تكريم الرواد مسؤولية المؤسسات والمجتمع

توقير الكبير سمة من سمات المجتمع الإنساني المتحضر، وتؤكد النصوص الشرعية على توقير الكبير سناً ومقاماً ضمن قيم ومبادئ الإسلام.

فهناك أحاديث وروايات كثيرة تحث على توقير ذي الشيبة المؤمن، كما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "من وقر ذا شيبة في الإسلام آمنه الله تعالى يوم الفزع الأكبر".

وورد في الحديث عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) أنه قال: "ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا".

وإلى جانبها روايات أخرى تحث على توقير الكبير مقاماً وشأناً ضمن قيم الإسلام ومبادئه، فإن صاحب التقوى وصاحب العمل الصالح، وصاحب العطاء كبير في مقامه، كما هو كبير عند الله سبحانه وتعالى، وينبغي أن يكون كبيراً في المجتمع. وهذا ما تؤكده آيات القرآن الكريم من آية، منها قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ﴾، (الناس)! من أي دين كانوا، ومن أي مذهب، ومن أي اتجاه، لا وذلك لعموم كلمة (الناس)، فكل إنسان ينبغي أن يُعترف له بدوره وكفاءته ومكانته. وقوله تعالى: ﴿أشياءهم﴾، تشمل الأشياء المادية، كما تشمل الملكات والكفاءات المعنوية، فمن كان يمتلك كفاءة علمية ينبغي أن لا يُبخس، وأن يُحترم مقامه، ويُعترف له بفضله.

وقال تعالى في آية أخرى: ﴿وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ وهي تدل على المعنى السابق.

فمن هذا المنطلق فإنني أحيّيي هذه المبادرة الطيبة بتكريم ثلة من رواد الخير والصلاح في هذه المدينة الطيبة صفوى. فإن هذه الثلة حينما تُكرم فإن التكريم ليس لذواتهم كأشخاص فقط وإنما هو تكريم للدور الذي قاموا به وأنجزوه في مجتمعهم.

تكريم الرواد

هذه الثلة الكريمة ثلاثة من الخطباء الواعظين الذين صرفوا حياتهم وبذلوا جهودهم في خدمة الدين والمجتمع.

ندرك قيمة هذه الخدمة عندما ننظر إلى المجتمع فيما سبق حيث لم يكن فيه مصادر للمعرفة والثقافة، فليست هناك وسائل إعلام منتشرة ومتوفرة، ولم تكن هناك منابع للمعرفة يستقي الناس منها معارفهم، أضف إلى ذلك أن أكثرية الناس من الأميين غير القادرين على القراءة ليحصلوا على الثقافة ذاتياً من خلال القراءة والاطلاع. فكان هؤلاء الخطباء الرواد وأمثالهم من أسلافهم الصالحين هم المصدر الوحيد لتوعية الناس، وتثقيفهم، وتوجيههم إلى الخير والصلاح. فتحت منابرهم كان الناس يتعلمون أمور الدين من عقائد وأحكام وأخلاق وتشريعات، فهم الذين حفظوا للناس دينهم، وهم الذين رعوا أجواء الصلاح والتدين في المجتمع.

فمجتمع صفوى مجتمع كبير، تجذّر في أعماقه الولاء الديني، والاهتمام به، لكن هذا الولاء بحاجة إلى تنمية و تفعيل في الحياة؛ فكان هؤلاء الخطباء المرشدون الأكارم يقومون بهذا الدور. ولم يقتصر دورهم على النشاط المنبري، بإلقاء الخطب والمواعظ، بل كانوا يتصدون لمختلف الأدوار الدينية والاجتماعية، فكانوا في مجتمعهم معالم لدين الله، ومحاور لالتقاء المجتمع على الخير والتقوى.

وما نراه اليوم من أجيال مؤمنة، وأعمال خيرة، وأنشطة طيبة إلا ثمرة لعطاء سنين وبذل سخي من قبلهم، فهذه الأرض الصالحة صنعها هؤلاء الرواد، ومن كان على شاكلتهم من الخطباء رحم الله الماضين منهم وحفظ الله الباقين. لذا فهم يستحقون التكريم، لأدوارهم وما قدموه من جهود.

وحينما نكرمهم إنما نكشف عن إدراكنا لأهمية الدور الذي كانوا يجسدونه ويقومون به. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يشكر سعيهم وأن يكتب لهم جزيل الأجر والثواب على ما بذلوه من جهد في خدمة الدين والمجتمع، ونسأل الله تعالى أن يطيل أعمارهم وأن يمتعهم بالصحة والعافية، ويمتعنا ويمتع المجتمع بوجودهم.

دور المؤسسات الاجتماعية

هناك مسألة أخرى أستوحيها من هذه المبادرة الطيبة وهي الدور الذي يمكن أن تقوم به مثل هذه المؤسسة في مجتمعنا.

سررت كثيراً حينما وجدت أن المبادرة تحصل ضمن إطار هذه المؤسسة (نادي الصفا)، فمبادرة لتكريم رواد العمل الديني والثقافي والاجتماعي، تنطلق من إطار نادي الصفا؛ تعكس الدور الحقيقي لمثل هذه المؤسسات. فإنا نعلم أن الأندية بشكل عام في مجتمعاتنا وإلى وقت قريب يُنظر إليها على أنها مجرد إطار للنشاط الرياضي، وملتقى للشباب ضمن مرحلة معينة من العمر للتسلية ومزاولة الرياضية البدنية لا غير، هذا فضلاً عن النظرة غير الإيجابية إلى النادي.

لكن هذه النظرة يجب أن تتغير.. وقد تغيرت بالفعل، وذلك لسببين:

السبب الأول: اتضحت أمامنا وأمام المجتمع أهمية مثل هذه المؤسسات، فأبناؤنا من الجيل الناشئ يحتاجون إلى مؤسسات تحتضنهم، وتستوعبهم، وإذا كان هناك نقص أو قصور أو تقصير في هذه المؤسسات فسينعكس ذلك على واقع الناشئة والشباب.

أين يذهب أبناؤنا؟!

أين يمضون أوقاتهم فيما ينفعهم خصوصاً في العطلة الصيفية؟ فهم أثناء الدراسة مشغولون بالمدارس، أما في العطلة الصيفية فهم يشعرون بفراغ يحتاج إلى برامج لملئه، وهذا يحتاج إلى مؤسسات تجعلهم يستفيدون من هذا الوقت.

وإذا لم تتوفر هذه البرامج أو لم تكن في المجتمع مؤسسات كافية ومناسبة، فإن هذا الفراغ سيكون سبباً لضرر كبير على الناشئة ومن ثم على المجتمع.

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): "إذا كان الشغل مجهدة، فإن الفراغ مفسدة" وخاصة في مرحلة الشباب، حيث يتفجر الشاب طاقة وقوة وعنفواناً، فهم بأمس الحاجة إلى قنوات مناسبة لتصريف هذه الطاقة، فإذا لم تكن القنوات المناسبة فسيكونون من نصيب الشوارع، وكلنا نعلم ماذا تُخَرِّج الشوارع! وأي نوع من الشباب تربي!، أو سيكونون فريسة لوسائل الإعلام، والقنوات الفضائية التي يتسمَّر أمامها الشباب مستلمي المشاعر والعقل طوال الليل، ووقتاً طويلاً من النهار.. يرى ويسمع ما فساده أكثر من صلاحه.

لاشك أن هناك برامج مفيدة على شبكة الإنترنت أو القنوات الفضائية، ولكن الشاب في مرحلة الشباب غالباً ما يختار البرامج حسب أحاسيسه وعواطفه وليس انطلاقاً من عقله ومن تفكيره المستقبلي.

وهذا ما يؤكد أهمية وجود مؤسسات تحتضن الشباب وتضع لهم البرامج المفيدة، ليصرفوا أوقات فراغهم في تنمية كفاءاتهم والاستفادة من طاقاتهم، كما تقوم هذا المؤسسات بتوجيههم التوجيه الصالح وفي هذا خير كثير لمجتمعاتنا.

تكاتف المجتمع والمؤسسة

من هنا يجب أن ندرك دور هذه الأندية، كما ينبغي أن ندعم هذا الدور. فالحكومات ترصد ميزانيات ضخمة للمؤسسات التي تستوعب الشباب، إلا أن مؤسساتنا الشبابية كالأندية وأمثالها بحاجة إلى دعم في ميزانياتها المادية من قبل المجتمع أيضاً. وقد رأينا العلماء -في بلدان أخرى مثل لبنان وسورية وإيران ومناطق مختلفة- يجيزون وينفقون جزءاً من الحقوق الشرعية في دعم هذه المؤسسات الشبابية.

ولِمَ لا؟!

أليس من مصارف الحقوق الشرعية (وفي سبيل اللَّه)، فسبيل الله يشمل كل ما ينفع الناس، وكل ما فيه خير لهم، وإذا كانت هناك مؤسسة تحتضن أبناء المجتمع وتوجههم فهي مصداق من أفضل المصاديق لهذا المصرف.

لذلك أدعو أبناء المجتمع للاهتمام بهذه المؤسسات وأن لا يعتبروا النادي خارج اهتمامهم، فليست الأماكن الدينية -كالمسجد- فقط وحدها مجالاً للإصلاح والتوجيه، وبوسعنا أن نحقق هذه الغايات من خلال المؤسسات الاجتماعية الأخرى، فإذا كانت هناك مؤسسات أخرى تقوم بنفس الدور فهي مؤسسات رديفة. يجب أن تتحول حسينياتنا إلى أندية وأنديتنا إلى مساجد وحسينيات، حينما يكون الهدف هدفاً واحدا مشتركاً.

لذلك أهيب برجال المجتمع من علماء ووجهاء ورجال أعمال أن يهتموا بدعم هذه المؤسسات الرياضية الاجتماعية الثقافية.

وإذا قرأ الإنسان عن مثل هذه المؤسسة (نادي الصفا)، أو اطلع على الكتاب التوثيقي الضخم الذي صدر حول مسيرة هذا النادي ووثّق لجهوده وعطائه للمجتمع فإنه يرى أن هذه المؤسسة يرجى منها خير كثير للمجتمع، لكن ذلك يتوقف على تفاعل أبناء المجتمع مع هذه المؤسسة، وعلى دخولهم في أجواء هذه المؤسسة.

السبب الثاني: المبادرات التي تقوم بها هذه المؤسسات:

فنادي الصفا له حضور فاعل في العديد من الأنشطة الاجتماعية، فمهرجان الزواج الجماعي في صفوى مثلاً يستفيد من النادي، إلى جانب حضوره الفاعل في أنشطة اجتماعية أخرى، وقد شاركت شخصياً في أكثر من مناسبة اجتماعية احتضنها هذا النادي، كما أننا نجتمع ضمن إطار هذه المؤسسة لنكرم ثلة من الخطباء والواعظين. وهذا يعني أن هذا النادي يمكنه أن يقوم بدور متعدد الأبعاد في هذا المجتمع إلى جانب الرياضة التي هي أحد أبعاده الثلاثة التي ينهض بها: رياضي اجتماعي ثقافي.

لذا يجب أن نفعل المفردات الأخرى، ولا نترك النشاط الرياضي وكأنه السمة الوحيدة لهذه الأندية، علما بأن النشاط الرياضي له أهمية أيضاً. فإن الشرع شجع على الرياضة، فحث على السباحة، وركوب الخيل، والرماية، وهذه كانت مفردات رياضية شائعة في ذلك العصر ومن نفس السياق ولنفس المناط كل ما يخدم هذا التوجه يكون مفيداً، وإذا كانت هناك إشكالات على بعض الممارسات أو بعض التصرفات فهذه يمكن تقويمها وتصحيحها من خلال التفاعل والتعاون.

إنني أشيد بهذه المبادرات الطيبة من قبل النادي وأدعو المجتمع للتفاعل أكثر مع هذه المؤسسة وخاصة مع وجود لجنة من رجالات المجتمع تشرف على النادي أو تتعاون مع النادي. نأمل أن يكون هذا التعاون سبب خير كثير للمجتمع وتفعيلاً لهذه المؤسسةـ وإيجاد شراكة بين هذه المؤسسة وسائر المؤسسات الدينية والاجتماعية إن شاء الله.

أهمية تكريم الرواد

بقي أن أشير إلى أن الرجال العاملين في المجتمع ينبغي أن يكرموا حتى يكون ذلك حافزاً لهم على المزيد من العطاء، وإن كان يُفترض في الإنسان المؤمن أنه يعمل من دون أن يتوقع من الناس في المقابل شكراً أو مدحاً كما يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا﴾ فالإنسان الواعي الذي يخدم مجتمعه إنما يخدم لأنه يدرك أهمية هذه الخدمة، ولأنه يبتغي ثواب الله سبحانه وتعالى، وبذلك لا يبالي أشكره الناس أم أساؤوا إليه.

ضريبة العمل الاجتماعي

ولن يسلم العاملون في المجتمع من إساءة، ولكن في بعض الأحيان يعمل الإنسان لخدمة مجتمعه فيُواجه بإساءة من قبل جاهلين أو مغرضين فإذا لم يكن إنساناً واعياً ومخلصاً تصبح تلك الإساءة سبباً لرد فعل في نفسه، فيتساءل: كيف أخدم المجتمع فأواجه بالإساءة؟!

وبقليل من التأمل يعلم أن الإساءة لن تصدر إلاّ من جاهل أو مغرض تمتد أياديه الخفية تريد تمزيق المجتمع، وإثارة الشائعات فيه، وإيقاف العاملين المخلصين في خدمة المجتمع بالإساءة إليهم.

والإنسان المخلص كلما واجه الإساءات ازداد صموداً وثباتاً وإصراراً على عطائه؛ لأنه إنما يعطي لوجه الله، ولأنه يدرك أهمية عطائه في مجتمعه.

هذا أولاً: لا يصح أن تسجل هذه الإساءات على المجتمع.

ثانياً: ينبغي للإنسان الواعي المخلص أن يعرف أن هناك من لا تعجبه مسيرة الإخلاص، ومن لا تعجبه أعمال الخير، لذلك فإنه سيحاول عرقلتها، فكم من الاتهامات تعرض لها الأنبياء والأئمة والأولياء والمصلحون طوال التاريخ، ولن تجد حياة مصلح واحد خالية من الاتهامات والإساءات، إلاّ أنهم لم يستسلموا لها، لأن ابتلائهم بها سبب من أسباب الأجر والثواب.

ويأتي تكريم الرواد والعاملين في المجتمع ليكون وقفة وفاء ولمسة عرفان وتقدير لعطائهم.

ونرجو أن تعمم هذه الظاهرة، فيكرم الرواد في مختلف المجالات.. المتفوقون في دراساتهم الأكاديمية ينبغي أن يكرموا، والمتفوقون في أعمالهم الخيرية، والمتفوقون في نشاطهم الاجتماعي. يجب أن نتعود على تكريم من يستحق التكريم مصداقاً للحديث الشريف: "ليس منا من لم يوقر كبيرنا" الكبير في السن والمقام والشأن.

وقوله (عليه السلام) (ليس منا) يعني ليس ممن تشرب بالدين، أو ليس ممن تتلمذ على أيدي الأئمة الطاهرين.. إذن ليس منهم من لا يكرم الكبار، ومن لا يرحم الصغار.

وفي الختام أكرر شكري للجنة التي تبنت هذه المبادرة ولنادي الصفا وإدارته الطيبة ولأبناء المجتمع في صفوى على مبادرتهم الجميلة في تكريم هذه الثلة الطيبة.

العدد (25) الربع الثاني 2002