواء التنازع السائدة بين الإنتماءات والتوجهات المختلفة، وعدم الوصول إلى النظام الاجتماعي العادل، القائم على الاعتراف بالآخر، والقبول به، والتعايش معه، ومشاركته في بناء الحياة الحرة الكريمة.

 

مجلة الحوار، العدد 7، شوال 1433هـ/ سبتمبر 2012م