كتلة جليد

 

 

مدينة متكاملة بكل صور الرفاهية والثراء، تسير فوق المياه، فخامتها سلبت العقول والأنظار. رغم أن سعر تذكرتها عاليًا جدًا إلا أنها نفذت جميعها بتنافس أرقى العائلات ثراءٍ لصعودها.

شاهدت ما تحويه هذه السفينة، كم أدهشتني دقة تفاصيلها، وكمية البذخ في كل خدماتها، كانت قائمة الطعام ممتدة لا تستطيع حتى بالنظر تحديد التنوع الهائل فيها. أغلى اللوحات عُلقت على جدرانها، محركاتها هي الأحدث والأكثر تطورا وأصبحت بذلك أفخم السفن المتطورة وأسرعها.

بهدوء المحيط ليلاً، سارت السفينة منطلقة بعد سهرة صاخبة ممتعة لركابها. هزة بسيطة لم يستشعر بها إلا القليل منهم جعلت صفارات الإنذار تنطلق معلنة أقصى حالات الخطر.

ارتطمت السفينة بكتلة جليد صغيرة، حاول الربان تجاوزها واعتقد أنه نجح، إلا أن هذه الكتلة كانت قمة لجبل جليدي أسفلها؛ فتسبب بكسر جزء صغير من أسفل السفينة حينها.

رغم جودة صناعتها، وقوة هيكلها؛فإن المياه تسربت ببطء من خلال هذا الجزء البسيط وأغرقت السفينة بالكامل.

كانت السفينة تحوي بداخلها أثرى أثرياء أمريكا وإنجلترا الذين اشتهروا بظلمهم وفسادهم، مات نصفهم غرقًا في مياه متجمدة وأنقذت قوارب النجاة نصفهم الآخر، ليحكوا لنا بعدها أحداث ماجرى.

وفي اللحظات الأخيرة من غرقها، اتجه مصمم السفينة إلى عبارة علقها بيديه بعد اكتمال صنعها بفخر وغرور كتب فيها «حتى الله لا يستطيع إغراق هذه السفينة» فأغرق الله بأبسط الطرق «سفينة تايتنك».

بعد قرن من هذه الحادثة، يتجدد غرور البشر بأنفسهم هذه المرة لم يكن التحدي بصنع سفينة، بل على تجاوز الأمر إلى استعلاء البشر على مخلوقات الله، وانتشار الظلم والفساد، ونهب الثروات واستغلال الحاجات وإخلال توازن الأرض فجاء رد الله بفايروس بأبسط الأحجام ليعيد ترتيب ما أفسده البشر في الأرض.

سلطت محاضرة الشيخ حسن الصفار بعنوان «تحدي الأوبئة والجوائح» الضوء على التغيرات التي حدثت وغيرت المشهد العالمي الجديد حيث تراجع فيه الاقتصاد، وتوقفت فيه المطارات واختفت ضوضاء الشوارع، وبقى الناس داخل بيوتهم يتابعون بخوف آخر مستجدات المصابين وجهود العلماء لصنع اللقاحات كعلاج يعيد لهم طمأنينة الحياة من جديد.

طرح الشيخ الصفار تاريخ الإنسان مع العديد من الأوبئة التي مرت بالبشرية وكان أكثرها الطاعون الذي سمي بالموت الأسود، حيث عصف بأرواح الملايين من البشر. كل هذه الأوبئة انتصرت جهود العلماء بمحاربتها والقضاء عليها وإعلان تطهير الأرض من آثارها.

إن الهدف والرسالة التي احتوتها محاضرة سماحة الشيخ يتركز بمشاهدة الأحداث بالنظرة الحقيقة بعيدًا عن مشاعر الخوف والقلق. فهذا الوباء ومع جهود وتنافس الدول لإنتاج اللقاح سيرحل قريبًا ولكن ما العبرة الحقيقة التي يجب أن نخرج منها نحن كبشر؟

قسم الشيخ العبر في ثلاث جوانب تعطي تكاملا للمشهد العام وهي:

1 - «الجانب الأخلاقي» المتمثل في تهذيب الإنسان بألا ينسى الله ويستعلي عليه وتتوقف يداه عن تخريب النظام الكوني الرباني وأن يتيقن ألا سلطة أكبر من سلطة الله.

2 - «الجانب العلمي» يقول الله في محكم آياته «وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً» رغم أن 96 % من أسرار الكون مجهولة لم يتوصل لها العلماء، إلا أن هذه الوباءات والمحن تنفع الإنسان وتحفزه أكثر من خلال إطلاق قوى عقله. تلك المعجزة «العقل» التي كرمنا الله بها عن باقي مخلوقاته لنظهر بها عظيم ما نملك.

3 - «الجانب الإداري» الكوارث تكشف للناس مواطن الضعف ومواقع الخطأ لذا تقف اليوم كل دول العالم صفا واحدا يتعاون لمصلحة واحدة وهي خدمة البشر. هذا درس عام نتعلم به أنه بالسلام والصلح بعيدا عن الفتن والحروب تأتي وحدة الأمم فجميعنا في مركب واحد.

هناك باب اتجه الناس للدعاء تحت رايته ليدعون الله بمقامه الفرج لهذه الأمة، مدركين أنه عزيز لله، وحفيد رسوله وحبيب سيد الشهداء وصاحب لوائه؛ لذلك جعله الله بابا للحوائج. هو ساقي العطاشى بالأمس وساقي قلوبنا اليوم. كانت فاجعة رحيله لتطهير الأرض من الفساد والظلم الواقع حينها. وما نعيشه اليوم نحن محبي أهل البيت ما هو إلا نتاج تضحياته هو وأهل بيت النبوة.

لنكن بمبادئ العباس ونقتدي به فنقف جنبا إلى جنب بوعينا وإنسانيتنا وديننا لتجاوز هذه الأزمة بأخذ العبرة والخروج منها بأقل الأضرار، ولنرسم مشهدا جديدا لحياتنا تحت قدسية الله وعدله. فلا يبتلينا الله ليغرق سفننا بل ليوجهها للميناء الصحيح الذي يجب أن ترسوا عليه.