حتى لا نهزم

 

في يومنا الحاضر، تدور حولنا الكثير من الأحداث، وتحاصرنا العديد من المسؤوليات والحاجات، التي لا يمكن لعقولنا أن تتوقف عن التفكير بها، لدرجة وصلت إلى أحلامنا؛ لتخلق منها كوابيسا تفسد متعة راحتنا.

هذه الضغوط تجعلنا في متاهات ومعاناة وقلق، وتنعكس على تصرفاتنا، فهذا يثور غضبًا لأنه وصل المكتب ونسي هاتفه بالمنزل، وآخر يهين موظفا لسوء عمله، وأخرى تصرخ بوجه ابنتها لأنها لم ترتب غرفتها كما طلبت منها، وفي نهاية اليوم تكتشف أنك هولت الأمور؛ لتلتهمك مشاعر الندم ويسيطر عليك الإحساس بالفشل.

ما سبق هو تمهيد لموضوع حيوي مهم تطرق له سماحة الشيخ حسن الصفار عنوانه «الثبات النفسي ومواجهة التحديات» عنوان يحتاج مساحة كبيرة من الاهتمام؛ بدلالة أن أكثر الكتب مبيعًا اليوم هي كتب التحفيز الذاتي والإيجابية، التي توجه القارئ للنظر لكل ما هو جميل في الحياة.

بدأ الشيخ الصفار حديثه متطرقا لحقيقة هامة، وهي أن الإنسان جزء من لوحة الرؤية الكونية الربانية الكبيرة. بينما نحن ننظر فقط إلى زاوية جمالنا فيها، وجل تفكيرنا في أنفسنا، راغبين أن نكون أجمل ما فيها، لكن لو أمعنا النظر لرأينا أن الرحمن رتب الأمور بدقة؛ بحيث يبرز جمال كل مخلوقاته فيها، وبذات الوقت يعطي كل مخلوق منها قيمه عالية، وترتيب منظم يراعي مصلحته وسعادته، كل ذلك بعدالة واتزان لا يمكن الخطأ فيهما.

إننا نرسل يوميًا كما من الدعوات للسماء؛ نرجو من الله قبولها، وبمجرد أنها لا تتحقق بعد مرور مدة من الزمن؛ نشعر بالخذلان؛ وهنا تبدأ كلمات التذمر تتردد على ألسنتنا، وتضعف قوة تحملنا؛ فننكسر أمام أي موقف بسيط يواجهنا.

إنه من السهل علينا أن نعاتب الله؛ لأنه لا يحقق أمانينا، ولكن من الصعب أن نفكر لم منعت أو تأخرت. إن أنانية الطبيعة البشرية التي بداخلنا، تمنعنا من التمعن في حسن تدبير الله لأمورنا فنستعجل هذا ونود تأخير ذاك.

لنا رغبات تتغير كل يوم، بل كل ساعة، قد تتعارض مع رغبات النظام الكوني، ولأننا نملك ربا رحيما يمنع الأمور بمقادير مصلحتنا التي لا ندركها وعلاوة على ذلك يرزقنا بدلا منها الأفضل والأجمل.

ولو بحثنا في التاريخ لوجدنا أن من أعظم قصصه، قصة نبي الله موسى   والرجل الصالح الخضر الذي رافقه المسير؛ ليتعلم منه النبي العلوم، وأثناء هذه الرحلة استنكر النبي موسى أعمال الخضر، من ثقب سفينة التجار، وقتل غلام لا يعرفه عند نزوله من السفينة. لكن عندما أوضح له الخضر الأسباب، وهي أن السفينة كانت لمساكين وهناك ملك يأخذ السفن غصبًا فثقبها؛ حتى لا يطمع بها الملك، وقتل الغلام لأن أبويه مؤمنان وخشى أن يرهقهما كفره؛ من هذا كله تعلم النبي أعمق درس وهو أن الأمور لا تؤخذ بظواهرها فقط، بل هناك أمور باطنية لا نعلمها فلا نسيء الظن بها لجهلنا إياها.

في المقابل هناك أمور توضح لنا - ونحن أحياء - سبب منعها، مما أذهلنا وجعلنا نردد كلمة «الحمد لله» وكم من أمور خفية لن يكشف الغطاء عنها إلا يوم لقاء الله؛ لنعلم أي رب عطوف بعباده نملك.

ومن هذا المنطلق يحث الشيخ الصفار الناس على التحلي بالصبر، والرضا بالقضاء والقدر للأمور التي لا حيلة بها، والتعقل والتوكل على الله فيما سواها. فالتشاؤم والتضجر مرض نفسي يحتاج علاجا، كما أن معظم الدراسات الطبية أثبتت أن الأمراض النفسية أشد خطرا من الجسدية.

كما ذكر الشيخ الصفار أن هناك الكثير من الأضرار الناتجة عن الانسياق وراء موجة السلبية في حياتنا، موضحا أن أخطر الأمور وأشدها ايذاء للنفس، هو النظر بعين سوداوية للأمور؛ لأنه يحرم الإنسان من متعة الاستمتاع بملذات الدنيا، ويسبب اختلالا في توازنه الفكري؛ فيتخذ قرارات خاطئة، وسلوكيات سيئة؛ تجعله أقل إنتاجا وإبداعا في عمله، وأضعف محبة وعطاء لمجتمعه.

من جانب آخر قدم الشيخ الصفار علاجا سهلا، لا نحتاج فيه لزيارة طبيب ولا لشراء موسوعات من الكتب. هذه الوصفة تتلخص في حسن الظن بالله، والذي سيقودنا إلى الرضا، والقناعة، وراحة البال، والاطمئنان «ألا بذكر الله تطمئن القلوب».

إن عقارب ساعة أعمارنا لا تتجه للخلف أبدًا؛ لذا مهما دخل اليأس قلبك، وسدت الطرق أمامك، سيفتح الله لك بابًا جديدًا لا تدركه. فكن شاكرا له فيما أعطى وفيما أخذ. نحن تعلمنا أن نحمد الله عند سعادتنا فقط، فلنجرب أن نحمده عند ضرنا؛ لنرى إشراقات جديدة في حياتنا.

في دوامة الأشهر الأخيرة ومع جائحة كورونا، فقد معظمنا الإحساس بلذة متعة النعم، وأصبح القلق من المرض يطاردنا، بل أصبح الوسواس بالسلوك طابعا لحياة البعض منا. إن القلق السليم مطلوب؛ لأنه مفتاح الوعي الصحي الوقائي، لكن الزائد منه مرض يحتاج الإنسان فيه للتمسك بالدعاء، والثقة بالله، والمناجاة التي تلامس روحه، وتخرج منها كل ضيق وسواد.

وكما أن الماء الذي هو سر حياتنا، هو نفسه الذي يغرقنا إذا لم نحسن السباحة فيه. كذلك أفكارنا لتكن سبب لارتقائنا للأعلى، لا سبب لنزولنا للقاع.