الصراعات الداخلية: كيف نتجاوزها؟

حالة العداوة مع أي أحد من الناس ليست ممتعة ولا مريحة، فهي عبء على نفس الإنسان، واستهلاك لاهتماماته وجهوده، وهدر لطاقات المجتمع، وتمزيق لوحدته وانسجامه.

لذلك على الإنسان العاقل الواعي أن يتجنب العداوات والخصومات، فلا يبادر أحداً بخصومة، ولا يصدر منه ما يسبب نزاعاً أو عداءً من قول أو فعل.

وإذا ما حاول أحد أن يستدرجه لعداوة أو صراع، فليتحل بالذكاء وضبط النفس كي لا يقع في الفخ، فإن العداوة نفق لا يعرف الإنسان إذا دخله كيف يخرج منه؟

إن من صفات المؤمنين الواعين، التي يشيد بها القرآن الكريم، أنهم لا يستجيبون لإثارات العداء الصادرة من الجاهلين والمخالفين، بل يعرضون عنها كأنها لم تكن، ولا يقفون عندها بل يمرون عليها مرور الكرام، ويرفعون تجاهها شعار المسالمة والموادعة.

1- إن افتعال المشاكل مع الناس حالة سلبية عبثية يقوم بها الجاهلون الفارغون، أو المنحرفون المغرضون، وإذا ما تفاعل الإنسان مع حركاتهم العدوانية، وأبدى بها اهتماماً، ورد فعل، فإنه يحقق غرضهم، ويساعد في إنجاح خطتهم لإيجاد المشكلة معه، وتوريطه فيها. لذا فإن المؤمن الواعي يفوّت عليهم الفرصة، ويتجاهل محاولاتهم لاستدراجه للصراع. يقول تعالى:

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾[1] .

واللغو هو ما لا فائدة فيه. روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ قال عليه السلام: هو أن يتقول الرجل عليك بالباطل، أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه لله. وقال مقاتل: هو الشتم فإن كفار مكة كانوا يشتمون النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وأصحابه فنهوا عن إجابتهم[2] .

ويقول تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾[3] .

يقال: تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عنه، وقيل: مرورهم كراماً هو أن يمروا بمن يسبهم فيصفحون عنه[4] .

ويعبر عن هذا الموقف المتسامي قول الشاعر:

ولقد أمر على اللئيم يسبني

فمضيت ثمت قلت لا يعنيني

2- وإذا كانت نفس الجاهل المغرض تطفح بالمساوئ والرذائل، فيلهج لسانه بكلمات الإثارة، وعبارات الطعن والتجريح، فإن نفس المؤمن الواعي مطمئنة بالخير والهدى، فما يفيض على لسانه إلا حديث الخير والصلاح، فلا يجابه كلمات السفه والعداء، إلا بمنطق السلم والتسامي عن اللغو والجهل.

يقول تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾[5] .

فهم يعرضون عن أصحاب الكلام السيئ التافه، على أساس الالتزام بمنهجيتهم المستقيمة، وحتى لا ينزلقوا في طريق السوء والانحراف ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ كما أنهم يرفعون شعار المسالمة، ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ ولا يضمرون في أنفسهم حقداً يدفعهم للانتقام والتشفي. وقد يكون ذلك تعبيراً عن الترك والانصراف فهو سلام وداع، إنهم يعلنون إنهاء اللقاء ولكن بإبداء تحية الوداع ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾.

يقول العلامة الطباطبائي: (أي إذا خاطبهم الجاهلون خطاباً ناشئاً عن جهلهم مما يكرهون أن يخاطبوا به أو يثقل عليهم، كما يستفاد من تعلق الفعل بالوصف، أجابوهم بما هو سالم من القول، وقالوا لهم قولاً سلاماً خالياً عن اللغو والإثم)[6] .

وتكرر آيات عديدة في القرآن هذا المعنى تأكيداً لأهمية هذا السلوك الواعي، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا﴾[7] .

﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾[8] .

ضبط الانفعالات

الإنسان كائن حي زوده الله تعالى بغرائز وشهوات، منها تنطلق انفعالاته، وبها يحقق لذاته ومصالحه.

ومن الغرائز العميقة في نفس الإنسان ووجوده غريزة الغضب، والتي تتحرك وتثور حينما يتعرض للخطر والعدوان، أو تنتصب في وجهه العوائق والعقبات لتحول بينه وبين تحقيق رغباته ومتطلباته.

وبالانفعالات الصادرة عن هذه الغريزة، يدافع الكائن الحي عن نفسه، ويصد الخطر عن وجوده ومصالحه.

إن الإساءات التي تقع على الإنسان من الآخرين، تأخذ دور المنبّه والمثير لهذه الغريزة الكامنة في النفس، وعلى أساس هذه الإثارة تحصل الاستجابة الانفعالية، وتترجم في الواقع الخارجي ممارسة عدائية انتقامية.

فهناك إذن جوانب ثلاثة:

1-.كائن حي -إنسان- يمتلك قوة غريزية غاضبة.

2-.حدث أو تصرف يكون منبهاً مثيراً لتلك الغريزة.

3- استجابة انفعالية تجاه تلك الإثارة.

وإذا كان وجود غريزة الغضب أمراً طبيعياً وضرورياً لحياة الإنسان، فإن الناس يتفاوتون في مدى الاستجابة للمنبهات والمثيرات التي تتجه صوب هذه الغريزة.

فالبعض من الناس تكون استجاباتهم الانفعالية خفيفة سريعة، فأقل كلمة تشعل نار الغضب في نفوسهم، وأبسط تصرف تقوم من أجله قيامتهم، ويندفعون للانقضاض على الطرف الآخر بأي وسيلة انتقامية متاحة لديهم.

وهذا الصنف من الناس يصعب عليهم الانسجام مع الآخرين، ويعجزون عن كسب الأصدقاء والمحبين، ويعيشون حياة شقية قاسية مليئة بالعداوات والخصومات.

إنهم يطلقون العنان لغريزة الغضب، فتضعف الإرادة ويتراجع العقل أمامها.

وقد يندفع الإنسان الغاضب لأعمال وممارسات يندم فيما بعد على ارتكابها، حيث لا يفيد الندم. فكم من أب ينزعج من تصرفات أطفاله الصغار، فينهال عليهم ضرباً مبرحاً يسبب لهم أضراراً وإعاقات جسمية، يتحمل هو فيما بعد عناء معالجتها إضافة إلى الإثم وسخط الرب، وعذاب الضمير؟

وكم من زوج يتفجّر بركان غضبه لخطاءٍ ما صدر من زوجته تجاهه، فتضطرب حياته العائلية، وينهدم كيان أسرته، أو يصاب بشرخ عميق؟ وقد يحصل مثل ذلك من قبل الزوجة تجاه زوجها.

وكم من إنسان خسر صديقاً نافعاً مخلصاً لعدم احتماله نقص أو تقصير صدر منه، فواجهه بغضب وانفعال؟

وكم من شخص أوقع نفسه في صراع غير متكافئ مع جهة قوية غاشمة، لأنه لم يفكّر في نتائج انفعالاته؟

إن العقلاء الواعين من الناس هم الذين يجعلون عقولهم حاكمة على غرائزهم، ويفسحون المجال لإرادتهم لضبط انفعالاتهم. فيتحلّون بالرزانة والوقار أمام المثيرات والمنبهات، ولا يستجيبون لشيء منها إلا بقرار عقلي سليم، وعبر أدوات وأساليب مناسبة.

هذا الضبط للانفعالات، تطلق عليه في مدرسة الأخلاق عدة عناوين: كالحلم وكظم الغيظ والعفو والتسامح والصبر.

وبه يتجاوز الإنسان الضغوط النفسية التي تسببها الإثارات المسيئة، كما يتجنب الوقوع في فخ العداوات والخصومات، بل ويكسب القلوب والمواقف في المحيط الاجتماعي.

يقول الإمام علي عليه السلام:

(جمال الرجل حلمه)

(من حلم ساد)

(بالحلم تكثر الأنصار)[9] .

إن من تعيش معهم بشر، فيهم أمزجة مختلفة، وطباع متفاوتة، وفيهم جهال ومغرضون، فحدوث الإساءات والأخطاء من قبلهم أمر وارد ومتكرر، فعلى الإنسان أن يستوعب الآخرين، ويتحمل أخطاءهم وإساءاتهم ليكون أقدر على التعايش معهم.

وبإمكان الإنسان أن يروّض نفسه ويدرّبها على الاحتمال والتجاوز وأن لا ينفعل أمام أي إثارة، بل يتسامى ويغضّ الطرف عن الأخطاء، ليوفّر قوته وغضبه للموارد التي تتطلب ذلك وتستحقه.

إن الحساسية المرهفة عند البعض من الناس تجعله في حالة استنفار وانفعال دائم تجاه الآخرين، حيث تتضخم لديه الأمور البسيطة، ويغضب للمسائل التافهة. فينزلق إلى أوحال الأزمات والمشاكل. يقول الإمام علي عليه السلام: (من عاتب أخاه على كل ذنب كثر عدوه).

أخلاق أئمة الهدى

وتطرق أسماعنا قصص عظيمة، ومواقف رائعة، من حياة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وأئمة الهدى من أهل بيته عليهم السلام، في سموهم وتساميهم على إثارات الجاهلين والمغرضين، ومقابلتهم الإساءة بالإعراض والصفح، والحلم والعفو، لكننا غالباً ما نكتفي بهز رؤوسنا طرباً وإعجاباً بتلك الأخلاق الحضارية الرفيعة، بينما المطلوب استلهام الدروس والعبر من تلك القصص والمواقف، وجعلها في موضع التأسي والإقتداء.

1-.روي أن الإمام علي عليه السلام كان جالساً في أصحابه، فمرت بهم امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم، فقال عليه السلام: إن أبصار هذه الفحول طوامح، وإن ذلك سبب هَبَابِها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله، فإنما هي امرأة كامرأته.

فقال رجل من الخوارج: (قاتله الله كافراً ما أفقهه). فوثب القوم ليقتلوه، فقال عليه السلام: رويداً إنما هو سب بسب، أو عفو عن ذنب[10] .

وسمع أمير المؤمنين عليه السلام رجلاً يشتم قنبراً - خادمه - وقد رام قنبر أن يردّ عليه، فناداه أمير المؤمنين عليه السلام: مهلاً يا قنبر! دع شاتمك مهاناً ترضي الرحمن، وتسخط الشيطان، وتعاقب عدوك، فوالذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت، ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه[11]  .

2-.وكان الإمام الحسن بن علي عليه السلام راكباً فاستقبله رجل من أهل الشام، صار يسب الإمام ويشتمه، والحسن لا يرد عليه بشيء، فلما فرغ أقبل عليه الإمام مسلماً عليه وقائلاً: أيها الشيخ أظنك غريباً، ولعلك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، ولو حركت رحلك إلينا وكنت ضيفاً إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك.

فخجل الرجل من نفسه وتغيّر موقفه من الإمام.

3-.خرج الإمام زين العابدين علي ابن الحسين عليه السلام إلى المسجد يوماً فسبّه رجل، فأسرع الناس للانتقام منه، فنهاهم الإمام عن ذلك، وأقبل عليه قائلاً: ما ستره الله عنك أكثر ألك حاجة نعينك عليها؟

واستقبله يوماً رجل آخر يكيل له السب والشتم، فأجابه الإمام: يا فتى إن بين أيدينا عقبة كؤودا، فإن جزت منها فلا أبالي بما تقول، وإن أتحيّر فيها فأنا شر مما تقول.

ومرة أخرى كان الإمام زين العابدين ماشياً فاعترضه شخص معتدياً عليه بالسب والشتم، لكن الإمام أشاح بوجهه عنه، فصرخ الرجل في وجه الإمام: إياك أعني!

فأجابه الإمام فوراً: وعنك أغضي.

وفي موقف آخر: افترى عليه رجل وبالغ في الإساءة والشتم، فقال عليه السلام: إن كنا كما قلت فنستغفر الله، وإن لم نكن كما قلت فغفر الله لك[12] .

4-.قال الإمام محمد الباقر عليه السلام لأحد أصحابه ومحبيه علقمة الحضرمي: إني أراك لو سمعت إنساناً يشتم علياً فاستطعت أن تقطع أنفه فعلت.

قلت: نعم

قال: فلا تفعل، ثم قال: إني لأسمع الرجل يسبّ علياً واستتر منه بالسارية، وإذا فرغ أتيته فصافحته[13] .

إن مثل هذه المواقف دروس نستوحي منها القدرة على التحكم في انفعالاتنا، وأن لا تستدرجنا الاستفزازات والإثارات للدخول في معارك جانبية، وصراعات طفولية.

عز الحلم وذل الانفعال

يتصور البعض من الناس بأن غض الطرف عن الإساءة، والتجاوز عن الخطأ، يجعله في موقع الضعف والمذلة تجاه الآخرين.

وتلك وسوسة شيطانية، وعزة آثمة، تحرّض انفعالات الإنسان، وتدفعه للاسترسال مع غريزة الغضب الجامحة، وماذا ستكون النتيجة. إلا التورط أكثر في الخصومات والوقوع في مأزق العداوات؟ ويصبح الإنسان بعدها في موقع ضعف حقيقي. بينما لو اعتصم بالحلم وكظم الغيظ للحظات لوفّر على نفسه عناءً طويلاً، واكتسب عزاً حقيقياً.

لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم فيما روي عنه: إن العفو يزيد صاحبه عزاً فاعفوا يعزكم الله[14]  .

ويعتبر الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ضبط الإنسان لانفعالاته علامة على القوة والشجاعة، يقول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم فيما يروى عنه: ليس الشديد بالصّرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.

وخرج صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يوماً وقوم يدحرون حجراً فقال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: أشدكم من ملك نفسه عند الغضب، وأحلمكم من عفا بعد المقدرة[15] .

إن خلافات وصراعات كثيرة تحدث في المجتمع بسبب الحساسية المفرطة تجاه بعض الكلمات أو التصرفات، وإن عداوات ضارة يتورط فيها الإنسان لاستجابته لبعض الإثارات والاستفزازات.

فلنحذر هذه المزالق، ولنتسلح بشجاعة الحلم للهروب من عناء وأخطار العداوات التي لا تستحق أن ينشغل بها الإنسان.

أخطار العدوات

يحتاج الإنسان إلى أخيه الإنسان في بعدين:

الأول- البعد المادي:

للتعاون في تسيير أمور المعيشة والحياة، حيث ان الإنسان لا يستطيع بمفرده أن يهيئ كل أمور حياته، بل لا بد له من التعاطي مع الآخرين من أبناء جنسه،  فهو يحتاج إليهم وهم يحتاجون إليه، وكذلك الحال على مستوى المجتمعات والدول،  فمهما كانت إمكانات أي دولة من الدول، لا تستطيع أن تعيش في عزلة عن المجتمع الدولي، وخاصة في هذا العصر، حيث وثقّت تطورات الحياة التداخل والتشابك في المصالح بين مختلف الشعوب والدول.

وكلما اتسعت وقويت علاقة الإنسان مع الآخرين، كانت أمور حياته اكثر يسراً وانتظاما، وهذا أمر واضح ملموس، فإذا كانت هناك حاجة أو قضية، لدى شخص يمتلك شبكة من العلاقات والارتباطات، ونفس القضية لدى شخص آخر منعزل اجتماعياً، فان الأول يكون اقدر على إنجاز حاجته وأسرع في معالجة قضيته من الثاني.

الثاني - البعد النفسي :

حيث يأنس الإنسان بأخيه الإنسان، ولو توفرت لإنسان ما كل وسائل الحياة والرفاه، على ان يعيش منفرداً معزولاً،  لما ارتاح لذلك،  لذا فان السجن الانفرادي يعتبر من أقسى وسائل التعذيب والتنكيل في المعتقلات.

ويرى بعض اللغويين أن أصل اشتقاق اسم الإنسان من الأنس: (الإنسان فعلان عند البصريين لموافقته مع الأنس لفظاً ومعنى. قيل: سمي بذلك لأنه خلق خلقة لا قوام له إلا بأنس بعضهم ببعض، ولهذا قيل: الإنسان مدني بالطبع، من حيث انه لا قوام لبعضهم إلا ببعض، ولا يمكنه أن يقوم بجميع أسبابه)[16] .

لذا فان لمستوى علاقات الإنسان مع من حوله من أبناء جنسه، تأثيراً كبيراً في مدى ارتياحه النفسي، فكلما كانت في درجة افضل، كان اشد سعادة وهناءً.

من هذا المنطلق فانه يجب ان يحرص الإنسان على علاقته بأخيه الإنسان، وان يسعى لتطويرها وتفعيلها بأكبر قدر ممكن، فذلك يخدم مصالحه المادية، ويريحه ويسعده نفسيا.ً

التودد الى الناس

وفطرة الانسان، وتفكيره المنطقي، يقوده إلى هذه الحقيقة، كما ان التعاليم الدينية تؤكد على أهمية حسن العلاقة بين الناس، وتعتبر نجاح الإنسان في علاقاته مع الاخرين مؤشراً على عمق تدينه ونضج عقله.

فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم انه قال: (خياركم أحسنكم أخلاقا، الذين يألفون ويؤلفون)[17] .

وعنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (أقربكم مني غداً أحسنكم خلقاً وأقربكم من الناس)[18] .

وعنه أيضاً صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (لا خير فيمن لا يُؤلف ولا يألف)[19] .

ويقول كما روي عنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد الى الناس)[20] .

العداوة ومضارها

العداوة تعني وجود خلل في العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وتعني حدوث حالة معاكسة ومناقضة لما يجب ان يكون، فبدل ان يأنس كل منهما بالآخر، ويتعاونا في تسيير شؤون حياتيهما، تحصل حالة التباعد والكراهية، ثم تتطور لتصل إلى مستوى النزاع والاعتداء المتبادل .. فالبغض والكراهية يأخذ مكان المحبة والأنس، والاعتداء على المصالح يحتل موقع التعاون.

انها حالة شاذة غير طبيعية، تخالف الفطرة والوجدان، وتصادم المنطق والعقل، وتشكل تهديداً وخطراً على بناء حياة الإنسان، وحماية مصالحة.

والنصوص الدينية تحذر الإنسان من خطر العداوة، وتنبهه حتى لا يتورط في مزالقها.

عن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (ماكان جبرئيل عليه السلام يأتيني إلا قال: يا محمد اتق شحناء الرجال وعداوتهم)[21] .

وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (ما عهد الي جبرئيل عليه السلام في شيء ما عهد الي في معاداة الرجال)[22] .

وعنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (ألا إن في التباغض الحالقة، لا اعني حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين)[23] .

وروي عنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم انه قال: (لم يزل جبرئيل عليه السلام ينهاني عن ملاحاة الرجال كما ينهاني عن شرب الخمر وعبادة الأوثان)[24] .

وعنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (ألا أنبئكم بشر الناس؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من أبغض الناس وابغضوه)[25] .

وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (والعداوة القليل منها كثير)[26] .

 ويعتبر الإمام علي ان العداوة مع الناس قمة الجهالة يقول عليه السلام: (رأس الجهل معاداة الناس "و" معاداة الرجال من شيم الجهّال)[27] .

وفي كلمة اخرى يقول عليه السلام: (من زرع العدوان حصد الخسران)[28] .

وللعداوة مضاعفات وأخطار كثيرة من أبرزها ما يلي:

عذاب النفس

أرأيت كيف يتعب الإنسان ويرهق حينما يحمل ثقلاً على جسده؟ كذلك فان العداوات والخصومات تمثل عبئاً ثقيلاً، وحملاً باهضاً على نفس الإنسان، تجلب له الأذى والإزعاج،  وتسبب له الهم والغم، وتضغط على قلبه وأعصابه.

انك حينما تدخل مجلساً وترى فيه أحبابا وأصدقاء، ينشرح صدرك، وتجلس مرتاحاً مستأنساً، بينما اذا دخلت مجلساً آخر ووجدت فيه من بينك وبينه عداوة وحساسية ، تنزعج نفسياً وتتأذى، وحينما تبقى في المجلس لا تشعر بالراحة والرضا.

وهكذا يكون وجود حالة عداء سبباً للتوتر النفسي، فمجرد مرور ذكره على خاطرك، او مرور اسمه على سمعك، أو رؤيتك لشخصه، يثير في داخلك مشاعر الغضب والانزعاج.

يقول الإمام علي عليه السلام: (إياكم والمراء والخصومة فانهما يمرضان القلوب)[29] .

وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (إياكم والخصومة فانها تشغل القلب)[30] .

وعن الإمام محمد الباقر عليه السلام: (إياكم والخصومة فانها تفسد القلب)[31] .

وعن الإمام علي الرضا عليه السلام: (إياك والخصومة فانها تردي بصاحبها)[32] .

فالعداوة والخصومة عذاب للنفس، وضغط على الأعصاب، وهي تشغل القلب، وتمرضه، وتفسده، وتسبب الردى والهلاك لصاحبها، وكما قال الإمام علي عليه السلام: (من ساء خلقه فقد عذب نفسه).

استهلاك الجهد

بدل ان يشتغل الإنسان ببناء ذاته، ويوجه طاقته وجهده لاصلاح أموره، ولتقدمه وتطور حياته، فان حالة عدائه مع الاخرين، تقتطع جزءاً من اهتمامه وتفكيره، وطاقاته وإمكاناته، وذلك بالطبع لا يتوجه لحماية الذات من الآخر المعادي فقط وانما لإيقاع الضرر به وتحطيمه، والقضاء على إمكاناته ومصالحه، كما يقوم الطرف الآخر بنفس المحاولة والدور، وبهذا تضيع الجهود وتهدر الإمكانيات من الطرفين .

والمثال الأجلى والأوضح هو الحروب التي تنشأ بين الدول المتجاورة، كالحرب العراقية الإيرانية، والتي حطمت اقتصاد البلدين، وأثرت على البنية التحتية فيهما، وعوقت التطور والتقدم في الدولتين، مع الخسائر العظيمة في النفوس والأرواح.

مرمى السهام

حينما يعادي الإنسان الآخرين، فيجب أن لا يتوقع منهم باقات الورود، ولا رسائل الحب والاحترام، بل سيكون في مرمى سهامهم، ومعرض انتقامهم، وسيستخدمون ضده الأسلحة التي بأيديهم، خاصة وأن الناس يتفاوتون في مستويات تفكيرهم، وضوابط تصرفاتهم وممارساتهم، وعلى الإنسان أن يتوقع أسوأ الاحتمالات، من جانب المعادين له. قد تتعرض حياته للتصفية، وأمواله للنهب، وسمعته للتشويه، ويعتدى على حقوقه، وتصنع له العوائق والعقبات في طريق أعماله ونشاطاته.

ولا يخلو الإنسان من نقاط ضعف، وثغرات خلل، عادة ما تكون مستورة خافية، فإذا ابتلي بأعداء وخصوم، فإنهم سينقبون عن أخطائه، ويفتشون عن ثغراته، وينفذون من خلال نقاط ضعفه، لإيقاع الضرر به، وتوجيه الأذى إليه.

لذلك يقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (إياك وعداوة الرجال فانها تورث المعرّة، تبدي العورة)[33] .

فالعداوة تسبب المعرّة أي الأذى، وتكشف العورة، أي نقاط الضعف والخلل.

وأوصى الإمام علي بن أبى طالب عليه السلام أبناءه يوماً فقال لهم: (يابني إياكم ومعاداة الرجال، فانهم لا يخلون من ضربين: من عاقل يمكر بكم، أو جاهل يعجل عليكم… ). ثم أنشأ يقول:

سليم العرض من حذرالجوابا

ومن دارى الرجال فقد أصاب

ومن هاب الرجال تهيبـوه

ومن حقر الرجال فلن يــهابا[34] 

وقال عليه السلام في كلمة أخرى: ان للخصومة قحما. وفسرها الشريف الرضي بقوله: يريد بالقحم المهالك، لانها تقحم أصحابها في المهالك و المتالف في الأكثر[35] .

الوقوع في الحرام

بغض النظرعن مبررات العداء، فان حالة العداء غالباً ما تدفع الإنسان، لارتكاب مختلف المعاصي والذنوب، من أجل تحقيق الانتصار على عدوه، وإيقاع أكبر قدر من الضرر به، فالكذب والغيبة والنميمة، والسب والشتم، والاعتداء والظلم والتآمر، وما شاكل من المحرمات، كلها وسائل يجد الإنسان نفسه مدفوعاً لاستخدامها في معارك خصوماته وعداواته.

وفي كلمة رائعة يصور الإمام علي عليه السلام موقف من تورط في عداء أو خصومة، بأنه بين أحد خيارين كلاهما مر، فإما أن يتنازل ويقصّر في المواجهة، فيعطي الفرصة لعدوه ان يتمكن منه ويتغلب عليه ويظلمه، واما أن يدخل المعركة بكل ما أوتي من قوة، ويستخدم كل أسلحة المواجهة، مشروعة وغير مشروعة، وذلك يعرّضه لارتكاب المعاصي والذنوب، ويبعده عن تقوى الله، فيناله الإثم والسخط الإلهي. يقول عليه السلام: (من بالغ في الخصومة أثم، ومن قصر فيها ظلم، ولا يستطيع ان يتقي الله من خاصم)[36] .

وعلّق على هذه الكلمة أحد شرّاح نهج البلاغة بقولـه: أشار عليه السلام في هذا الكلام الى ان الخصومة داء لا دواء له، ولا يحصل منها الاّ الضرر و الخسار، فان الداخل فيها اذا بالغ يأثم ويبتلى بالخسار الأخروي، وان قصّر ظلم ويبتلى بالخسار الدنيوي، ويصعب الوقوف بين هذين الحدين، ورعاية أصل التقوى في البين، فمن اراد النجاح فلا بد له من عدم الدخول في الخصومة، والوقوف دائما على الصلح والإصلاح[37] .

وفي وصيته لمؤمن الطاق محمد بن النعمان يقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (وإياك وكثرة الخصومات فانها تبعدك عن الله)[38] .

وضمن هذا السياق ما روي عن الإمام الرضا عليه السلام: (وإياك والخصومة فانها تورث الشك، وتحبط العمل، وتردي بصاحبها، وعسى أن يتكلم بشيء لا يغفر له)[39] .

إضعاف المجتمع

المجتمع الذي تسوده أجواء المحبة والوئام، وينشغل أبناؤه بالعمل الإيجابي، والنشاط البنّاء، ويتعاونون فيما بينهم على خدمة مصالحهم، وتسيير أمورهم، هذا المجتمع تكون بنيته قوية، وكيانه متماسك ثابت، بينما المجتمع الذي تدبّ في أوساطه الخصومات، وتنتشر النزاعات والعداوات، فانه يصاب بالضعف والهزال، ويبتلى بالتفكك والانهيار.

لذلك يحذر الله تعالى عباده المؤمنين من خطر التنازع والتعادي، وينذرهم بأن النتيجة الحتمية لذلك هو هدر إمكانات المجتمع، وذهاب قوته، وبالتالي فشل المجتمع في تحقيق مصالحه وأهدافه، يقول تعالى:﴿وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾[40] .

العوامل والأسباب

لماذا يعادي الإنسان أخاه الإنسان؟ ولماذا يمارس العدوان ضده؟

إنها ظاهرة قديمة بدأت منذ الأيام الأولى لهبوط الإنسان على وجه الأرض،  وضمن أول أسرة بشرية صغيرة لأبينا آدم عليه السلام حيث اشتعلت نار العداء والكراهية في نفس قابيل على أخيه هابيل، ودفعته إلى قتله وتصفية حياته!! ثم رافقت المجتمع الإنساني هذه الحالة المرضية طوال مسيرة حياته، فلا تخلو مسافة زمنية، ولا منطقة جغرافية، يعيش فيها بشر، من حالات العداء، وممارسات العدوان ..

وقد لاحظ العلماء أن الإنسان أكثر من سائر الحيوانات توحشاً وقسوة في عدائه الضمنوعي حيث لا يوجد عدوان يؤدي للقتل بين الحيوانات من نفس النوع، فالذئب لا يقتل ذئباً، والأسد لا يقتل أسداً، لكن الإنسان يتجرئ على قتل أخيه الإنسان!! بل إن معاناة الإنسان والآمه ومآسيه، التي تجرعها من أبناء نوعه وجنسه، هي أكبر بكثير مما لاقاه من كوارث الطبيعة، واعتداء سائر الحيوانات المفترسة ..

وخالق الإنسان وهو الله سبحانه وتعالى حذره من مغبة هذه النزعة، منذ صدور القرار الإلهي بخروج آدم وحواء عليهما السلام من الجنة، وبدء حياتهما على سطح الأرض، يقول تعالى: ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾[41]  .

أما أسباب هذه الظاهرة، وتفسير هذه الحالة، فقد أصبحت ميداناً لبحوث العلماء، ومسرحاً لآرائهم المختلفة، ونظرياتهم المتعددة، ونشير إلى إبرز تلك النظريات والآراء.

نظريات بيولوجية

هناك مدرسة علمية تحليلية، ترى أن ظاهرة العداوة والعدوان، تعود إلى سبب تكويني في خلقة الإنسان وجسمه، فهي حتمية بيولوجية. ومن أبرز أعلام هذه المدرسة سيزار لومبروزو(1836- 1909م ) وهو إيطالي، اختصاصي بعلم الجريمة.

ينطلق أساس نظرية (لومبروزو) من الحتمية البيولوجية للعدوان، وربط هذه الحتمية بسببين:

السبب الأول: يعود إلى مرحلة سابقة في التطور،  هي مرحلة الإنسان البدائي المتوحش، إذ يرجع إجرام الشخص إلى ارتداده الوراثي لهذه المرحلة.

والسبب الثاني: يرتبط بالإنحطاطية المرضية، التي تنشأ من مرض الصرع الذي ينتقل بالوراثة.

وبرر السبب الأول، من خلال الفحوصات التي أجراها على عدد كبير من جماجم المجرمين ورؤسهم، إذ وجد أن جمجمة المجرم تشبه في تركيبها التشريحي، ذلك التركيب التشريحي الذي تتميز به جمجمة الإنسان البدائي المتوحش. كما برر السبب الثاني، بتكرار السلوك الإجرامي لدى مرضى الصرع. ويرى أن المجرمين يتميزون بخصال تشريحية ونفسية لا تتبدى لدى غيرهم.

وضمن هذه المدرسة، تبنى آخرون نظرية المورّث الزائد، وتعتمد هذه النظرية على أن شذوذ الكرموزومات، وبالتحديد ذلك الشذوذ المتعلق بالمورّث الذكري الزائد (y) يؤدي إلى نتائج جسدية وعقلية خطيرة، وقد ساد الاعتقاد بأن المورّث (y) يسبب العدوان، نتيجة للملاحظات حول العلاقة بين الزيادة الشاذة لـهذا المورث لـدى البعض وتكرار السلوك العدواني لديهم.

وهناك دراسات وبحوث تربط بين العدوان وتخطيط المخ، وتشير إلى أن الأفراد الذين يعانون من انحرافات في مخططات أمخاخهم، يظهر عليهم العدوان، وتشير كذلك لوجود خلل عضوي يرافقه اختلال وظيفي .

نظريات سيكولوجية

يرى بعض العلماء أن السلوك العدواني لدى الإنسان والكائنات الحية الأخرى، ينبعث من قوة داخلية تسمى الغريزة العدوانية. وينظّر لهذا الرأي (كونراد لورنز) - عالم نفس وحيوان، من النمسا ولد عام 1903م - في كتابه الشهير (في العدوان) الذي صدر عام 1963، مؤكداً غريزية العدوان،  وأن هذه الغريزة تحتاج إلى تحرير أو افراغ بين فترة وأخرى، من أجل تخفيف الضغط الداخلي الذي تسببه على صاحبها، وسبب هذا الضغط هو تراكم الطاقة العدوانية، بعد إفراغها بوقت معين. فالسلوك العدواني يتوقف حدوثه على تراكم هذه الطاقة داخل المتعضية ( الكائن الحي ) من جهة، وعلى درجة فعالية منبهات العدوان الخارجية من جهة أخرى. وكلما زاد تراكم هذه الطاقة، عمل أضعف منبه خارجي للعدوان على إثارتها في شكل عدوان صريح. أما إذا مضى وقت كاف دون افراغ هذه الطاقة، فإن العدوان يحدث تلقائياً في غياب المنبه الخارجي.

ويرى (لورنز): أن جميع المحاولات للقضاء على العدوان ستكون فاشلة، وأن الإجراء الأكثر فاعلية للتخفيف من العدوان، هو تحرير الطاقة العدوانية، من خلال ممارسات يقرّها المجتمع، كالرياضة والمنافسات غير الضارة.

ولعل من أشهر نظريات المدرسة النفسية لتفسير السلوك العدواني، نظرية الإحباط -العدوان. إذ ينظر للعدوان باعتباره نتيجة للاحباط دائماً. فكلما حدث موقف محبط، ظهر العدوان كاستجابة لهذا الإحباط.

والإحباط: عملية تتضمن إدراك الفرد لعائق يعوق إشباع حاجة له، أو توقع حدوث هذا العائق في المستقبل.. وينتهي الإحباط في الكثير من الحالات إلى العدوان، ويظهر المصاب بالإحباط شديد التوتر ميالاً إلى اقتناص اية فرصة تتاح له، للخلاص من ضغط التوتر لديه. وقد يتجه العدوان نحو مصدر الإحباط، وقد يتجه نحو آخرين.

نظرية التعلم الاجتماعي

وتعتمد هذه النظرية على المحيط الاجتماعي كأساس أو كأصل لنشوء حالة العداوة والعدوان، من خلال الملاحظة والمحاكاة.

ومن ابرز أعلام هذه النظرية (البورت بندورا) - ولد عام 1925م بكندا واختير رئيساً للجمعية النفسية الأمريكية 1973م وعمل مدرساً لمادتي علم نفس العدوان وتغيّر الشخصية -. وكان كتابه (العدوان: تحليل اجتماعي) محاولة للإجابة على سؤال: لماذا يعتدي البشر؟.

ويرى (بندورا) ان السلوك البشري يكتسب من خلال ملاحظة النماذج السلوكية، التي تحدث في البيئة الاجتماعية المحيطة بالفرد أو الجماعة.. فإذا انتبه الطفل الى نماذج عدوانية، خلال حياته العائلية، أو عبر مشاهدة أفلام عنف في التلفزيون مثلاً، فانه يقوم بتخزين هذه النماذج السلوكية، والاحتفاظ بها في الذاكرة، فإذا ما حصل تعزيز أوتشجيع، تحوّل ذلك إلى سلوك عدواني.

وعلى هذا الاساس، فالناس لا يولدون مزودين بغريزة للعدوان، بل انهم يتعلمونه مثل أي سلوك متعلّم آخر. فالأفراد الذين شاهدوا غيرهم يعتدي، تكون احتمالية اعتدائهم اكبر من أولئك الذين لم يشاهدوا النماذج العدوانية.

هذه بعض النظريات حول تفسير ظاهرة العداوة والعدوان في المجتمع البشري، وهناك نظريات اخرى عديدة، ضمن هذه التوجهات أو غيرها، وقد استعرض أكثرها وناقشها الباحث الأستاذ/ اسعد النمر في كتابه القيّم (في سيكولوجية العدوان)[42] ، والذي اعتمدناه مصدراً في الحديث عن تلك النظريات، وحول كل نظرية هناك نقاشات وردود وملاحظات، للمهتمين بدراسة هذا الموضوع، يمكن الرجوع اليها في المراجع المختصة.

وواضح انه لا يمكن القبول بالنظريات التي تعتبر العدوان حتمية بيولوجية، لأن ذلك يعني إنكار إرادة الإنسان واختياره، وبالتالي فانه لا يتحمل مسؤولية عمله ما دام مجبوراً عليه، فلا يستحق بذلك عقاباً أو جزاءا، كما لا جدوى اذاً من التصدي للسلوك العدواني، مما يعطي تبريراً ايديولوجياً لهذه الممارسات. كما ان العوامل النفسية تهيء الفرد وتجعله مستعداً للسلوك العداوني، دون ان تشكل حتمية تلغي ارادته واختياره.

ولسنا مضطرين لتفسير العدوان برؤية احادية، بل قد تتفاعل عوامل مختلفة لانبعاث حالة عدوانية، كما تتمايز حالات عن أخرى في جذورها واسبابها.

تضارب المصالح

وإذا ما تجاوزنا الحديث عن النظريات التحليلية، وفتشنا عن الأسباب الميدانية المباشرة، التي تنجم منها حالات العداء والعدواة بين الناس لوجدنا أن في طليعتها: تضارب المصالح.

فلكل إنسان في هذه الحياة مصالحه وتطلعاته، التي تعبر عن احتياجاته ورغباته، فإذا ما حال أحد أو تصور انه يحول بينه وبين حاجة له أو رغبة عنده، فسيتخذ منه موقف العداء، ويواجهه بالعدوان.

واغلب الصراعات والنزاعات في عالم البشر، تحصل بسبب اصطدام المصالح، كالنزاع على السلطة والحكم، أو على الثروة والمال، أو على الامتيازات والمواقع.

ثم قد تحدث هذه النزاعات بين أفراد وقد تكون بين فئآت وجماعات، وبين دول وحكومات.

ان سعي الإنسان لتحقيق مصالحه، وإشباع حاجاته ورغباته، أمر مشروع، لكن ذلك يجب أن يكون ضمن حدود الاحترام لحقوق الآخرين، وحريتهم في السعي لخدمة مصالحهم، مما يستلزم وجود نظام وقانون عادل، ينظم سير الناس وتنافسهم في توفير شؤون حياتهم، ومتعلقات ميولهم ورغباتهم.

وغياب ذلك القانون، أو تحيزه لبعض دون آخر، أو عدم وضوحه، قد يكون مسبباً لحالات من التصادم والتضارب في المصالح.

وفي أحيان كثيرة تدفع الأطماع والرغبات اصحابها، الى تجاوز الحدود، وانتهاك حقوق الآخرين، وهم يعلمون ان ما يقدمون عليه مخالف للنظام والقانون، ومدان من قبل الضمير والوجدان، لكن الطمع والرغبة تقود الإنسان إلى الظلم والعدوان، ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (حبك للشيء يعمي ويصم)[43] .

عداوات الأقارب

علاقة الإنسان مع أرحامه وأقربائه يفترض أن تكون وثيقة متينة، فهناك ارتباط وجودي تكويني تثبته الجينات والمورثات، والتي اصبح العلم يعتمدها للتأكد من الانتساب والانتماء العائلي، وبالتعبير الشعبي إنها علاقة لحم ودم. وايضاً فهي صحبة عمر حيث يبدأ  الإنسان حياته في أحضان عائلته، ورعاية اسرته، ويبقى في ظل هذه العلاقة يلوذ بها وخاصة عند عواصف الزمن، وشدائد الحياة، وهناك الوشائج العاطفية، التي تشده الى أرحامه وأقربائه.

هذه العلاقة المتجذرة والعميقة، من المؤسف جداً ان تعصف بها في بعض الأحيان، رياح الأطماع وتضارب المصالح المادية الزائلة، فتنسفها وتجتثها، حتى بين الأخوان الأشقاء المنحدرين من صلب أب واحد، ورحم أم واحدة!!

والعداوة بين الأقرباء من اسوأ انواع العداوات، لما تتركه في النفس من عظيم الألم، وعمق الجراح، ولما تخلفه من قطع الأرحام، ووشائج القربى، وتمزيق العوائل والاسر، ولأن الأقرباء اقدر على الأضرار ببعضهم، لمعرفتهم نقاط الضعف فيما بينهم.. لذلك روي عن الامام علي عليه السلام قولـه: (عداوة الأقارب أمضّ من لسع العقارب)[44] .

وكم نجد في مجتمعاتنا من عداوات بين الأقرباء بسبب الخلاف على الإرث؟ وكم من اخوة أشقاء أو غير أشقاء خاضوا ضد بعضهم معارك العداء والكراهية، وانفصمت بينهم عرى الاخوة ووشائج الرحم لاختلافهم على شيء من تركة أبيهم؟




العدد (21) الربع الثاني 2001م

[1] سورة المؤمنون الآية1-3.
[2] الطبرسي: الفضل بن الحسن/ مجمع البيان في تفسير القرآن ج18 ص136 منشورات دار مكتبة الحياة-بيروت.
[3] سورة الفرقان الآية72.
[4] الطبرسي: الفضل بن الحسن/ مجمع البيان في تفسير القرآن ج19 ص130 منشورات دار مكتبة الحياة-بيروت.
[5] سورة القصص الآية55.
[6] الطباطبائي: اليسد محمد حسين/ الميزان في تفسير القرآن ج15 ص239.
[7] سورة الفرقان الآية63.
[8] سورة الزخرف الآية89 .
[9] الآمدي التميمي: عبد الواحد/ غرر الحكم ودرر الكلم.
[10] الموسوي: الشريف الرضي/ نهج البلاغة/ الحكم 420.
[11] المجلسي: محمد باقر/ بحار الأنوار ج68 ص424.
[12] القرشي: باقر شريف/ حياة الإمام زين العابدين ج1 ص76-77 الطبعة الأولى 1988م دار الكتاب الإسلامي –قم.
[13] المجلسي: محمد باقر/ بحار الأنوار ج72 ص400.
[14] المصدر السابق ج68 ص419.
[15] المصدر السابق ج74 ص148.
[16] المجلسي: محمد باقر/ بحار الأنوار ج57 ص264.
[17] المصدر السابق ج74 ص149.
[18] المصدر السابق ص150.
[19] المصدر السابق ج71 ص393.
[20] الهندي: علي المتقي/كنز العمال ج3 ص9 حديث رقم 5173.
[21] الكليني: محمد بن يعقوب/ الأصول من الكافي ج2 ص301.
[22] المصدر السابق ص302.
[23] الحر العاملي: محمد بن الحسن/ تفصيل وسائل الشيعة ج12 ص204 حديث رقم16195.
[24] المصدر السابق/ حديث رقم16196.
[25] النوري: ميرزا حسين/ مستدرك الوسائل ج9 ص79 حديث رقم10261.
[26] المصدر السابق ص78 حديث رقم10259.
[27] الآمدي التميمي: عبد الواحد/ غرر الحكم ودرر الكلم.
[28] المصدر السابق.
[29] الكليني: محمد بن يعقوب/ الكافي ج2 ص300.
[30] المصدر السابق ص301.
[31] المجلسي: محمد باقر/ بحار الأنوار ج75 ص186.
[32] النوري: ميرزا حسين/ مستدرك الوسائل ج9 ص77 حديث رقم10254.
[33] المجلسي: محمد باقر/ بحار الأنوار ج72 ص211.
[34] المصدر السابق ص209.
[35] الموسوي: الشريف الرضي/ نهج البلاغة/ من غريب كلامه رقم3.
[36] الموسوي: الشريف الرضي/ نهج البلاغة- قصار الحكم298.
[37] الخوئي: ميرزا حبيب الله/ منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة ج21 ص389.
[38] الحراني: الحسن بن علي بن شعبه/ تحف العقول ج21 ص389.
[39] النوري: ميرزا حسين/ مستدرك الوسائل ج9 ص77.
[40] سورة الآنفال46.
[41] سورة البقرة الآية 36.
[42] النمر : اسعد/ في سيكولوجية العدوان - الطبعة الاولى 1995م المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع- بيروت.
[43] المجلسي: محمد باقر/ بحار الانوار ج74 ص164.
[44] الآمدي التميمي: عبد الواحد/ غرر الحكم.